عاصي الرحباني: لمسة مستقبلية على النغم العربي
لا حديث لائقاً بذكرى عاصي الرحباني، اكثر من الحديث عن اي تحديث للموسيقى العربية انجزه الراحل؟ وما يؤكد الاثر العميق لصاحب المسرحيات الغنائية التي كانت وما زالت الابرز في هذا الميدان عربياً، ان غياب نهجه في التحديث لم يجد من يواصله فكره ومشروعاً قابلاً للتنفيذ ومواجهة التحولات الفكرية والاجتماعية، اورثنا تراجعاً في حال الموسيقى العربية اليوم يقارب في ملامحه الانحطاط، ولتكن هذه الحال هدية لكل من ناهض عاصي والرحابنة عموماً بوصف تجربتهم "تغريباً" لموسيقانا العربية.
اكد عاصي فكرة التنوع اللحني والايقاعي اخذاً بنظر الاعتبار ان لبنان والمنطقة العربية ليستا منغلقتين بيئياً واجتماعياً، وكانت ملامح التأثر بانغام الشرق غير العربي حاضرة، مثلما كانت حاضرة ملامح الاتصال مع انغام الاقوام السلافية وحتى الغرب عبر كلاسيكيات الحانه.
كانت هذه الفكرة تتعارض مع نهج يكشف عن "عنصرية" قاتلة، يرى ان الموسيقى العربية خالصة بذاتها وانها لم تتأثر بما جاورها من ثقافات، او باتصالها مع معارف والحان وانغام عاشت في المنطقة مع وجود سلطات غير عربية .
عاصي ومنصور الرحباني من نوع البناة المؤسسين الذين يرون دورهم الحقيقي في الاضافة والجدل والسؤال المتكرر وعدم اليقين بثوابت نهائية في الفكر والثقافة والموسيقى من بينها، ولم يروا عجزاً في الموسيقى العربية حين تتولى الاوركسترا الكبيرة تنفيذ الالحان مثلما لم يروا في ذلك الاتصال "تغريباً"، حتى ان مستوى رصيناً جاءت عليه اعمالهم ظل علامة على رقي لحني من النادر ان قاربته التجارب الموسيقية العربية بعدهما.
ومن ابرز الواعث الاساسية في التحديث الموسيقي عند عاصي الرحباني، وعي اجتماعي وفكري اميل الى التجديد ولكن دون انفصال عن الجذور التكوينية، قارئاً في ذلك مرحلة اجتماعية هامة مع اربعينات القرن الفائت وخمسيناته عربياً، مرحلة التجديد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
من يستمع الى اعمال الرحابنة التي اشتغلت على الموشحات وعلى غناء القصائد (الغناء المتقن)، لا تلحين القصائد وحسب بل كتابتها ايضاً، سيسخر من اولئك الذين انشغلوا في التقليل من شأن صاحب تجربة موسيقية بل مشروع مغاير ثقافياً يأتي في صياغات النغم، وسيجد ان من صاغ هذه النصوص ورقت الحانه حين حولها اغنيات، هو في القلب من روح موروثه الشعري والموسيقي مثلما هو من ينبري للآخر معرفاً بقدرة موسيقاه على ان تكون معاصرة وخلاقة.
عاصي حين اكتشف جوهرة اسمها فيروز
لعاصي ولمنصور ولفيروز، ريادة في شكل غنائي ليس غريباً انه تراجع بعد غياب الركن الاساس في ذلك الثلاثي النادر، شكل غناء الامكنة والمدن والاوطان، حد ان اغنية صاغها عاصي ومنصور وادتها فيروز، تصبح لازمة في مديح اي مدينة عربية، ودائماً مديح الناس والحكايا تاريخاً وراهناً، ودون مديح الحاكمين (هل عرفت العربية وامكنتها غناء مدنناً يثني عليها بعد الرحابنة)؟ ومن هنا علينا ان نتساءل: من انتمى لروح المكان العربي وانسانه في موسيقاه مثلما انتمى عاصي وتجربته الثلاثية الابعاد؟
ما ميز عاصي انه موسيقي في اقصى الجدية، لاحدود للهو في عمله، انه مشروع عمل دائب، والموسيقى عنده ليست رد فعل شعورياً بل رؤية متكاملة لمرحلة ولقضية، وتثبيتاً دون جعجعة اعلامية لفكرة الحرية في العمل الفني. خذ تعدد الاصوات مثلاً، وخذ المسرح والاتصال المباشر مع الجمهور بوصفه كسر لـ"نخبوية" الموسيقى والانغام، وخذ مثلاً ايضاً في الخروج من قالبي التأليف الآلي في الموسيقى العربية "السماعي" و"البشرف" وترسيخ فن "القطعة الموسيقية" واعلائه كي يصبح خروجاً اخر على "وحدانية" الموسيقى العربية الا وهي الغناء.
علامتان في التحديث المضموني للاغنية العربية سجلهما عاصي والرحابنة عموماً، فلم ترق العاطفة في اغنياته وحسب، وانما ترفعت على التأثيرات الحسية العابرة، فتهذبت اذواق، ورقّت ارواح في التعاطي مع الحب، حتى الامكنة صارت غنى روحياً ولم تعد مجرد علامات يطرقها البشر يومياً، كذلك لم تخلّص تجربة موسيقية عربية معاصرة الاغنيات "الوطنية" من المباشرة الفجة والحماسة الفارغة، مثلما فعلت اغنية الرحابنة التي جعلت الوطن ووقائعة وانسانه ابعادا "عاطفية"، لا تقل تأثيراً وجدانياً عن اغنية تحتفي بقصة حب (ستشهق الاغنية العربية حد انقطاع انفاسها كي تربح اغنية مثل "زهرة المدائن").
زياد يحيي الفكرة لا صورة الاب
تحية رقيقة للفكرة، لروح المغايرة، للاصرار على مشقة المسير في سبل ليست سالكة، تلك التي تمثلت في تجربة عاصي الرحباني، وجهها زياد الرحباني قبل سنوات في اسطوانة مزدوجة حملت عنوان "الى عاصي" وفيها يجدد زياد حتى الحان ابيه، انطلاقاً من ان اعمق استذكار لصاحب المشروع الموسيقي المجدد، هو في تجديد الحانه والخروج بعمل كأنه يقول لصاحب المشروع التجديدي: فكرتك حية وحاضرة وتقدم مثالاً يحتذى.
زياد الرحباني وبأصالة رؤيته الموسيقية وبانتماء عميق الى موهبة الاب وفكرته قدم بصحبة فيروز رفيقة عاصي في الفن والحياة، عملاً احتفى باغنيات عاصي ومجده الثري، وان كان انتظم في شكل موسيقى الجاز الذي لم يكن الراحل قد اتصل به، واختيار زياد هذا الشكل جاء لتحية فكرة الحرية في انجاز عاصي الرحباني، فهو الشكل الاكثر حرية في تدفق الالحان وتداخل ايقاعاتها.
زياد احسن صنعاً مع فيروز حين قدما اغنيات من اسطوانة "الى عاصي" العام الماضي في مهرجان "بيت الدين" عرفانا بجميل هذا الراحل الخلاق وتحية لذاكره، مثلما يبدو انجازه في المسرح الغنائي في حاجة الى قراءة "تجديدية" تبتعد عن "الانتقائية" المشهدية التي حفلت بها تجربة منصور والياس رحباني وفيروز عام 1998، حين اعادوا تقديم مشاهد من ثلاث مسرحيات غنائية في "مهرجان بعلبك" كان طبعها عاصي برؤيته العميقة نصوصاً وموسيقى.
*نشرت في "الرأي" الاردنية و"الحياة" اللندنية استذكارا لعاصي الرحباني