الأغنية "الوطنية" و"السياسية" وما بينهما "الثورية"و"الملتزمة"
حين كان الكاتب والمفكر اللبناني حازم صاغيّة يتحدث معي، من لندن عبر الهاتف العام 2003، كي ينهي فصلا متعلقا بالموسيقى والثقافة في كتابه عن عراق صدام حسين، ذكرت له كيف قامت الدولة بـ"تأميم الحناجر الغنائية"، أي ربط الموسيقى والغناء بعجلة نظام الحكم، وجعل المشاعر التي تنتجها الأنغام ملكا للدولة. وهتف صاغيّة من بعيد مرتاحا للوصف، وهو كذلك فعلا حين أستعيده هنا، فماذا تعنيه أغنية "وطنية" و"سياسية" في منظومات الثقافة التي ينتجها نظام معين، وماذا تعنيه أكثر اذا كان النظام "ثوريا"؟ ليس جديدا إرتباط الغناء باغراض الحماسة، والحضّ على الدفاع عن الأوطان، بل ان مراجعة سريعة حتى لعيون الموسيقى "الكلاسيكية" تضعنا حيال لائحة من أعمال قصدها أصحابها ان تكون "وطنية" تثير حماسة المقاتلين، خذ إفتتاحية 1812 لتشايكوفسكي (في التعبير عن محاولة الغزو الفرنسية الفاشلة لروسيا) مثلا، أو سيمفونية بيتهوفن الثالثة: "البطولة"، بل خذ أغنيات المقاومين اليساريين الإسبان، ولاحقا الفرنسيين، وخذ بعض أغنيات المقاومة الفلسطينية وقليلا من أناشيدها، لكن اذا كان الأغنيات والألحان "الوطنية" و"القومية" من نتاج الإنظمة العربية فانك إن استعدتها، فانما تستعيد مرحلة إندحار العقل العربي والإنساني الى فجاجة كالتي تعنيها "مسرحية" تصوير الهزيمة المجردة على انها صمود وتصد يقاربان النصر، إن لم يكوناه أصلا، وإنتظام أهل الطرب والألحان في الجزء المتعلق بهم في المسرحية، اي أعلاء الصوت عن المجد والشرف العالي والبطولة، وباقي الأرشيف "الوطني" الحماسي لإنظمة الثورات الجمهورية العربية. وطبقا لمبدأ "القاعدة والإستثناء"، فان ما شّذ عن "رطانة" الأغنية "الوطنية" و"السياسية" العربية، كان في البناء الموسيقي الرصين لأعمال غنائية مصرية ولبنانية غالبا، مما وفّر لتلك الأعمال التي استثمرت نفوذ أصحابها: أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، فيروز و الرحابنة بضمنهم زياد، ان تصبح "ذاكرة وطنية" لكنها لم تمنع الذاكرة من ان تتكشف أيضا على فواجع وحقائق مرة، على الرغم من انها إرتبطت بما أعتبر واجبا مقدسا: الدفاع عن الوطن ووجوده. ما بعد الأغنية "الوطنية" (1948-1967) جاءت مرحلة الأغنية "السياسية" أو "الثورية" أو "الملتزمة" ، وهي مرحلة صعود التيارات اليسارية والقومية ونشاطها الذي أعتبر ردا على هزيمة 5 حزيران 1967، و "الأغنية الملتزمة " أصبحت، بحكم الإعتياد في التداول الثقافي العربي، تعني التزام أصحابها بنهج أحزاب يسارية وثورية، أكثر ما تعنيه إلتزام "نهج فني ثوري" يخرج على "ثقافة الهزيمة"، وبذلك تحول"الفن الملتزم" مؤشرا للصلة بالحزب اليساري أو الحركة الثورية، وليس "الثورة" في مراجعات لمضامين النص الشعري أو الموسيقي وشكل الأداء الفني. وما إن دخل "الغناء الملتزم" في باحة العمل السياسي اليساري والثوري، حتى أصبح نتاجه الفني"منطقة مقدسة" يحرسها أشباه المثقفين من كتاب وإعلاميي الأحزاب اليسارية والجماعات الثورية، مما أرهب النقد الفني والموسيقي كي لايحاول مراجعة البناء الفني المهلهل لذلك النتاج، وهو إن فعل فثمة القاموس حاضر ومفردات الإتهام فاعلة فيه وجاهزة: يميني، رجعي، ومتخلف. ان نهجا كهذا (الوصاية الحزبية) يمكن تلمسه في تجربة الغناء "الملتزم" في العراق، لبنان، مصر، فلسطين، والمغرب العربي، وهو ما كان سببا جوهريا أتى على تجربة "الأغنية الملتزمة" وأحالها من فكرة التعبير الحر خارج النظام الرسمي الثقافي، الى مجرد نظام دعائي ملحق باتجاهات حزبية وآيديولوجية.
فيكتور جارا والشيخ إمام وحلم عراقي صريع يلفت الباحث والفنان الموسيقي العراقي حميد البصري في باب الإستعادة التاريخية للأغنية السياسية وانتشارها عراقيا وعربيا، الى أن "مفردة الأغنية السياسية انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين مرتبطة بالأغنية الرافضة، الأغنية الملتزمة بالجماهير، الأغنية التي تدعو الى التغيير، الأغنية التقدمية، رغم أن أية أغنية هي سياسية بامتياز لارتباطها بمفهوم معين من الحياة"، وفي حين تبدو تعبيرات مثل" ملتزمة بالجماهير" و "تدعو الى التغيير" أو "كل أغنية هي سياسية بإمتياز" بحاجة الى مناقشة عميقة لنقلها من مجال "فضفاض" كالتي هي عليه الى تعبيرات بدلالات محددة، الا ان اللافت في حديث الأستاذ البصري هو ربطه إنتشار الأغنية السياسية بروح التضامن التي سادت اليسار العالمي ومنه العربي مع تجربة شيلي وتحديدا ما بعد إعدام سلطات الإنقلاب العسكري أيلول 1973 للمغني فيكتور جارا، فيقول "إنتشرت فكرة الأغنية السياسية في الوطن العربي بشكل واسع مع شهرة المغني الشيلي فيكتور جارا خاصة بعد أن أقدمت السلطة الدكتاتورية في شيلي على قطع أصابع يده في احدى الساحات أمام الجماهير، لكي لا يتمكن من العزف، مما حدا بفكتور جارا الى الغناء بدون آلة موسيقية، فرددت الجماهير معه أغنيته وطار عقل الجلادين من ذلك الموقف فقتلوا فكتور جارا" .
علي عبد الامير مع الملحن والمؤلف الموسيقي والباحث حميد البصري بدار الاوبرا المصرية
ويؤسس البصري على هذا الحادث ويعتبره "أحد الحوافز الذي أدى الى ظهور الأغنية السياسية على مستوى الوطن العربي، ففي مصربدأت أغاني الشيخ امام والشاعراحمد فؤاد نجم بالانتشار بشكل واسع"، فيما المراجعة التاريخية لظاهرة "الشيخ إمام" تكشف انها ظاهرة انتجتها نقمة فكرية وشعبية "سرية" على الإغلب، على نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إثر هزيمته في 1967، أي قبل قصة المغني الشيلي بما فيها من "إحالات يسارية"، وعدم بلوغ "ظاهرة الشيخ إمام" مرحلة العلن كان عائدا الى ولاء شبه مضمون اليساريين العرب لعبد الناصر ونظامه، وجاء موته ومن ثم تولي "اليميني" أنور السادات السلطة في مصر وإفتراقه عن الإتحاد السوفياتي سببا كافيا لليساريين العرب في الحديث عن الثنائي: الشيخ إمام- أحمد فؤاد نجم الذي، وكما سنتابع لاحقا، كان بدأ "الثورية" خارج أي معيار سياسي أو آيديولجي محدد، ولم يتردد بتوجيه النقد الى "مقدّس" إسمه عبد الناصر. ان تجربة الثنائي : الشاعر أحمد فؤاد فؤاد نجم والمطرب الشيخ إمام تبلورت عقب هزيمة حزيران 1967، وهما استقبلاها بهجاء يقطّرسخرية مريرة، عبر أغنيات قدمتهما ثنائيا غنائيا نقل الأغنية السياسية العربية من المستوى الحماسي الفج الى المستوى النقدي الحافل بالإلتقاطات الإنسانية كما في: "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يامحلا رجعة ضباطنا .. من خط النار هتقولي (سينا) وما سيناش .. ماتدوشناشي ما ستميت أتوبيس ماشي .. شايلين أنفار إيه يعني لما يموت مليون .. أو كل الكون العمر أصلا مش مضمون .. والناس أعمار إيه يعني في العقبة جرينا .. ولا في سينا هي الهزيمة تنسينا .. إننا أحرار" فبوجود الشيخ إمام، إكتسبت "مغامرة" إدخال المضامين النقدية الاجتماعية الى الاغنية العربية الشعبية، كثيرا من عناصرها الفاعلة، فمن ينسى تلك الأجواء المماحكة لحيادية الأغنية وصفتها في "السلطنة" والمتعة، تلك التي أثارتها تجربة المغني الضرير الشيخ إمام حين طلعت من أجواء "الرفض والمقاومة" التي تلت هزيمة حزيران 1967؟ هي روح لحنية لا تخرج عن القالب الشرقي والشعبي، وشعرية ناقدة إعتمدت التحريض ضد المهانة والمخاوف التي تعرض ويتعرض لها الإنسان العربي والمصري بالإخص، كان يصوغها بقصائده الشاعر أحمد فؤاد نجم. تلك ملامح تجربة الشيخ الذي نقل صوته وألحانه من القالب التقليدي حيث غناء المسرات الليلية الخاصة، وتلك الموشحة بشيء من القالب الديني الذي عرفته قبل ذلك الأدوار وغناء السيرة للابطال الشعبيين، الى قالب مغاير قائم على إنفتاح ومعايشة للوقائع المتسارعة التي كانت هدفها تغيير الحياة والمفاهيم بقوة وعنت. نقد موجع لمسيرة التراجع التي عاشتها "حركة التحرر العربي"، فمن شعارات تحرير الانسان الى الإنفتاح على الغرب "الإمبريالي"، من جيفارا وأحلام الثورة والتغيير الى ثورة أصحاب الكلام "الكلمنجية" أو "الثوري النوري الكلمنجي" كما تقول إحدى أغنيات تلك التجربة. هذه الأجواء قادت مجموعة كبيرة من الطلبة والنخبة الثقافية والمهمشين في المجتمعات العربية كالعراق ، فلسطين، ،المغرب ،الجزائر وتونس، والاردن وسوريا الى الإنتباه الى تجربة الشيخ إمام- احمد فؤاد نجم قبل أن تجد مداها في مصر، وفيها وجدت تلك المجموعات تعبيرات موجزة وقريبة للنفس، والمدارك، كانت إشارات عميقة توجز رحلة دراماتيكية عاشها المثقف العربي، من أحلام الثورة الى كوابيس واقع مهزوم حد النخاع، من الهتاف الحماسي لـ" الثورة" الى الموقف المتردد والسؤال الذي يحاصره: ما الأساسي: بناء المجتمع وفق مفاهيم التنمية الخمسية والتخطيط الشامل أم بناء مؤسسات تحترم الانسان وتعزز حريته؟ وبموت الشيخ إمام خسر فصل إدخال المحمولات الاجتماعية والروح التحريضية الى الأغنية العربية، خسر جانبا مهما من حيويته، صحيح ان الملامح التهكمية والنقد الاجتماعي حاضر في ثنايا أعمال زياد رحباني التي لطالما عنت بالتعبير الاجتماعي في الأغنية ونقله نحو ملامح معاصرة، لكن تجربة الشيخ إمام عيسى (78 عاماً) ظلت إبنة ملامحها المميزة ، فهي بسخريتها وتهكمها، إبتسامة سوداء في وجه تلك الأيام المتفجرة وخضم التساؤلات المنقذف منها، أيام هزيمة المشروع العربي التي قادت الى معايشة وقائع لاحقا ما انفكت تتصل مع تلك الأيام ، بل وتشبهها!
وفي ما خص حال "الأغنية السياسية" عراقيا، فاننا نستعيد ما كتبه حميد البصري أيضا: " من فناني الأغنية السياسية في العراق: حميد البصري، شوقية العطار، جعفر حسن، طالب غالي، سامي كمال، كمال السيد، فؤاد سالم، طارق الشبلي. ومن الفرق "جماعة تموز للأغنية الجديدة" التي تحول إسمها بعدئذ الى "فرقة الطريق" و "فرقة الشموع" التي ضمت عددا من الطلبة العراقيين في موسكو". هنا يختار البصري، إنتماء آيديولوجيا "شيوعيا" لتحديد "الأغنية السياسية"، وهو قد يكون سهوا أغفل ذكر الملحن كوكب حمزة، الذي صاغ "بعيدا عن التأطير الفكري الحزبي، مع انه إبن الحزب الشيوعي العراقي" أجمل ما يمكن ان تحفظه ذاكرة الأغنية العراقية المعاصرة لجهة "البناء الإجتماعي والفكري" العميق والمبثوث بلا تعسف في بناء موسيقي من النادر تكراره: عميقا يتصل بالموروث، وبقوة هاجس إنساني يسعى الى حداثة حقيقية، وهو في حقيقته ترجمة عميقة لفكرة "الثورية" في الفن. وهذا الإفتراق بين تجربة موسيقية كالتي يتوافر عليه صاحب أغنية "هوى الناس" و"صار العمر محطات" وبين إنتظام في عمل غنائي عماده انتماء فكري وحزبي كالذي يؤرخ له الإستاذ البصري، هو الفارق مابين أغنيات "سياسية" من نوع " شيلي (جهورية شيلي) تمر بالليل نجمة بسمانا" إبنة وقتها السياسي المرحلي لجهة التضامن مع تجربة يسارية في آخر المعمورة! وأغنية "وطنية" تقارب في جمالها أي نشيد وطني محترم، صاغها الموسيقي العراقي العبقري الراحل أحمد الخليل عبر عمله الخالد "يا موطني". والإشارة هنا الى "أغنية سياسية" يحرسها ولاء آيديولوجي حزبي غالبا ما يكون حماسيا ومرحليا وعابرا وقابلا للتغير، ونقيضها أغنية تنتمي الى العميق في فكرة الوطن وإنسانه: كادت تودي بي لكنني لم أتردد عن قولها، ولاحقا كتابتها في مقالة نشرتها في صحيفة رسمية ببغداد، وهي ملاحظات نقدية على إتجاهات كانت ميزت "مهرجان أم المعارك الأول للأغنية في العام 1992" وندوة أعقبت المهرجان، ولولا أريحية مدير الندوة الموسيقي فاروق هلال لكنت في خبر كان، منذ ذلك اليوم البغدادي البارد. وتحت عنوان "على هامش مهرجان أم المعارك للاغنية.. أي فن موسيقي وأي التزام؟ كتبت "التظاهرة الموسيقية – الغنائية، أوجدت في ظرفيتها كحدث تضامني ساخن، مناسبة للحديث مجددا في هذا الموضوع، فالمداخلات تعرضت لتعريفات مرتبكة وسريعة، واصفة العنوان" الإلتزام" بمواكبة الأحداث المصيرية أحيانا، والتعبير عن عمق التغيير الإجتماعي تارة أخرى، لا جديد في إستذكار أصحاب المداخلات لمتاعب " الفنان الملتزم " في البلدان العربية، وما يعانيه خاصة من الأجهزة الثقافية في بلده، الذي من المفترض أن يكون عونا له، فهي "تستخدمه"حسب ضروراته العاجلة، وتهمله طوال الوقت المحصور بين "إستنفار" ثقافي وآخر! لم يعن المتحدثون – موسيقيون ومغنون – ببحث الجانب "الفني" في الغناء الذي يريدون له أن يكون "غناء مختلفا" غير السائد والشائع، كذلك لم يجهد الحضور أصحاب الشأن أنفسهم في إقرار صيغة عملية ممكنة لإبقاء الكلام نافذة الى فعل قادم. أن جل إسباب ضعف الإتصال عند التجارب الموسيقية الملتزمة وفشل أغلبها، يعود الى ضعف البناء الفني في عملها الموسيقي، وإعتمادها بالأساس على النوايا الطيبة وإحتفالها المبالغ به بالموضوعة حد الوصول بها الى المباشرة الفجة، والتي لاحقا – وكم حصل هذا – تسيء الى المعاني التي تحملها الأحداث الساخنة والتي تفجرت عنها. علينا بفن موسيقي وغناء جيد البناء، ويخاطب المتلقي إعتمادا على كونه موسيقي أولا، وقادر على تغيير الذائقة السائدة عند جمهرة المتلقين وتدعيم الجوانب الإنسانية وعاطفتها السامية، بكل هذا وحده نستطيع ان نقول إننا "إلتزمنا" بحق، وقدمنا دورا مؤثرا عبر موسيقانا وأغنياتنا. المفاجأة الثقيلة التي حملتها كلماتي لضيوف "مهرجان أم المعارك" من موسيقيين ومغنين عرب، إكتملت حين حملت بقوة على اعضاء فريق غنائي تونسي، كانوا يدعون الى أن "تواصل بغداد صمودها وحربها المناهضة للأمبريالية"، فقلت لهم" من قال لكم ان العراقيين يريدون استمرار الحرب؟ من قال لكم ان العراقي العادي لاينهض الى صباحه وأيامه إلا على وقع الأناشيد الحماسية.. انه يريد أن يتسعيد حياته الإنسانية الطبيعية، ومن ملامح حياته تلك: أغنيات فيروز في الصباح، انها تجعله مقبلا على حياته وتحضّ على قيم الخير فيها"، وهنا تدخل الفنان فاروق هلال ولاحقا الفنان الصديق نصير شمّة كي "يخففا" من نبرة في حديثي بدت إتجاها معارضا لحماسة أرادها "مهرجان أم المعارك"، و"تضامن" من فنانين عرب كنت أعتبرهم قد وجدوا في حروب العراق متنفسا لخيباتهم الفكرية والشخصية في بلدانهم، عدا مشاعر تقدير شخصي كان يستحقها بقوة عمل جميل بعنوان هو "العراق" للفنان وضّاح زقطان. الإشارة الى المهرجان إياه، قصدت منها هنا، ان كثيرا مما وصف بالغناء "الملتزم" لم يكن يعنى بجنسه الفني: الموسيقى، لذا كان مصابا على الأغلب بفقر دم واضح، ناهيك عن طابعه الظرفي و"المناسباتي"، وإعتماده التهييج العاطفي للحماسة "الوطنية"، وهو ما يتعارض مع جوهر العمل الفني القائم على إحداث تغيير عميق في المتلقي، واذا كانت إشارتي الى حاجة العراقي الخارج من مطحنة حرب العام 1991 للإمل ورمزت الى ذلك باغنيات فيروز، لا الى الحماسة التي تثيرها "الأغنيات السياسية"، كانت تتضمن نقدا للإطار الفكري الذي انتظمت فيها الإعمال "التضامنية"، فانها كانت تنطلق من قياس فني يرى الى الإغنيات "الوطنية" التي أبدعها عاصي ومنصورالرحباني لصوت فيروز بوصفها إرتقاء بالأغنية السياسية من مستوى اللحظة السياسية العابرة الى آفاق وجدانية واسعة، بل ان كثيرا من ذلك الإرث نستعيده بصفاء نادر اليوم، مثلما نستعيد أغنية عاطفية خالدة، كما ان لبنان وفلسطين والشام ودولا عربية كثيرة حين تحاول التثبت من حضورها "الوطني" وجدانيا، فهي تجد في ما غنته فيروز لها ذخيرة حاضرة. كل هذا التأثير العميق لحضور يليق بفكرة الوطن، لم يقل عنه الرحابنة ولا فيروز انه "غناء وطني"، ولم نسمع منهم انه "غناء ملتزم"، انه غناء وحسب، ولكنه يحترم شروطه الفنية، ويعنى بفكرة التعبير الراقي عن المشاعر أولا وأخيرا. ثم أي معنى هذا التي تعنيه مفردة "إلتزام"؟ فاذا كان اليساريون والثوريون يرون في الغناء "الملتزم"، "إلتزاما بنهجهم الفكري وخدمة لقضيتهم"، فان ذلك أوقعهم وأوقعنا في مأزق تأتى من وصف مماثل وإن جاء من نقيضهم الفكري: الإسلام السياسي المتشدد، فالحركات الإصولية تنتج أعمالا"غنائية" هي في حقيقتها أناشيد "ملتزمة"، صحيح انهما تياران مختلفان لجهة الإلتزام، ولكنهما تحت ذريعة واحدة ينتجان عملا واحدا: غناء ملتزم!
مديح الأبطال والأفكار .."مقتل" الغناء الوطني والثوري في إستثناءات نادرة، كانت تتوافر لموجات "الغناء الوطني، الثوري، والملتزم" مواهب موسيقية حقيقية، مما كان يقرّب الأعمال الغنائية" السياسية" من جوهر فني مؤثر، ومراجعة لموروث عبد الوهاب اللحني، وعبد الحليم حافظ الغنائي وبعض مما غنته أم كلثوم، ونجاة الصغيرة، وشادية عربيا توفر مادة مناسبة لغناء يبلغ مديات الجمال والتأثير عن فترة صعود الأحلام "الثورية" خلال المرحلة الناصرية، ولكن إندراج اعمال كثيرة أيضا من نتاج المرحلة ذاتها في مديح عبد الناصر بطلا قوميا، وإعلاء "الجماهير" فكرة ثورية، شكل "مقتل" تلك الأعمال حتى مع عناصر جودتها الفنية. إنها الحال ذاتها في العراق، أثناء الحرب مع إيران، فقد تصدى ملحنون كبار كطالب القرغولي وجعفر الخفاف لانتاج غنائي كان يصب في جوهر العمل الموسيقي، لكن تمجيده فكرة الحرب، واعلاءها صدام حسين بطلا لايجارى، مع وجود استثناءات نادرة، أحال تلك الإعمال التي صاغتها حناجر معظم المطربين العراقيين فضلا عن عرب: وردة، نجاح سلام، سميرة سعيد ووديع الصافي، الى "مقتل" الغناء "السياسي والثوري"، أي مديح الأفكار والزعماء "الإبطال"، وهو ليس "مقتل" الغناء الوطني في مصر الناصرية وعراق صدام حسين فحسب، بل هو "مقتل" الغناء "الثوري" في عراق "الجبهة الوطنية" في سبعينيات القرن الماضي والإنفتاح السياسي على الشيوعيين، فهو غناء يمجد فكرة محددة: التفسير الشيوعي واليساري للوضع الإنساني، ويمجد قادة وزعماء، أي انه كما في غناء وطني كثير، يمجد نمطا فكريا يحتكر الحقيقة أو يسعى الى ذلك، وهو جوهر يعارض اي قيمة حقيقية للفن، بوصفه بحثا عن حرية لعقل الإنسان وعواطفه. إن تصوير المشتغلين في مجال العمل الفني "الملتزم" و"الأغنية السياسية" وكأنهم كانوا لوحدهم خارج مدارات العمل الفكري الحر، لهو خطأ فادح، فما أنفكت الثقافة العربية تعميقا لأزمة حرية، فالشاعر الغنائي والملحن والمطرب ليسوا أحرارا، مثلما هو الجمهورليس حرا، وإفتقاد الحرية هذا يورث التكرار والعودة الى النمطية لأشكال من نتاج إنساني، هو الفن الذي بدا قرينا بأعقد المهمات الإنسانية: تجديد الوجدان والذاكرة والعقل. وللامانة فان بعض نتاج الغناء "الثوري" العراقي واللبناني والفسلطيني والسوري، وصل الى إعلاء قيم الحرية بعيدا عن ثنائية: إحتلال-إستقلال بل في دعوته الى حرية الإنسان واحترام وجوده، وفي ذلك صون للأوطان وحفظ لكرامتها.
*جزء من كتاب قيد الطبع بعنوان "في سوسيولوجيا الاغنية" |