حوراني في عمّان
احيا عازف البيانو اللبناني الاصل وليد حوراني امسية في عمان (آيار 1996) قدم خلالها مقطوعات موسيقية كتبها مؤلفون كبار، الى جانب مقطوعة كتبها بنفسه.
والفنان وليد حوراني، ولد في الولايات المتحدة، ونشأ في بيروت، وبرزت موهبته هناك، وصادف ان التقطها الموسيقار الارمني الكبير (آرام خاتشودوريان) ورشحه لبعثة دراسية في معهد موسيقي بموسكو، وبعد تخرجه، واصل دراسته في معهد تشايكوفسكي وتخصص بعد سبع سنوات في العزف على البيانو وتحت اشراف مباشر من العازفين ياك واميل جيليلس.
عزف حوراني مقطوعة من يوهان سباستيان باخ (1685-1750) حملت عنوان "الشياه ترعى بأمان" وتضمنت مزاوجة ما بين فترتين ميزتا نتاج باخ، حيث بقايا (الباروك) وشيء جديد في وقته وهو (الكلاسيكية) فيما برزت مواصفات طريقة واسلوب وليد حوراني في العزف اثناء عزفه لمجموعة مقطوعات كتبها فردريك شوبان (1810-1849)، فكانت هناك الحساسية العالية في فهم العمل الموسيقي، وبما يمكن اعتباره اعادة قراءة وفهم شخصي لجوانب العمل، ومن تلك الاعمال التي قدمها حوراني كانت الفالسات التي كتبها وعرف بها شوبان، فعزف اثنتين منها برقة متناهية، كانت هي نتيجة الحوار الرقيق ما بين انامله والبيانو، وحفلت طريقته لعزف "السكيرزو" بحساسية وروحية عالية استطاعت اظهار البناء المركب للعمل الذي ابدعه شوبان.
وليد حوراني:حساسية في فهم العمل الموسيقي
في القسم الثاني من الامسية، عزف حوراني لموريس رافيل (1857-1937) وفيلا لوبوس (1887-1959) الذي نقلنا الى مشاعر صافية ورقيقة، اذ كانت مقطوته "مدى الطفل" محاولة لرسم حوار خفي ما بين الطفل والعابه، وختم حوراني امسيته، بعزف مقطوعة حملت عنوان "الرابسودي اللبنانية" وكانت معتمدة على اقامة تناغم مشترك مع العديد من الالحان الشعبية اللبنانية، فاستمع الجمهور الى مفايتح الحان، مثل "البنت الشلبية" و"شتي يا دنيا" و"يا مايلة على لاغصون" ولكنها ظلت مدغمة ضمن روحية العمل التي جاءت في باب الثناء على المكان اللبناني وانسانه.
رحيل وليد عقل في ظروف تشبه موسيقاه السوداء غيب الموت 25 ايلول 1997، عازف البيانو اللبناني الماهر وليد عقل اثر عملية جراحية في القلب، نتج عنها تداخل جراحي رئوي ادى الى الوفاة، وكان عقل (52 عاما )، حقق شهرة وحضوراً في الاوساط الموسيقية العالمية، عبر شخصية مميزة حققها في قراءته للاعمال الموسيقية التي تمتد من عصر "الباروك" حتى العصر "الحديث". وكان وليد قد بدأ مغامرة التوحد باصابع البيانو، في عام 1963، حيث انتقل للاقامة في فرنسا وبدا تلقي دروسه الموسيقية في اكاديمية مرغريت ليون والكونسرفوتوار الوطني والمدرسة الوطنية للموسيقى وعمل مع ايفون لوفيبور وجيرمين مونييه وجال فيفريه.
ورغم "لمعان" حياته الفنية في غير عاصمة عالمية، الا ان ظل مرتبطاً بخيط متوهج من الحنين مع بلاده لبنان، فقد اخرته العملية الجراحية عن موعد له مع جمهوره "الوطني" وتحديداً في حفلة كانت ستضمها "مغارة جعيتا" في لبنان، ومن ثم اصبح ذلك التأخير "موعداً مستحيلاً" حيث جاء الموت ليغيب معه عقل في ظروف تشبه الموسيقى السوداء التي كان ينكب على ترجمتها وفق رؤى ومشاعر غامضة.
وليد عقل....وروح
وليد عقل من ابرز عازفي البيانو في لبنان فيقول عنه منصور الرحباني:" اشترى له ابوه بيانو، وبدأ يتعلم في سن الثانية عشرة، ونبغ بشكل كبير" ومن لبنان بدأ في رحلة وتجوال بين مراكز الموسيقى في العالم، وظل طوال تكل الرحلة مأسوراً بفكرة الاكتشاف الموسيقية، بل ان سعادته قبل سنوات بدت عظيمة حين عثر على اعمال موسيقية منسية للفيلسوف الالماني فردريك نيتشه، وراح يوطّن نفسه على تقديمها في اكثر من حفل موسيقي، وجاء هذا بعد انكباب على موسيقى لم تثر فضول اخرين، موسيقى ظلت ضائعة، مفقودة منسية او تائهه في الازمنة لتستعيد بين اصابعه وهجها، رغم انه عرف ببراعة ترجمته لاعمال بيتهوفن وهايدن وبروكوفييف وفرانزليست. ولشدة رهافته في ترجمة اعمال هايدن "جمعها في 20 اسطوانة"، كان يدعى كل عام تقريباً لعزفها في الولايات المتحدة، ويأتيه جمهور خاص احب تلك الرهافة من وليد عقل، الذي بدا محظوظاً هو الاخر مع جمهور "يخرق اسرار الموسيقى، يمزق قشرتها الخارجية ليستوطن في روحها". ورغم الانتقاءات الصعبة وغير المألوفة للاعمال التي كان يعزفها عقل، الا انها تبدوا قريبة لاحقاً للمتلقي، بعد ان تدخل عليها تقنيته البارعة "اليات العزف" وهو في هذا الشأن كان يدرس القطعة التي تعاقب عليها عازفون وقاربها مؤلفون، ويراعي شخصية المؤلف وطبيعة العصر الذي ينتمي اليه، وعن هذا الملمح يقول الفنان مارسيل خليفة مذكراً بمآثر الراحل الفنية. "وليد عقل كان وفياً لرسالة الموسيقى من خلال مؤلفات عظيمة ومن خلال بحثه الدؤوب عن علاقة تلك النوطات بالحياة، وبهذا نقل الحياة بصدق وعمق احساس مرهف ولغة موسيقية خاصة جمعت بين سحر الشرق ورومانسية كلاسيكية حنونة وايقاعية صاخبة وجديدة وذلك في اعمال بروكوفييف في السوناتا رقم 8 و9 او في سيمفونيات يتهوفن التي صاغها فرانز ليست خصيصاً للبيانو".
مهمة العازف لا تقل شأنا عن المؤلف وكان يرى في العازف مهمة لا تقل شأنا عن المؤلف الموسيقي، فالعازف هو من سيترجم القطعة الموسيقية ويبصمها بوعيه، وبحالته الروحية، من هنا تأتي لمساته الخاصة على اعمال هايدن والنشيد الجنائزي في السيمفونية الثالثة لبيتهوفن حسب تحوير ليست لها كقطعة مؤلفة للبيانو، وعنها يقول عقل: "هذه الموسيقى مصالحة مع الموت، انها قيامة" هكذا تصالح عقل مع نشيده "الجنائزي" الخاص ومع فكرته عن الاثر الانساني اكان صاحبه على قيد الحياة ام "غائباً" في لجج الموت.
وهذا يحيل الى جانب "المفكر" في شخصية وليد عقل، فبعد ان اشتغل على نيتشه موسيقيا، وهو ليس ببعيد عن ضراوته مفكراً، كان عقل قد عقد العزم على طبع كتاب وضعه عن يوليوس قيصر الذي امتلك خطاً نافذاً نحو روح وفكر وليد: "فعلاً منذ زمن بعيد اجمع المعلومات الدقيقة عن هذا الرجل الذي سحرتني شخصيته، ونذري ان اضع الكتاب الذي لم يكتب بعد عن يوليوس قيصير، هذا العبقري الذي جمع الادب والعلم والرياضيات في دماغ واحد، اخترع التقويم "الروزنامة" وضع مؤلفات علمية، مدن الشعب، عمل بناء على الاحوال الجوية في تسييره المعارك، كان بطلاً عرف كيف يدير ذكاءه وثقافته". كان هذا اشارة الى تعلق وليد عقل بالمفازات التي اوصلته اليها الموسيقى، التعلق بالفكرة العميقة ونقل الموسيقى من الزخرفة التي تسببها للمشاعر العابرة الى عمق رؤية فيها والى "حجرها الفلسفي". انه كان يؤاخي بين الصلادة والشظف، بين القدسية والعلن وبين "خفة روحه" والقلق الذي يتملكه: "انه وبالرغم من تقنيته البارعة شكل موقفاً فلسفياً بالنسبة الى الاداء، وبهذا المعنى ايضاً صبغ اداءه بصبغة المعالجة الدرامية وصولاً الى المأساوية". |