عبد الرحمن الباشا
ففي مكان اعد بعناية للموسيقي الرفيعة حيث السجاد المفروض على مدخل توزعت الشموع على جانبيه وينتهي الى فسحة امام المعلم الرئيسي في اثار البيضا، جلس عبدالرحمن الباشا الى بيانو ضخم امام جمهور نوعي وخاص، ليلعب بطريقة لا تخفى روحيتها، برقة لمساته على مفاتيح البيانو ونباهته في اختيار المقطوعات، فبدأ مع عمل رقيق "سوناثا رقم 332" لفولجانغ اماديوس موتسارت وخلق مزيجاً من الحضور الرقيق ما بين المكان وحميميته وعمقه الحضاري وبين العمل الموسيقي.
سوناتا موتسارت عكست حسب فهم عبدالرحمن الباشا الاثر الحب لصاحب اوبرا "زواج فيجارو" و"القداس الجنائزي" فتوقف عند البراعة الروحية لموتسارت وفيض احساسيه التي تأتي غالباً بجمل موسيقية غير معقدة ورهافة نادرة، واصبحت هذه من الملامح التي يمكن الاستدلال بها على احلام الفتى الحزين (برغم فرحة الظاهر) اماديوس موتسارت.
وانتقل جو الامسية الى تركيب ووقع مختلفين تماماً ولا عجب في ذلك، حين نعرف ان الباش بدأ بعزف "سوناتا رقم 111" لبيتهوفن الذي كان سيد قالب السوناتا وكذلك في ادخاله على هذا القالب غنى فكرياً ورؤية عميقة لم تكن سائدة قبله.
ولفرط رهافة ورساقة العزف الذي تواصل بعد استراحة قصيرة مع "سوناتا رقم 3" للمؤلف شومان، بدأ الصمت والانصات مقدسين حتى كاد الحجر يرق لفرط براعة الباش الذي زاد في الجانب الروحي بعزفه على الجانب التقني وذلك يأتي منسجماً مع الاصل الشرقي الذي لايبدوالعازف في وارد التخلي عنه.
وكنت التقيت الباشا قبيل الامسية وسألته: "انت في مكان له علاقة بذجور الحضارة والثقافة العربية، تعزف موسيقى اوروبية، هل هذا مؤشر على الجانب الانساني المشترك الذي يمكن للموسيقى ان تعبر عنه" فقال عبدالرحمن الذي يستعد لتسجيل اعمال المؤلف شوبان الكاملة:
"الموسيقى لغة لا يختلف عليها احد، وتعبر عن الانسانية العميقة وهي صلة وصل بين مختلف الحضارات خاصة حين نتوصل الى الميزات التي توصلت اليها الموسيقى الكلاسيكية التي استطاعت ان تعبر عن المشاعر الانسانية النبيلة، الموسيقى برغم انها تخلق في وقت محدد وتعزف فيه ويستمع اليها، الا انها تظل تعبر عن ازلية الحياة".
وعن ازمة الموسيقى الاوروبية حالياً واتجاهه للتأليف الموسيقى وهل سيكون ضمن قوالب عربية يقول عبدالرحمن الباشا: "الموسيقى الاوروبية حالياً ضائعة لانها اخذت اتجاهات مختلفة وهي غير قادرة على جلب محبة الجمهور الكلاسيكي، ومن هنا اتجه الكثير من الموسيقيين الغربيين الى الموسيقى غيرالاوروبية ومن اجل استلهام اشياء منها: انا لست مؤلفاً محترفاً ولا امارس مهنة التأليف ولو كنت مؤلفاً لكنت استخدم كثيراً من طاقات الموسيقى الشرقية لكن بقالب جديد ليس بالآلات الشرقية القديمة ولكن باستخدام كل الالات الحديثة وكنت سأركز اكثر من الموسيقي الفولكورية، الموسيقى التي اشتغل عليها، موسيقى بسيطة جداً، ولكنها صحيحة، لانها تأتي من قلب الارض، ومن قلب الانسان".
واشار الباشا "علينا ان لا ننسى ان الموسيقى الكلاسيكية الغربية لم تولد من لا شيء، قبلها كانت الحضارة الاندلسية التي كانت تعطي نورها لكل اوروبا، ومن جذور الموسيقى الاندلسية صار هناك تطوير ولكن يظل اثرها قائماً، وانا باحساسي الشرقي اعطي اهمية لهذه النقطة اي جذور الموسيقى الشرقية التي اتصلت بها، مثلاً انا اعزف لشوبان باحساس عميق (يقال انه شرقي) والاذن الحساسة في الغرب تلتقط هذا الاختلاف بين عزفي للمقوطعة وبين عزف الغربيين لها".
عبدالرحمن الباشا وعلي عبد الامير- البتراء الاردن 1999
عبدالرحمن الباشا ولد في بيروت 1958 وبدأ دراسته في العزف على البيانو العام 1967 على يد زوارت سركيسيان وهو احد طلبة مرغريت لونغ وجاك فيفرييه. وحين بلغ العاشرة من عمره، ظهر في اول حفل موسيقي له بمرافقة فرقة موسيقية، وفي العام 1973 تنبا كلاوديو اراو بمستقبل عظيم لعبد الرحمن الباشا بين عازفي البيانو في العالم. وفي العام 1974 عرضت عليه منح دراسية من كل من فرنسا والاتحاد السوفياتي السابق وبريطانيا، الا انه قبل العرض الفرنسي مدفوعاً بعلاقة "الالفية الثقافية" وقد التحق بمعهد باريس الموسيقي وتخرج منه فائزاً باربع جوائز اولى: موسيقي الحجرة، البيانو، توافق الانغام (الهارموني) والانغام الموسيقية المصاحبة (كاونتر بوينت).
وفي حزيران 1978 فاز عبدالرحمن الباش باجماع هيئة التحكيم في مسابقة الملكة اليزابيث ملكة بلجيكا، كما فاز بجائزة الجمهور في المسابقة ذاتها، وساهمت المسابقة في طرح اسم عبدالرحمن الباشا كعازف بيانو على الساحة الدولية، ومنذ لحظة فوزه بدأت الصحافة الموسيقية بمقارنته باعظم عازفي البيانو في هذا العصر وانهالت عليه بمديحها لبراعته الفنية وهدوئه والعمق العاطفي لعزفه.
ويحيي عبدالرحمن الباشا حفلاته الموسيقية في جميع ارجاء اوروبا، من دار موتسارت في سالزبورغ بالنمسا الى مسرح الشانزليزيه بباريس ومن فرقة برلين الفهارمونية الى قصر الموسيقى في امستردام، كما انه اقام حفلات في اليابان والشرق الاوسط والولايات المتحدة، وتتميز مجموعة الاعمال التي يعزفها بما فيها اكثر من خمسين كونشرتو بالتركيز على باخ وموتسارت وبيتهوفن وشوبان وشوبرت وشومان وراخمانينوف ورافيل وبروكوفييف.
وفي العام 1993، نال اول تسجيل على اسطوانة للباشا وهو "الاعمال المبكرة لبروكوفييف" الجائزة الكبرى لاكاديمية شارك كرو التي تسلمها من السيدة بروكوفييف، ارملة الموسيقار الروسي الشهير، وقام حتى الان بتسجيل عدد من اعمال الكونشوتو لحساب شركة فورلان، منها ثلاثة اعمال من تأليف باخ واثنان من تأليف رافيل والمجموعة الكاملة لاعمال السوناتا التي الفها بيتهوفن، وعدداً من اعمال شومان وروافيل وشوبرت،وهو الان منكب على تسجيل اعمال شوبان الكاملة للبيانو حسب الترتيب الزمني لتأليفيها، اضف الى ذلك ان عبدالرحمن الباشا ذاته، مؤلف موسيقي، ومنح في العام 1981 الجنسية الفرنسية اللبنانية المزدوجة وهو يقيم حالياً بالقرب من باريس.
* واحدة من متابعاتي النقدية لاعمال المؤتمر 28 للمجلس الدولي للموسيقى(اليونسكو) في البتراء الاردن.