كتب: علي عبد الامير
مائة عام مرت على كتاب "تحرير المرأة" لقاسم امين، واذا كانت القاهرة قد نظمت ندوة فكرية عن هذا الحدث، فان مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الثامن الذي شهدته دار الاوبرا المصرية قد ترجم دعوة المفكر امين، وحاول اظهار المكان الفسيح الذي تحتله المرأة العربية في موسيقانا، وهذه لمسة ذكية وفاعلة تحسب لمقررة وامينة المهرجان الفنانة القديرة الدكتورة رتيبة الحفني.
وشهد المهرجان مشاركة نشطة لعدد من الفرق النسائية الموسيقية، فهناك فرقة من الجزائر وفرقة من المغرب بالاضافة الى "فرقة بنات النيل" وفرقة "بنات النور والامل" والفرقة النسوية التابعة لاكاديمية الفنون.
مسابقة النساء العازفات
وتعمقت المشاركة (النسوية) في المهرجان، حين جاءت مسابقته السنوية لتكون مخصصة للنساء العازفات، وساقرت نتائجها عن فوز كل من العازفة على الناي وفاء سفر (سوريا) والعازفة على الكمان باسنت سمير (مصر) مناصفة بالجائزة الثالثة، فيما تناصفت العازفتان: يسرى الذهبي على العود (تونس) والعازفة على العود انغام لبيب (مصر) الجائزة الثانية وذهبت الجائزة الاولى الى عازفة القانون امل جمال الدين (مصر).
واظهرت المنافسة بين العازفات المشتركات في المسابقة اساليب مختلفة تعكس مشارب ومفاهيم متعددة في التعامل مع الموسيقى العربية وطرق التعبير عنها بالعزف، فمن المقاربة التي تعكس حذراً لا يخلو من صورة الارتباك والخجل الانثوي وصولاً الى الرصانة الاكاديمية والانتماء التام للقوالب الموسيقية مروراً باسلوب العزف القائم على ترك البصمات الشخصية الدالة على روحية العازفة وفهماً للمقطوعة المدوسيقة، وهو ما اكدته عازفة العود التونسية يسرى الذهبي.
عزفت يسرى مجموعة من المقطوعات امام لجنة التحكيم التي تشكلت برئاسة الدكتورة ايزيس فتح الله (مصر) وعضوية د. صالح المهدي (تونس) ود. كفاح فاخوري (الاردن) ويبدو ان حرص اللجنة على ان تكون العازفة امينة للقوالب وبعيدة عن اظهار الجانب الفردي في شخصيتها، هو الذي جعلها تميل في ترجيحاتها لصالح عازفة القانون امل جمال الدين للفوز بالجائزة الاولى فيما حرمت العازفة التونسية يسرى الذهبي منها، لكونها كانت تعزف بطريقة تضخع فيها المقطوعات لرؤية جمالية شخصية، فتجتهد وتخرج احياناً عن النوتة الاصلية، وهي حين اكبرت جانب روحية العزف وجماليته على القالب، كاتنت تضع عينها على حلاوة الموسيقى واثرها الروحي ولم تضعها على الموسيقى بوصفها قوالب لايمكن الخروج عليها.
المطربة انغام: رهافة صوت العاشقة قدمت المطربة انغام، مجموعة من اغنياتها الخاصة التي تعكس رهافة صوت المرأة العاشقة، كذلك قمت مقطعاً من اغنية "فكروني" للراحلة ام كلثوم وجعلتها اغنية اقرب الى شكل ادائها الشخصي وبعيدة في الوقت ذاته عن النمط الكلثومي، ومن ام كلثوم انتقلت الى غناء اغنية "مضناك جفاه مرقده" لعبد الوهاب، لتغنيها بطريقة مرهفة، بدت مناسبة طبيعة اللحن الانسياب، وغنت انغام مجموعة من الاغنيات الخاصة بها، قصدت منها توجيه التحية الى فرقتها التي وجدت في رحابها الاطلالات الاولى لها على الغناء، وهي "فرقة ام كلثوم" فكانت هناك اغنية من شعر زميلها في الفرقة محمد شبانة ولحن زميلها الاخر امير عبدالمجيد الذي دخل عالم التلحين بقوة ورصانة منذ فترة ليست بالقليلة كما اصبح يقود فرقة موسيقية خاصة.
كريمة الصقلي: صوت اسمهان الملائكي وخصص المهرجان فقرة غنائية خاصة لصاحبة الصوت الملائكي اسمهان او (امال فهد الاطرش) شقيقة الفنان الكبير فريد الاطرس، وانشدت المغنية ريم كمال من مصر مجموعة من اغنيات اسمهان، فحاولت ان تضفي من عندها قالباً خاصاً على اغنيات مثل "يابدع الورد" و "ياحبيبي تعالى" و"ياطيور" بلحنها التعبيري الاخاذ.
علي عبد الأمير وكريمة الصقلي في مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة
واضفت المطربة المتمكنة كريمة الصقلي (المغرب) لمسة خاصة على الفقرة الغنائية لاسمهان، نابعة من موهبتها الصوتية ورهافتها في الاداء، فهي حين غنت "امتي حاتعرف" و"اسقينيها" ثم "ليالي الانس" لم تقارب الجو الاسمهاني حسب، بل احاطته بروحيتها في الغناء، لاسيما انها تتوفر على جانب ما يزال يرى في الغناء، هواية واطلالة روحية صرفة على الحياة، وكريمة الصقلي طافت بين جوانب حميمة من مشاعر العاطفة التي فعلت بها الاغنيات، فهي بدت مأسورة بالعتاب والشوق والندم في "امتى حاتعرف" وانسانة مفكرة بعمق ولكن بشجن شخصي كما في "اسقينيها" وصولاً الى حالة النشوة والبهجة في "ليالي الانس" التي اعادت غناءها مرة اخرى تحت الحاح الجمهور الذي يصفق لها كثيرا.
ومع المطربة أجفان الامير احدى عضوات (فرقة ام كلثوم) امكن اكتشاف وجه آخر لاسمهان، بعيد بعض الشيء عن الوجه الذي حددته اغنياتها وصوتها، فالمطربة المصرية الشابة كانت تغني اسمهانها الخاصة التي تشبهها صوتياً وروحياً، ولم تغن تقليداً للاصل، وهو ما ظهر في اغنيات "نويت اداري" و"اهوى" و"فرق ما بينا ليه الزمان".
امال ماهر تغني ام كلثوم باقتدار وفي الليلة ذاتها التي تم فيها تخصيص فقرة لاغنيات اسمهان، كانت هناك فقرة كلثومية ايضاً برزت فيها المغنية الشابة وابنة الرابعة عشرة آمال ماهر التي غنت بطريقة تذكر بقدرات ام كلثوم الصوتية.
فهي صاحبة خامة صوتية عريضة، وتتلاعب بطبقات الصوت بمهارة لافتة، ولكنها في الوقت ذاته تؤدي بلهفة وانفعال لفرطهما يقودان المطربة الشابة الى استعجال الوصول الى اعجاب الجمهور، وهذا مؤشر خطير له فعل عكسي على موهبتها، فهي بذلك ستغيب كلمسة شخصية تدل عليها، فغناؤها لام كلثوم لا يمكن ان يكون منها مطربة ذات شأن، لكنها مع ذلك تذكرنا بامكانية وجود صوت نسوي عربي كبير في المستقبل.
المطربة آمال ماهر (كاميرا علي عبد الأمير)
ومثل هذا الانطباع رسخته آمال ماهر حين قدمت في ليلة ختام المهرجان "الثلاثية المقدسة" كاملة والتي غنتها ام كلثوم عبر عمل موسيقي رصين وضعه الموسيقار الكبير رياض السنباطي، واعتبر اداؤها، مفاجأة كبيرة لمهرجان الموسيقى العربية في دورته الثامنة.
تكريم الموسيقيات والمغنيات الرائدات واعترافاً بجميل دورهن، وريادتهن في الموسيقى العربية، قدمت دورع التكريم والتقدير للموسيقيات والمغنيات الرائدات، الفنانة فايدة كامل التي تركت الغناء لتنتقل معاركها الى السياسة وتحت قبة البرلمان حين انتخبت عضوة في مجلس الشعب لسنوات طويلة، والفنانة سعاد مكاوي التي بدأت في الغناء بمسرحيات على الكسار ولاحقاً عملت في الاذاعة والسينما، والفنانة سميحة القرشي المطربة وعازفة القانون.
وللحضور النسوي في مهرجان الموسيقى العربية صور واشكال اخرى فثمة الباحثات في اكثر من مجال موسيقي، وهو ما ظهر في محاور المؤتمر العلمي وندواته، اكان ذلك في موضوع الموسيقى الصوفية او موضوع اغنية الطفل.
*متابعة نشرت في صحيفة " الرأي" 19/11/1999 ولاحقا بطريقة موسعة في مجلة " الموسيقى العربية".
|