على هامش المؤتمر (28) للمجلس الدولي للموسيقى ليل البتراء وموسيقى من شموع النغم الرفيع
البتراء- علي عبد الامير
لئن كانت البتراء رمزاً حضارياً اختاره المجلس الدولي للموسيقى (اليونسكو) لعقد اجتماعات مؤتمره الثامن والعشرين (22-25 ايلول) فكان طبعياً ان يرد موسيقيو الاردن الجميل لاكثر من 130 شخصية موسيقية رفيعة من مختلف قارات العالم اجتمعوا لمناقشة قضايا تنظيمية واخرى تتعلق بواجبات المجلس على المستوى الفني والدفاع عن قيمة الموسيقى في التعبير روحياً عن النشاط الانساني.
ورد الجميل الاردني كان في مستوى لافت فنياً وحضارياً، فللمرة الاولى تشهد (الخزنة) في البتراء حفلاً موسيقياً كما ان الحفل ذاته لم يتوقف عند المكان كي يبدو اردنياً، بل ان فنانيه هم اعضاء اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى (مؤسسة نور الحسين) بقيادة الفنان محمد عثمان صديق، كما ان المقطوعات عنت برموز اردنية شامخة كمادة تصويرية، وفي الوقت ذاته شهدت عزف منفرد على الالات شرقية وغربية تصدى له فنانون اردنيون شبان اكدوا انهم امتداد حي للحضارة التي ابدعت في البتراء كل علامات الجمال.
وبدأ الحفل الموسيقي في الثامنة من مساء اول من امس بعد ان سار المحتفون بهذا الحدث قرابة (45) دقيقة بن الممرات الصخرية التي اضاءتها الشموع، وكانت اولى المقطوعات التي عزفتها الاوركسترا هي "مرثاة موسيقية - في ذكرى المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال" التي كتبتها الفنانة اغنس بشير، المؤلفة الموسيقية وعازفة البيانو المعروفة واستاذة هذه الالة في المعهد الوطني للموسيقى.
وتميزت هذه المقطوعة بنغمها الشجي الذي لم يكن بعيدا عن نبض شرقي فيما تلون بنبض حي عبر عزف منفرد لآلة الفلوت تولته الفنانة جولي كارتر الصرايرة المدرسة لآلات الفلوت والساكسفون في المعهد الوطني للموسيقى والمشاركة مع فريق البحث الذي يعد كتب الموسيقى والغناء المقررة لمرحلة التعليم الاساسي في الاردن.
واذا كانت المرثاة الموسيقية المهداة لذكرى الراحل الحسين قد عزمت من قبل فان المعزوفة الثانية التي حملت عنوان "نور" وهي مهداة الى جلالة الملكة نور الحسين وكتبتها المؤلفة وقائدة الاوركسترا الاسترالية كاتيا تيوتيونيك، قدمت لاول مرة وبرعت اوركستر المعهد الوطني في عزفها كما لفت عازف الكمان تيمور ابراهيموف الانتباه لمستوى الجودة الذي قدمه في عزف منفرد على آلته تضمنت المقطوعة التي اعتمدت ثنائية (الطبول والكمان) فراحت (الطبول) تدل على الاقدار فيما (الكمان) كان يترجم القدرة على مواجهة الصبر بالصبر والمجالدة والروح التي لا يمكن ان تهزم، وهي مقاربة ذكية لمسيرة الملكة ونور وبالذات ما عانته من الم جم بغياب الراحل الكبير الحسين بن طلال.
ومن المواهب الاردنية في العزف، كانت موهبة ايليا خوري في العزف على العود، والتي برزت في عزف مقطوعة كتبها المؤلف وعازف العود العراقي خالد محمد علي وكشفت عن فهم عميق لامكانية اقامة حوار بين آلة موسيقية شرقية (العود) والاوركسترا الغربية. وبالرغم من خفة صوت العود لعدم استخدام مبكرات الصوت كي لا يؤثر ذلك في البناء الحضاري المهم (الخزنة)، الا ان المقطوعة بما حملته من تلويحات شرقية معاصرة امتزجت مع الانطباع السحري الحميم للمكان حيث الشموع وحيث القمر كان يرسل ضوءه الشفيف من بين المرتفعات الصخرية.
موسيقى وشموع في البتراء
واضافة الى خوري كموهبة اردنية في العزف على آلة عربية شرقية، كانت هناك موهبة اردنية اخرى، هي موهبة الفنان الشاب صلاح الدين مرقة في تنويعاته الرقيقة على آلة القانون، تلك التي وفرتها له مقطوعة من تأليف قائد الاوركسترا الفنان محمد عثمان صديق وعكست براعة في التأليف للآلة الشرقية بمصاحبة الاوركسترا الغربية فيما كانت تنويعات مرقة الذي كان فاز عام 1994 بجائزة مهرجان الموسيقى العربية في القاهرة، مميزة ورشيقة وتعكس روحية عميقة منتمية بقوة الى اصلها العربي والشرقي عموماً.
ابن العاشرة يعزف موتسارت
وحين اختار اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى برنامجها ليظهر الجذور الحية لما هو عربي في الموسيقى وشرقي ايضاً، وكذلك في احتفائه برموز اردنية رفيعة، فانها لم تنس الجانب الانساني الاكثر شمولاً، لكنها وهي تتجه نحو ذلك، جعلته اتجاهاً انسانياً بلمسات اردنية تمض بقوة لكي تأخذ موقعها بين المواهب الرفيعة في العزف على البيانو، فهكذا عزفت الاوركسترا "كونشوتو البيانو رقم 21" للمؤلف فولفجانغ اماديوس موتسارت (1756-1791)، اعتماداً على موهبة عازف البيانو، المعجزة الاردنية كريم سعد (10 سنوات) الذي كان فاز بالجائزة الاولى في مسابقة رومانيا الدولية لعازفي البيانو عام 1998 وعزف في عدة حفلات بسويسرا وشارك في مهرجان كاوناس 1999 للموسيقى في ليتوانيا خاص بالفائزين في المسابقات الدولية وشارك خلال الصيف الماضي في دورة للمبدعين باشراف الاستاذ دانيال بارينبويم في مدينة فايمار الالمانية.
كريم سعيد: موتسارت عربي
عزف كريم سعيد الذي تلقى تدريباتها من الفنانة الكبيرة اغنس بشير على البيانو الضخم بثقة الكبار رغم رهبة المكان والحدث وطبيعة الضيوف، وتابع واجباته في الحركة الاولى من الكونشوتو التي جاءت سريعة، عزف سعيد لحنها برشاقة وقوة، فيما كان حاضراً في هدوء الحركة الثانية وتمهلها فيما عزف الحركة الثالثة والاخيرة بنشوة المنتصر (وهو كذلك فعلاً) وتابع بنجاح لحنها السريع.
صفق الجمهور بقوة وحفاوحة مرتين، مرة لموهبة كريم سعيد الذي اكد انه ابن هذه البيئة التي ابدعت من قبل هذا العمل الشامخ (الخزنة) ومجمل حضارة الانباط في البتراء ومرة للحدث الموسيقي الرفيع الذي بدا منبثقاً من سحر وخيالية الشرق.
وكانت الانغام قد زينت امسية الاربعاء (اليوم الاول من المؤتمر 28 للمجلس الدولي للموسيقى) عبر حفل مشترك حمل عنوان "موسيقى الماضي والحاضر والمستقبل" وتوزع الى ثلاث فقرات، الاولى من اداء الفنانين الهنود ارفند باريخ (ستيار) وبورفي باريخ (غناء) وحنيف خان (طبلة)، وحالت الانغام والاصوات فضاء "طيبة زمان" الى جو من السحر والصفاء العميق، ولم يبدو هذا غريباً لاسيما ان البانديت ارفند باريخ واحد من اشهر عازفي آلة السيتار في الهند اذ ان قدراته الخلاقة والخلفية الروحية لاسرته تمكنه من اضافة لمسة شخصية على فلسفة الموسيقى والتعبير عن الموسيقى الهندية التقليدية المعروفة باسم "غارهانا".
واذا كانت بورفي باريخ مغنية متمكنة في فهم موسيقى "الكيرانا غارهانا" فهذا ليس بالغريب فهي ابنة ارفند باريخ كذلك اخذت عن والدتها قدرتها الغنائية التي كانت اخذتها الى كبرى الحفلات الغنائية في الهند وما كانت تقدمه في محطات الاذاعة.
والفقرة الثانية في الحفل مثلها عزف بارع للفنان الاردني صخر حتر على آلة العود، وعزف خلالها حتر صاحب الاثر الفني في فرقة الفحيص وفرقة الموسيقى العربية في المعهد الوطني للموسيقى، تقاسيم ومقطوعتين، اكدت انه صاحب لمسة مميزة في العزف على العود لاسيما محافظته على اصول العزف وتأثره باساليب الجيل الاول من عازفي العود العرب في هذا القرن.
صخر حتر ..لمسة اردنية في عزف العود
والجانب (المستقبلي) في الحفل الموسيقي مثله الهولندي لوك هوتكامب عازف الساكسفون وكاتب الموسيقى الاليكترونية بالاعتماد على تقنيات الكمبيوتر، واللافت في عزف هوتكامب ابتكاره برنامجاً محوسباً، يتمكن من خلاله من عزف نغمة على الساكسفون يعيد الكمبيوتر تقديمها باصوات الاف موسيقية اخرى (غالباً البيانو) اضافة الى مؤثرات من الحياة المعاصرة تنقل الاحساس بالوقائع اليومية كأصوات القطارات والطائرات وغيرها، غير ان ما جعل مقطوعات هوتكامب شديدة الجفاف، لا (هذيانها) النغمي حسب، بل افتقادها عنصر (الميلودي) وانفاصلها عن اي تسلل مقامي وهذا ما جعل اقرب الى الضجيج منها الى صورة الانغام.
واردنياً كان هناك حضور طيب للانغام الموروثة كشفت عنه (فرقة العقبة للفنون الشعبية) التي قدمت فقراتها في باحة فندق (الموفنبك) وجذبت اهتمام العشرات من ضيوف المؤتمر الثامن والعشرين للمجلس الدولي للموسيقى، وبدت انغام البحر والصياد نوعاً شيقاَ من اغنيات والحان البيئة التي تكاد التطورات المعاصرة لحياة الانسان تشكل تحدياً لها بل وتكاد تضيق عليها فرصة البقاء.
*متابعة نقدية نشرت في صحيفة "الرأي"25/9/1999
|