لوركا .. مؤلفا موسيقيا: موسيقى اسبانيا وعطر اغنياتها

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       22/11/2009 06:00 AM


حين كان الشاعر الاسباني وأحد أهم أدباء القرن العشرين فيدريكو غارسيا لوركا ( 1898-1936)  يعنى بالالحان والاغنيات الشعبية فانما كان يقصد إعادة خلقها، فهو يغنيها، يحلم بها ويعيد كشفها، وبكلمة واحدة يحيلها إلى شعر. هذا الجانب الموسيقي عند شاعر الحرية (هو عازف بيانو ومؤلف موسيقي)  كان بدأ  حين راح يدندن الألحان الشائعة قبل أن يحسن النطق الذي عانى عسرا فيه، وأخذ عن خدم بيت عائلته الموسورة الحال، نبضا من الحكايا والأغاني الشعبية، مثلما وجد نفسه شابا يجول في ريف غرناطة أو بساتينها القريبة، ليكتشف روح الثقافات والتقاليد التي كونت إقليم الأندلس، حيث التقى الغجر الذين صاروا لاحقا مركزا جوهريا في نتاجه الشعري والموسيقي. وليس غريبا ان يكون هذا النسيج الشعري-الموسيقي حاضرا في اول كتبه الشعرية "اغان" (1927)، بل حتى في طريقة قراءته  لقصائده، فهو كان يفضل أن ينشد أشعاره، أو يغنيها أو يعزفها على البيانو.

لوركا قرب بيانو .. الشاعر بوصفه مؤلفا موسيقيا
الاغنية الايماءة
واذ يقول لوركا عن مقطوعاته الموسيقية: " في الوقت الذي عبرت فيه عن الفلامنكو، فاني سأعبر عن السوليا او السيغريا الغجرية او البولو او لاكانا الذي يعني الغناء بلا زخرفة، والاغنية التي هي صحيحة اكثر ماتكون ايماءة" فانه يشير الى رسوخ دوره لا كشاعر حسب بل الى مساهمته المميزة في الموسيقى وبخاصة في الموسيقى الشعبية الاسبانية.
ومثل هذه اللمسات التي تشير الى عبقرية فيديريكور غارسيا لوركا وتعدد موهبته: فهو الشاعر والكاتب المسرحي، الموسيقي والفنان التشكيلي، ظهرت خلال امسيات وتظاهرات في عدد من عواصم العالم بمناسبة مرور مائة عام على ولادة لوركا، ومعها أمكن التعرف الى الاعمال التي طبعها لوركا بروحيته النضرة، مثلما امكن التعرف الى اعمال موسيقية لمؤلفين كان لوركا معجبا بهم ، كذلك اعمال مؤلفين شبان متاثرين بلوركا او بالموسيقى الشعبية التي كان لوركا مولعا بها.
في الاعمال التي كتبها لوركا، ثمة مقطوعة تشبه النبضة متدفقة وحيوية، واخرى تعبرعن شجن مكتوب خصيصا للالات الهوائية، ومثلما كانت هناك التوقيعات الهادئة والشجية في موسيقى لوركا، هناك مقطوعات حملت ايضا "انتفاضة" الشاعر وغضبه. غضب الاحاسيس حين تحاول ان تتمالك وجودها وان تدافع عن ذاتها ازاء ماكنة لاتهدأ من الخراب تسحق كل شيء وليس ببعيد عن هذا كان مصير لوركا ذاته. ففي تموز 1936 أُعدم لوركا رمياً بالرصاص. كانت التهمة الموجهة إليه أنه مثقف حالم صنع بكتبه ما لم تصنعه المسدسات. وكان دقيقا صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا حين قال أن "الذين أرادوا بإطلاقهم النار عليه أن يصيبوا قلب شعبه، لم يخطئوا الاختيار". اعدم صاحب " خضراء.. احبك خضراء" في الأيام الأولى من الحرب الأهلية الاسبانية في مكان على التلال القريبة من غرناطة، وفي مقتله تحققت نبوءته باختفاء جسده حين كتب "عرفت أنني قتلت وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن سرقوا ثلاث جثثٍ ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط". لم يجدوه فعلا، فلوركا كما سحر اناشيده وموسيقاه،  كان يزهر في السماء.
وحين تنتظم مجموعة من اعماله الموسيقية تحت "اغنيات شعبية انسانية"، يبدو من  الطبيعي انسجام التصفيق (على طريقة الفلامنكو) ضمن المقطوعات التي كتبها لوركا، حيث الاكف وهي تصفق مع تنويعات البيانو الرقيقة، اوجدت حالا من البهجة التي يبدع اليوم موسيقيون اسبان وغيرهم في ترجمة ماثرها الروحية وجعلها طيورا محلقة في فضاء الشاعر والموسيقي.
وللجمهور المحب للموسيقى الرصينة ولعوالم الشاعر لوركا، كلن يحضر عمل موسيقى كتبه احد الشبان المتأثرين بلوركا، والعمل توزع مابين شكلين للاداء، حيث تعزف عازفة الكلارنيت فيما العازف على الة النفخ "كورنو" يقرأ من قصيدة للوركا ثم تدخل اصابع عازفة البيانو في المشهد، وكل هذا التنوع في الاداء الصوتي يقارب النغم الهاديء والتصويري والحاد والمنتفض الذي جادت به المقطوعة وكانها تقارب عالم لوركا الانساني والشعري في آن .
وكان اللافت في العمل ان يتولى البيانو التعبير عن التفاصيل الصغيرة وبعنف، فيما كان الكلارنيت يحكي قصة شجنه اثناء قيام العازف بقراءة مقاطع من شعر لوركا، وبعد مجمل الاندفاعات العنيفة تهدأ المقطوعة لتصبح بعد ان تداخلت مع صوت الشاعر هدوءا شجيا تألفه النفس والاسماع.
 

لوركا.. اغنية قتيلة

لوركا مبدعاً للنغم الشجي
"اوركسترا امبوردا" الاسبانية لموسيقى الصالة، وهي اوركسترا محترفة تأسست عام 1989 في مقاطعة كاتالونيا باسبانيا، وضمن حدود مدينة (فيغاراس) التي ولد فيها فنان السوريالية الشهير سلفادور دالي، تعزف في جولاتها العالمية  من اعمال موسيقيين مرموقين مثل اسحاق البينيث احد اشهر الموسيقيين الاسبان، دون ان تنسى فتح نافذة على فيدريكو غارسيا لوركا بوصفه مبدعاً للنغم الشجي، وهي عادة ما تعزف من اعماله الموسيقية ثلاث "اغنيات قصيرة" التي كانت قد اشرت تحولاً في علاقة لوركا بالموسيقى وبالموسيقى الاندلسية تحديداً، اثر علاقة عميقة ارتبط عربها مع احد اعلام الموسيقى الاسبانية المعاصرين وهو مانويل دي فايا.
وحين يحضر لوركا وموسيقاه، فلابد من غيار يوقع انغاماً شجية، وهو ما يفعله عادة قائد الاوركسترا حين يعزف على الغيتار بصحبة الاوركسترا بانغام آلاتها الوترية التي كانت تضرب على النعومة والرقة والشجن، توقيعات تليق بصورة فيديركو غارسيا لوركا مبدعاً انسانياً فذا.
وتعزف الاوركسترا من لوركا ايضا "اشبيليات من القرن الثامن"، وهي مقطوعة متأسية شجية، و"راكبو البغال الاربعة" التي تزهر وتشرق في الروح بلحنها الايقاعي الرشيق كأنها كانت تصور المشهد الذي لم يكن بعيداً عن مشهد الحركة الدرامية المميز في ثنايا شعر لوركا، كذلك عادة ما تعزف له الاوركسترا "مقطوعة اندلسية"، كي تكتمل اطلالة جميلة على عوالم لوركا عبر امسيات اقرب ما تكون احتفاء بموسيقى اسبانيا وعطر اغنياتها.
وفي الاحتفال بلوركا موسيقيا،  عادة ما تكون هناك استعادة رقيقة لذكرى الموسيقار مانويل دي فايا الذي اشرنا لعمق تأثيره في الموسيقى والثقافة الاسبانية المعاصرة وبخاصة في جيل اوائل القرن الحالي الذي ضم لوركا، ومن هنا تأتي مقطوعاته حافلة بعناصر الفولكلور الاندلسي، وهو ما اشتغل عليه دي فايا في موسيقاه ولوركا في مجمل ابداعه الشعري والمسرحي والموسيقي وفي الرسم ايضاً.واذا كانت ثمة صورة دالة على روحية اسبانية، تجمع بين الحيوية والرقة بين القوة والجمال، فهي صورة "مصارع الثيران" التي لطالما سعت الى تجسيدها شعريا وموسيقياً اعمال لوركا،  فثمة "صلاة مصارع الثيران" التي تتنوع ما بين الهدوء والتوتر كانها بذلك تقارب حالة مصارع الثيران فعلاً حين تنتابه مشاعر ومخاطر شتى.

موسيقيون عرب يحاورون لوركا وانغام اسبانيا
لايحتاج السامع لموسيقى نصير شمة، كثير فطنة، كي يكتشف انه يسمع موسيقى تتصل بالفكرة التي تمثل جوهر الفن: الروحية المفعمة بالصدق.
ونصير شمة جواب امكنة بامتياز، امكنة تنبثق من التاريخ مثلما هي امكنة تنبثق من الراهن المازوم وصولا الى امكنة لم تتعرف بعد على ايقاعها، وتلك الامكنة تنسج الاثر الانساني المطبوع عليها في موسيقى نصير، هي أمكنة تبدا من سهل بلاده الرسوبي كحاضنه لمعارف وحضارات اولى واشكال فنية راقية التعبير عن الهاجس الانساني-ضمنها الموسيقى وكما خلدتها القيثارة السومرية- مرورا بامكنة رحيبة يوم طبع العرب بقاعا واقاليم بواحدة من صنائعهم الروحية الفريدة: الموسيقى، وصولا الى وقت لاهث، متقطع الانفاس، ينتمي اليها الموسيقي مختصرا خبرات ورؤى روحية متصلة "تشيد" عالمها رغم صوت "الهدم" المتصاعد ولن تكون بعيدة عن ملامح القادم من الوقت، اذ هو مجبول "بالرؤيا": اليس هو المنبثق من طين سهل رسوبي فيه البشرية سؤالها الوجودي ظهور فني له، نهجه الموسيقى خرج من جماليات العزف المتقن الى فسحة التاليف الرحبة: انه عمل خلاق وفيه يستند نصير الى أساسين، الموهبة والمعرفة.
وفي مساحة الاتصال الحي مع الآخر معرفة وثقافة، كتب نصير واحدا من اعماله اللافتة "لوركا"، وهي مقطوعة كتبها العام 1997 اثناء وجوده في غرناطة، حيث قتل الشاعر الاسباني وشاعر الانسانية جمعاءوالتي شهدت ايضا بزوغ نجمه اللامع كاحد مثقفي القرن العشرين الكبار.
وهو حين يعرفها على عوده بصحبة آلات اخرى، فانه يقصد فكرة التنويعات على اللحن بوجود عدة الات ومركزها العود الذي ينبثق عبر توقيعات نصير شمة المميزة، كما ان الة (القانون) برشاقة انغامها لايمكن ان تحيل الا الى جو مشبع بالروحية الشرقية والعربية، يقابلها (الغيتار) الاسباني بتنويعات لا على اللحن فحسب، بل في المزاج سيما ان الالة هنا تشير الى مرجعية مكانية وحضارية (الاندلس) التي لطالما امتزجت بماثر العرب الروحية.
والمقطوعة التي كتبها نصير شمة، كانت لادائها خصيصا اثناء احتفالات عربية واسبانية واوروبية بالذكرى المئوية لميلاد للشاعر لوركا، وهي تنطوي على عذوبة وغنائية تحيل نصير الى منطقة "الروحية" التي بدا منها وجال عبرها ساحة الموسيقى العربية المعاصرة.
وثمة اشكال اخرى من الاتصال بين موسيقيين عرب وانغام بلاد لوركا وليس مع اعماله الموسيقية وسيرته وشعره،  ففي حين لاقت فنون العزف على الغيتار الكلاسيكي او الاسباني او كما يسمى احيانا " الهوائي" لجهة تمييزه عن الآخر " الكهربائي"، شيوعا في العشرين سنة الماضية بين هواة من العازفين العرب حد انها تحولت احترافا عند قلة منهم، نجد ان من بين تلك القلة الطبيب والعازف الاردني على الغيتار بشر حجازي. ومحبة الطبيب الموسيقي لآلته   دفعته لاقناع المركز الثقافي الاسباني "ثيرفانتس" بالعاصمة الاردنية كي يتحول من مركز للتعريف بالموسيقيين الاسبان على التهم الموسيقية الاشهر الى مكان يقدم فيه موسيقي عربي مهارات العزف على الغيتار في امسية تضمنت تقديم معزوفات وضعها موسيقيون اسبان معاصرون طبعوا ببصمات التحديث الموروث الموسيقي الاسباني (الفلامنكو)  منه بخاصة.
وعلى الرغم من قوة واصالة اسماء مؤلفين موسيقيين امثال باكو دي لوثيا وباكوبينا ومانويل دي فايا، غير ان الفنان بشر حجازي، يقيم صلة اجتهد في تعميقها ما بين روحيته وتقنيته في العزف وبين تلك الاعمال، حين يقرأها حسب وعي شخصي لا يخفى عنصر المعيته ونباهته.وعادة ما تحفل مقطوعاته بتأثيرات كبيرة للتراث الموسيقي العربي الاندلسي، وهنا تأتي اشاراته موفقة ، حين ينوه عن طبيعة المقطوعات واصولها الموسيقية العربية، لاسيما انه كان يعزف على الغيتار بروحية ورهافة العزف على العود العربي، وكأن آلة الغيتار المضغوطة الشكل، انتفخت  قليلاً وراحت تحاكي شكل العود ثم انغامه لاحقاً.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM