تساؤلات عن الانسان والموسيقى*
ماعاد سماع الموسيقى عملا يكتسب صفة التفرد المزاجي، فالنغم يخترق كل أجواء النشاط الإنساني، ووجدت الموسيقى إهتماما عبرت خلاله من دائرة المعرفة المتذوقة الشخصية الى حدود الموضوعة التي تفرض لنفسها وجودا يوجب حتى النقاشات الساخنة! نحن نحيا مثل هذا الظرف ونتلمس انجازاته المعرفية، ومنها الموسيقى، محور حديثنا والمسألة المتوهجة بالأفكار. ان هذا الضرب من الفنون، اذ يجد في تعقيد المناهج فرصة سانحة ايضا لتسليط الضوء على أصوله، يبقى معتمدا على فكرة بديهية، فالموسيقى ظلت دائما مرآة تعكس النشاط الحياتي وتطمح في غايتها الإبداية لإظهار وتجسيد نشاط الانسان الروحي تجاوزا منها وتطبيقا في ذات الوقت لمعضلة "الفن والحاجة للفن"، وكشف ذلك الوهم الذي يقود بعض الأحيان إنطلاقا من تلك المعضلة الى تعطيل الصيرورة بدوافع عدة ، منها الحاجة لإرضاء الذات المتلقية، متناسية بذلك جل أهداف الفن الموسيقي في خلق صور وتوقعات خلاقة يصوغها في ذائقة المتلقي وليس العكس!
الإنشودة.. لاجتياز وحشة المكان إبتكر الانسان البدائي وسائله في ضرورات الحياة حينما اكتشف وجوده الذاتي، كمخلوق بكر هو ايضا، وظلت القوى الطبيعية تجتاحه، بانفلات وحشيتها الدائم وصراعه المتهافت معها وتعلق بجملة خفايا روحية "غير واعية" تمكنه من الوثوب لمرحلة تالية تفرضها وقائع العيش ذاته، فوجد إشتقاقات عدة من الاصوات الطبيعية، وأنضجها بحكم التراكم العددي للسنين، فأصبحت بما يشبه "الإنشودة" واتخذها وسيلة تمده بقوى معنوية كبيرة لحظة المواجهة "كان الانسان البدائي يعتقد ان الانشودة تساعده على السيطرة على القوى الجبارة، وهي القوى الطبيعية مثل المرض والموت وهطول الامطار والجفاف". واذا كانت البداية هذه تمثل أصل نشوء أنواع الخلق الفني الاخرى كالشعر (الاقرب للموسيقى)، فهي توحي بصداقة أولى أقامها الانسان مع النتاج الذهني، سيما انها مدته بامكان "تهدئة غضب الطبيعة" وبالتالي تثبيت وجوه أمام كيانات ظلت برموزها وجدلها الطبيعي تمثل بالنسبة له، عوامل تهدده بالفناء!
إنهاء "الوظيفة" واكتساب الجمال "المجرد" ان هذا التوسل الذي أبداه الإنسان البدائي عبر الإنشودة و"توظيفها" من اجل نزول الرحمة عليه، لم تظل في حدودها هذه بعدما "هدأت" الطبيعة الغاضبة نوعا ما، اذ اصبح وجود الانسان اكثر رسوخا وامتد نشاطه الى جوانب "ذهنية" عديدة، منها تطور العقائد والمفاهيم، واكتسبت الأنغام والأصوات، صفة النوع الإسطوري، واتشحت برداء الهي، ان لم يكن "دينيا" بالتحديد، فظهرت التراتيل والأناشيد والأدعية وهي لا تخفي أصلها الموسيقي، بل انها موسومة بذلك الشكل من الأداء الوظيفي لقيمة التعبير في الطقوس، وفي اولى البنى الحضارية، خفت تلك الضرورات الأولية للحياة بحكم اعتبارها حقائق مسلم بها، وبدأت الاسئلة تأخذ منحى البحث العميق في الجدوى الحياتية لوجود الإنسان، وقيمته فيما يستطيع ان يتركه من آثار تشير لذلك الوجود. وهكذا سطعت التجربة الفكرية وازدهرت المعرفة بانشطتها وحان في ذلك الوقت، إنشطار الفن الموسيقي عن اي وظيفة تقليدية وحياتية، وأصبح ذلك الفن الرفيع الذي يحتوي أساليب تنغيم الأصوات وابتكارها بجودة ووضعها ضمن مفهوم "السماع والأنغام"، ووجدت ضروب ذلك الفن، الاهتمام البالغ، حتى وضعها افلاطون في مقام: ملهمة الإنسان، مشاعر النبل والحب والحكمة والعدالة. ان ذلك لم يكن ايجادا قسريا يتميز بالصنعة لشيء غائب، بل هو إكتشاف لخصائص موسيقية في الكون ذاته، فقد "أحس الانسان بان اجزاء الكون او اجرامه السماوية تتحرك بانتظام وتناغم وتناسب. فتنبعث من حركتها تلك الموسيقى المطلقة".
منحوتة لعازف كمان في مدخل دار الاوبرا المصرية: كاميرا علي عبد الامير
والموسيقى وجدت في تقادم الحضارة وانجازاتها على الصعيد الفكري، ما وضعها في تقييم أكثر ذاتية، لكنه في ذات الوقت، أكثر تجسيدا في علاقتها بالانسان، حيث جعلت بمقام المرصد الحساس لحالة الانسان الروحية وعلاقته بالاخرين، بعد ان يكون قد حسم وعي ذاته، فـ"الهارموني" والايقاع يوجدان، حيث يجد الإنسان التناغم والتناسب و "الانتظام"، وبالتالي انسجام "الذات مع الاخر".
اللاموسيقي.. عواطفه مظلمة كالجحيم ان وصفا يتصف بالرهبة كهذا، لا يتردد عبقري مثل شكسبير في إطلاقه، وهو في صورته الأخرى يحمل ذلك "التقديس" للمموسيقى، فيضعها صفة ملازمة للقيم الخيرة والمعاني الصافية في النفس البشرية. ودعنا نقرأ من "تاجر البندقية" أوجه ذلك التعظيم الذي أعطاه شكسبير للموسيقى: كل امريء خلت من الموسيقى نفسه ولا يحركه وئام العذب من النغم خليق بالخيانات والمكائد، والغدر بضروبه... وصيحة تجلب الفزع كهذه ، وتحرك في الأعماق سكونها الحجري، جاءت في عصر إكتسبت فيه الموسيقى شكلها التعبيري وقنوات الإتصال، وظلت تكرس تجردها عن التأثيرات الخارجية شيئا فشيئا على اختلاف بقية الانماط الفنية الاخرى، واغتنت تجارب التأليف فيها، وبدأت عصور العباقرة تتوالى، وحققت نظريات الفنون تتابعها المتطور، فيما كانت فلسفة الموسيقى كفن تترسخ وتجد الكثير من المعاني التي تعمّق علاقتها بالإنسان، وتوهجت دائما بقدرتها على الإستجابة والتأثير في دواخله، من اجل إستبيان المعنى في الموسيقى والذي هو خفي لكنه مؤشر، غامض يتطلب ملاحقة متكررة خلال الإصغاء، وليس تلقية جاهزا أو بشكل مباشر. وحوار الغموض واكتشاف المعنى، بدأ مع تطور الحضارة المتسارع، حين تشعبت الوسائل الفنية وتعقدت الأنواع التعبيرية حتى من نمط أصلي راسخ التأثير، ولعجالة الإيقاع الحضاري هذا، نجد إتصاله المؤثر في الموسيقى ذاتها حيث إنتهت إسطورة الزخرفة الشكلية، فـ"طغى الإيقاع على الشكل".
الإنسان والموسيقى.. في عالم اليوم في اكتشاف عوالم جديدة، أصبح الخلق الموسيقي يحلّق في حدود لا يمكن تصورها، لكن هذا لا يمكن ان يصبح مبعث اعتقاد خاطيء مؤداه، ان التجربة الماضية فقدت نبضها الحي وخرجت من قدرة التاثير على التعبير المعاصر، فالارتباط "الهارموني" بين الاتجاهات التقليدية والاكتشاقات اللاحقة التي جاءت بها مجالات "السيميائية" في الفن، اظهرت بان عموم الأعمال الموسيقية، مبتكرة حقا في جوهرها، وحقائق التغيرات الأفضلية "التطور النوعي" التي جاء بها القرن العشرون، بينت بان الموسيقى تعيد خلق ملامح الصورة التاريخية لزمن ما، وتتعامل مع قضايا الحياة المتفجرة. ان ذلك ليصدق على الأنماط الموسيقية التي تعرف بالأعمال الكبيرة وتتسم بالفخامة. لكن هناك نوعا مختلفا، يعني بملامح الصورة "الاخرى"، ذلك النوع الذي يتخلى عن تلك "الخطورة الفنية" ليصاحب حياتنا، ويضيف لونا لكل يوم من أيام وجودنا، ويعيننا على عكس حالة ما، وتندرج ضمن هذا النوع من الموسيقى، الأغاني التي تحمل عبء افكار الازمنة -كما هو الحال في أنماط الموسيقى الاخرى-، لكنها تحمل عبء إشتراطات الأزمنة واحكامها المسبقة، فتحمل ألحانها الخاصة وتفيض في الأثير، والأغنية تنتشر بسرعة فائقة، تخترق وعي الناس، وتجد لها مكانا هناك، لذلك يتبين لنا كم هو مهم أن تتضمن الأغنية أفكار أزمنتها، لا اشتراطاتها وأحكامها المسبقة، وتظهر ميلا شديدا لربط الأفكار والصور الحضارية بالجانب الشاعري الذي اصبح في مقدمة الصورة.
عازفة كمان المانية في مهرجان البحرين للموسيقى 2001
هذه علامة لتأثير الأزمنة، حيث الأفكار الحضارية اكتسبت تجربة غنائية- شاعرية، والإنسان المعاصر بدواخله وملكته الفطرية يحاول جاهدا، إحاطة ما حوله من عوالم بمشاعر كهذه.. كما اننا لكتابة أغنية نحتاط للأمر، بذات القدر الذي علينا إثارته (كفعل) للامر، اثناء كتابة عمل أكبر كالمؤلف الموسيقي مثلا، فنستحضر المعرفة الحاذقة والموهبة معا، والموسيقار شوستاكوفيتش نجد أعماله وقد أمسكت بروح الأزمة، فهو بشكل عام كان "صاحب إذن حساسية لجو الاغنية" على الرغم من عدم كتابته للاغنية كشكل موسيقي. ان ايجاد نقطة إلتقاء مشتركة بين عمل يظهر بملمسه الرقيق واخر بنسيجه المتشابك المعقد بعض الشيء، ممكنة، حين يصبح إلتقاط فكرة فنية مثيرة تجمعهما معا أمرا قيد الإنجاز لدى المبدع، ومن ثم يشتركان: العمل الرقيق والنسيج المعقد، في أعمال تبحث عن إعادة خلق حقيقية لملامح من حياة هذا العهد. السؤال يغدو اكثر وضوحا فيما اذا كانت هناك موضوعة تلخص "الموسيقى والإنسان في عالم اليوم"؟ فمثل هذا التساؤل يبدو غريبا كونه يتعلق بحقيقة معلقة بشيء ما نسبي، فأي عالم تختصره كينونة واحدة؟.. أهو الاعتبار الجغرافي، الثقافي، أم الاجتماعي؟ كما ان السؤال يعني أيضا شيئا مبهما وغير متسق: فالإنسان في مختلف أنشطته، تتوزعه مستويات متعددة من الادراك. وللحديث بانسجام توفره العموميات يصبح لزاما تجاوز تلك التساؤلات، ولان ذلك من الصعوبة بمكان، يغدو الرحيل ثانية صوب اعتبار الانسان هو موضوع الفن في كل الظواهر والحقائق، خير ممر لفهم تساؤلات تلك العلاقة، وبالتالي إدراك جيل كامل من خبرات التأليف المعني برسم آفاق موسيقية معاصرة، هي فخورة بانتمائها لسمة زمنها، في ذات الوقت الذي نعدّها امتدادا للصعود المستمر في الخلق والابداع، وتاكيدا للمزيد من المعنى، وترسيخ قيم الوجود الجوهرية .. وبذلك فهي تعمل ضد كل المحاولات الدائبة لجعل الانسان كائنا هامشيا، خائر الروح! * مقدمة لكتاب "فصول في الموسيقى المعاصرة" الذي كان من المؤمل صدروه ضمن سلسلة "الموسوعة الصغيرة" ووضع له الموسيقي والروائي الراحل أسعد محمد علي تقديما جميلا، غير ان الكتاب لم يصدر بسبب توقف السلسلة اثر غزو صدام للكويت العام 1990، ومن ثم مغادرتي بغداد وعملي لاحقا في صفوف المعارضة العراقية، ونشرت كمقالة في صحيفة "الرأي" الاردنية الراي 4/3/2000.
|