مرسيل خليفة ونصير شمة في عرضين موسيقيين: اي موقع للموسيقى العربية في الاوركسترا السيمفوني؟
حين تختلف الاراء حول موقع الموسيقى العربية في شكل الاوركسترا السيمفونية، فذلك لايبدو مستغرباً، فهناك من يرى ان الخروج من الشكل العربي التقليدي للفرقة الموسيقية (التخت) كما يسميه المصريون و (الجالغي) بحسب اهل العراق واسماء اخرى في المغرب والخليج، خروج على جوهر الموسيقى العربية، في الوقت ذاته هناك من يرى هذا الثبات الراسخ للموسيقى العربية عند هذا الموقع (التقليدي)، حكماً نهائياً عليها (بمحلية) لن تستطيع الخروج منها! وإذ يميل الموسيقيون العرب المحدثون - اولئك الذين درسوا في الغرب بخاصة- الى (مزاوجة) بين الموسيقى العربية وشكل الاوركسترا السيمفوني، فهم يغفلون فرقاً شاسعاً ما بين الموسيقى الغربية والموسيقى العربية، فالاولى تعتمد (التعدد الصوتي) او (البوليفونية) وهي لا تكون موسيقى جادة اذا لم تتضمن اربعة اصوات او اكثر، بينما الموسيقى العربية تكتسب (جديتها) وحضورها بصوت واحد (ولكن بامتداد افقي رحيب)، ومع خروج النغم عن هذا الصوت الواحد تكون الموسيقى العربية قد خرجت من ملمح اصالتها، بل ان رأياً لا يجانب الصواب يقول في ان زيادة عدد الالات الموسيقية يخالف (قواعد) واصول الموسيقى العربية التي لا تحتمل عدداً كبيراً من الالات، وهي تغتني بطعمها ولونها الخاص دونما حاجة الى (مزاوجة) مع تجارب اوركسترالية. ومثلما توصلت شعوب (شرقية) الى حسم نهائي لهذه الاشكالية في التعبير الموسيقي، بان جعلت الاوركسترا الكبيرة للاعمال الكلاسيكية الغربية وابقت الاوركسترا القليلة الالات والشرقية الروح والجوهر لتقديم الاعمال (المحلية)، كما هو الحال في تركيا وعدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق، يمكن للموسيقى العربية ان تتوصل الى هذا الاجراء، بحيث لا يبدو معه الفن العربي الموسيقي منتزعاً من مكانه وجوهره، وبالمقابل لا يبدو منغلقاً على ذاته بدعوى المحافظة على الاصالة. ومثل هذه التجربة: الموسيقى العربية والاوركسترا السيمفونية الغربية، اوجدت او افرزت نمطين من النتاج الموسيقي: الاول هو ما قدمه فنانون عرب درسوا في الغرب ووقعوا في اسر نموذجه الموسيقي وباشكاله وقوالبه: السيمفونية، الكونشرتو، السوناتا وغير ذلك، وحاولوا بعد عودتهم الى اوطانهم ان يضيفوا على اشكال نتاجهم الموسيقي "ملامح عربية" عديدة، فمنهم من كتب الشكل الموسيقي الغربي الصرف مضيفاً اليه بعض "الميلوديات" العربية، ومنهم من اعاد توزيع الاعمال الموسيقية العربية التقليدية بحسب بناء هارموني يناسب الاوركسترا السيمفوني، وآخر فضل اعادة توزيع الالحان الغنائية الشعبية وجعلها موسيقى صرفة ولكن بحسب (هارمونية) افقدت الاعمال الاصيلة ملامحها.اما النمط الثاني فهو من قدمه موسيقيون عرب تشبعوا بروحية الموسيقى العربية، درسوا جوهرها وفهموا روحيتها وابدعوا فيها اعمالاً على الات موسيقية عربية، فردية كانت ام صحبة فرقة موسقية صغيرة.
وتوجه هؤلاء الموسيقيون في كتابة اعمال موسيقية عربية للاوركسترا السيمفوني -غالباً ما يشتركون هم في عزف ثيماتها الاساسية على الاتهم الموسيقية بصحبة الاوركسترا- بدا في واحدة من توجهاته "حرصاً" على اظهار قدرة الموسيقى العربية على اثبات فهمه وتعاطيه مع معطيات فكرية وحضارية يقدمها (الاخر).
ونجح بعضهم في كتابة اعمال للاوركسترا السيمفوني دون تجاوز الابعاد الموسيقية العربية فعملوا مزيجاً من الميلوديات اكثر من اعتمادهم على (الهارموني) الذي هو الملمح المميز للاعمال الموسيقية الغربية، وهم بذلك وفروا الفرصة لابقاء مساحة للحن الاساسي العربي وكي لا تضيع الالة العربية التي ترافق الاوركسترا. وبتكرار مثل هذه التجارب -سنقرأ هنا اثنتين منها- لا تبدو موضوعة الحفاظ على اساسيات الموسيقى العربية صعبة ومستحيلة، بل هي تؤشر لمستويات من النجاح بقدر ما تحفظ الخط البياني للموسيقى العربية وملامحها المتميزة. وبدأت تظهر حتى في اوساط موسيقية عربية (متشددة) دعوات تخفف من تحفظها على استخدام الاوركسترا السيمفوني في الموسيقى العربية وبالذات حين يتم اختيار بعض الالحان وتصاغ صياغة لقالب الاوركسترا السيمفوني.
مرسيل خليفة في "المتتالية الاندلسية": العود يقترح وجوده بين الات الاوركسترا السيمفوني من بين تجربتين سنقرأ في ضوئهما علاقة الموسيقى العربية بالاوركسترا السيمفوني، سنختار الكلام اولاً على "المتتالية الاندلسية"، تلك التجربة اكد الفنان خليفة ان العود ليس مجرد آلة مرافقة لالات الاوركسترا السيمفونية فيما لو اتيح المجال له ليلعب نغعمة بحيوية ويقول فكرته الصريحة، بل زاد عى ذلك بتوزيعه المتقن، بان جعل العود (سيداً) بين الات الاوركسترا السيمفوني. وعمل خليفة هو بالاصل، الحركة الثالثة من عمله الموسيقى اللافت "جدل" المكتوب اصلاً لالتي عود، وهو ما فعله صحبة زميله شربل روحانا وطافا به اكثر من (60) مدينة في عالمنا خلال ثلاثة اعوام.
مرسيل خليفة: اي موسيقى عربية؟
واذا كان خليفة استطاع بمبادرته العمل مع اوركسترا سيمفوني على هذه السعة ان يقدم الموسيقى العربية بطريقة لافتة تثير الاحترام والتقدير بين اهل الموسيقى الكلاسيكية الغربية ونقل الموسيقى العربية الى مدار تأثير تستحقه كنشاط روحي بين موسيقيين بدا عليهم (ربع الصوت) المميز للموسيقى العربية غربياً، فانه حقق النجاح اعتماداً على عدة اسباب منها: التوزيع الموسيقي الموقف الذي حاول جهد الامكان تقليل (غرابة) النغم العربي على العازفين، ومحاولته جعل الاوركسترا لعب دور التمهيدات وعزف التفاصيل في بنية اللحن، فيما تولى هو اثارة المركز النغمي في توقيعاته على العود، دون ان ننسى طريقة خليفة في العزف القائمة على الضرب الرشيق والاداء المفعم بالروحية بعيداً عن الاستعراضات التقنية.
نصير شما بصحبة الاوركسترا: اين رقة العود وشجنه اين طراوة اليد والروح؟ وبعيداً عن المقارنة بين ظهور مرسيل خليفة مع الاوركسترا وبين ظهور نصير شمة معهما، يأتي هذا التواصل مع الفكرة التي نسجنا في ضوئها المقالة، ففي مناسبتين امكننا الاستماع لعملين موسيقيين عربين عزفهما نصير شمة بصحبة الاوركسترا هما: "سماعي عجم" من تأليف الموسيقي الفلسطيني الاصل العراقي الاقامة الراحل روحي الخماش و "العصفور الطائر" للموسيقار الراحل منير بشير وبتوزيع موسيقي تولاه التونسي احمد عاشور. المناسبة الاولى كانت حين عزف شمة المقطوعتين بالاشتراك مع اوركسترا سيمفونية تونسية، والثانية حين عزفها مع "اوركستر اوبرا القاهرة" التي قادها شريف محي الدين اثناء مهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة، وبرزت فيها مستويات من الاداء: الاول يتعلق بالعزف (هنا لا تحتاج مهارة الفنان الصديق شمة الى اشادة) والثاني بالشكل الموسيقي المكتوب والثالث بالتوزيع الموسيقي والرابع بفهم اعضاء الاوركسترا وعلاقتهم بالموسيقى العربية وانغامها. ففيما يخص العزف رقّ كالعادة عود نصير شمة، وغرف من شجن عميق زاده في ذلك قالب "السماعي" المخضب بشرقية عربية اخاذة، وبدا التوزيع الموسيقي واعياً لجماليات هذا القالب وان ضهرت سرعة في اللحن زادت على ما يفترض ان يستقر عليه "السماعي" وكان عازفو الاوركسترا الذين تدربت اذانهم جيداً على الموسيقى والانغام العربية وتشبعت روحيتهم بها -اضافة الى اجادتهم العزف على الالات الغربية- عاملاً اساسياً في انجاح عمل نادر لعلاقة الاوركسترا السيمفوني بالموسيقى العربية.
نصير شمة: المهارة اللافتة قد تضيع في بيئة غريبة!
غير ان هذا الاداء (النموذجي) انهار تماماً مع مقطوعة "عصفور النار" التي يمكن اعتبارها من اجمل ما كتب الراحل منير بشير، واحسن نصير شمه صنعاً حين اختارها لما فيها من جماليات تذكر بفن (القطعة الموسيقية) الذي بدا منقرضاً هذه الايام، فالتوزيع الموسيقي بسرعته المبالغ بها افقدت اهم ملامح موسيقى منير بشير الا وهي وقفات التمهل (الصمت) ضمن بنية العمل، كما ان هذه السرعة اربكت مستوى رائعاً التوافق ما بين العازفين وبين الانفرادات التي يؤديها نصير شمة على عوده فضاعت رقة العود وشجنه. واذا كانت الملاحظة الخاصة بضرورة وجود عازفين مشبعين بروحية الموسيقى العربية ويفهمون ما معنى ابعاد (ربع الصوت) ضمن الاوركسترا التي تريد عزف الاعمال العربية، تبدو مهمة واساسية في هذا الشأن، فهي تأكدت بقوة حاسمة مع عزف نصير للعملين ذاتهما في القاهرة. وازاء عازفين من (اوركسترا اوبرا القاهره) تدنت عندهم حساسية للموسيقى العربية ورهافتها، وغياب لبعض الالات الوترية بشكل خاص وقلة عددها ازاء حضور لامبرر له للهوائيات الزاعقة (مجموعة الابواق) والسرعة الزائدة للعزف، لم تستطع طراوة يد نصير شمة في اقامة توافق مع فوضى في التوزيع والعزف الحالي من الروحية لاعضاء الاوركسترا الذين يبدوا انهم اخذوا جرعات خفيفة من التمارين المشتركة مع العمل ومع نصير شمة بالذات، الذي بدت روحية عزفه الآسرة، يتيمة بين فوضى موسيقيين اجادوا الزعيق اكثر من اداء العزف وان في حدوده الدنيا!
الموسيقى العربية والاوركسترا السيمفوني: خلاصات لانه لا خلاصات نهائية في الفن، تبدو ملاحظاتنا الاستقرائية هنا، وكأنها مقاربات لقضية ستظل تثير في كل تظاهرة موسيقية جادة اشكالاتها ومن مجل ما توصلنا اليه في تحديد (مواصفات) لعمل ناجح يجمع الموسيقى العربية وفق شكل الاوركسترا السيمفونية: - ان يكون المؤلف على دراية بالموسيقى العربية ومتمكناً منها تقنياً وروحياً.
- ان يتوفر موزع موسيقي (يفضل المولف ذاته) يكشف الروحية العربية في العمل من خلال اختيار الات موسيقية بامكانها ترجمة تلك الروحية. - ان يتوفر عازفون تدربتهم اسماعهم على الموسيقى العربية اضافة الى اجادتهم العزف على الالات الغربية وفلسفة العمل الموسيقي الغربي الاصلي ايضاً. |