المايسترو وعازف البيانو والمؤلف محمد عثمان صديق:
اصغر قائد للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية مشـغـول بـانـغـام بـلاده.. وأن عـاش المنــفى في الدأب ذاته الذي كان ينشغل فيه المايسترو والمؤلف الموسيقي العراقي بتدريب " أوركسترا المعهد الوطني للموسيقى" في العاصمة الاردنية عمّان على اداء عدد من اعمال موتسارت استعدادا لتنظيم حفل يتزامن مع اعتبار سنة 2006 "سنة موتسارت الذهبية"، كان محمد عثمان صديق ينشغل في بغداد باعادة بناء "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" في العام 1991 حين كانت بلاده تحاول الخروج من حطامها الذي آلت اليه حرب الخليج الثانية وليفخر بانه قاد الفرقة السيمفونية الأعرق في المنطقة لثلاث سنوات، في مشهد بدت فيه بغداد وكأنها تقوم من بين انقاض بناياتها وحطام جسورها وعذابات اهلها.
المايسترو والمؤلف عثمان محمد صديق(كاميرا علي عبد الامير)
خلال الفترة التي اصبح فيها صدّيق اصغر قائد للفرقة السيمفونية العراقية انفتحت العروض الفنية للفرقة على تجارب لم تكن قد عرفتها بتلك الوفرة مع امتداد عمرها الذي قارب الخمسين عاما، تجارب لمؤلفين موسيقيين عراقيين تبدأ من اعمال حسين قدوري ولا تنتهي بمؤلف شاب حينها هو عصام الحكيم مرورا باعمال الجيل المتوسط من الموسيقيين العراقيين ومنها ما كتبه سالم عبد الكريم. وحال صدّيق ليست استثناء عن حال افضل الموسيقيين العراقيين في ربع القرن الماضي، فجلهم درس في "مدرسة الموسيقى والباليه" التي تأسست العام 1969 ولتتحول حاضنة حقيقية لمواهب موسيقية باتت متوزعة اليوم بين عواصم العالم. وكان صديق قد عاد إلى بغداد وتحديدا إلى مدرسته بعد دراسته الموسيقية العليا في موسكو وحصوله العام 1987على شهادة الماجستير في فنون العزف على البيانو. ثقة "الاستاذ" لم تنزع من روحه ارتعاشة الخطوات الاولى له في المكان ذاته، وعبر تحصيله العلمي حاول ان يرد جزءا من دين له عليه استاذا وعازفا خبيرا ومؤلفا موسيقيا هذه المرة. الحنين للبيت الاول..لمدرسة الموسيقى والباليه عن ذلك المكان الصغير الذي ملأ ارواح المئات من الموسيقيين الموهوبين وعقولهم بالمعرفة يقول محمد عثمان صديق: "تعرفت خلال جولاتي في العالم على مدارس موسيقية كثيرة في اوروبا واميركا، غير انني لم اجد مثيلا لمدرسة الموسيقى والباليه، فتجربتها فريدة وكانت فكرة تأسيسها جرأة كبيرة. لقد خلقت هذه المدرسة جيلا موسيقيا متقدما ولولا الظروف التي مر بها العراق خاصة في التسعينيات والتي ادت إلى سفر وهجرة الموسيقيين لكانت هذه المدرسة واحدة من افضل المدارس الموسيقية في العالم".ولا يبدو اعتزاز صديق وفخره بمدرسته قادما من مجرد الحنين فهو يلفت النظر إلى ان" اوركسترا المدرسة كانت تتكون من الطلبة فقط وتضاهي الفرقة السيمفونية الوطنية التي تضم خيرة العازفين المحترفين، والآن الموسيقيون العراقيون المنتشرون في انحاء العالم والذين يشغلون مراكز مهمة هم من خريجي هذه المدرسة وإذا عادوا إلى العراق سوف يخلقون ثورة وثروة موسيقية هائلة وسأعود اذا تحسنت الظروف الامنية في البلد، ذلك ان الفنان الموسيقي عاش في ظل ظروف صعبة في عهد النظام السابق".
صديق في تمرينات اوركسترا المعهد الوطني الاردني للموسيقى(كاميرا:علي)
واذ ظلت الاحلام تراود صديق وعدداً من موسيقيي العراق في ان تجربة الحرب والعزلة الدولية التي فرضت على البلاد عقابا للنهج العدواني، ستنتج فهما جديدا بين اوساط النظام الحاكم في بغداد، لا بل ان احلاما كهذه كانت قد راودت معظم من حافظ على حد معين من حياته الاجتماعية والثقافية من ممثلي الطبقة الوسطى العراقية، فانها ما لبثت ان تحولت إلى كوابيس مع استمرار خطاب الصدام مع الغرب ودول الجوار، ومع استمرار العزلة التي بدأت تلقي بظلالها الاقتصادية والاجتماعية، فبدأت الهجرة حلا وحيدا امام النخب الثقافية والفكرية والعلمية، ومن هذا المدخل يمكن النظر إلى هجرة قائد الفرقة الوطنية السيمفونية ومعه عدد من عازفيها البارزين إلى العاصمة الاردنية للعمل في اوركسترا المعهد الوطني. عن هجرته يقول صدّيق "الموسيقي يحتاج إلى احتراف وسفر للقاء الموسيقيين العالميين،والمشاركة في فرق موسيقية متطورة، لكننا كنا في العراق وفي ظل النظام السابق مختنقين لا نرى احدا، ممنوعين من السفر ولا احد يأتينا، لذا يضطر الموسيقي مثلما كل المبدعين، للسفر والاطلاع على تجارب الاخرين.هذا هو مطلب الفنان بصورة عامة والموسيقي بصورة خاصة، ان يلتقي موسيقيين عالميين وان يستمع ويعزف ويتعرف على تجارب ومؤلفات موسيقية جديدة ويختلط بالمدارس الفنية ويتعرف على اساليبها". ويقدم حال المايسترو والمؤلف عثمان مثالا آخر على اشكالية ظلت تؤرق عددا غير قليل من موسيقيين عرب درسوا وتخصصوا باداء الوان الموسيقى الغربية "الكلاسيكية"، اشكالية تشي باكثر من حوارالثقافة "الغربية " مع البيئة العربية و الشرقية،بل هي تصل إلى ازمة في التلقي باتت جدية مع مؤشرين،الاول في ان "الموسيقى الصرفة" عموما و"الكلاسيكية" تحديدا تعاني انحسارا في التلقي على مستوى العالم لصالح الشكل الموسيقي "الاستهلاكي"، والثاني يتمثل في تصاعد قيم محلية متشددة باتت تضيق الخناق على فكرة الاتصال الثقافي الجدي مع الغرب.انها اكثر من ازمة"هوية ثقافية" عربية وشرقية حد انها باتت تطرح نفسها نوعا من "الاغتراب" وان سعى بعض من عانوا هذه الازمة إلى نتاج ثقافي "توافقي"،وفي حال الموسيقيين العرب ممن عملوا في ميدان الموسيقى الغربية تاليفا وعزفا غالبا ما نجد اعمالا مكتوبة وفق الاطار الغربي دون ان تنقطع مع بيئتها المحلية.وفي مؤلفات صديق للاوركسترا وتوزيعه اعمالاً موسيقية او حتى في عزفه على البيانو،يمكن ملاحظة "روحية"عربية وشرقية التي يرى ان ذاكرته السمعية تدربت عليها، ويقول: (خلال دراستي للموسيقى الغربية مثل اعمال بيتهوفن وجايكوفسكي وباخ وموتسارت اكتشفت ان موسيقى كل هؤلاء المؤلفين العظام نابعة من تراثهم، واشهر اعمال جايكوفسكي جاءت من ألحان تراثية من الريف الروسي وموسيقى بيتهوفن جاءت من ألحان شعبية كان الفلاحون يغنونها في احتفالاتهم واشتغل عليها بيتهوفن وحولها إلى موسيقى عالمية)، ويمضي موضحا فكرته عن الموسيقى العربية: (الالحان العراقية والعربية والآلات الشرقية بصورة عامة غنية جدا، ورغم تخصصي بالبيانو، الا انني انتبهت واشتغلت مبكرا على الموسيقى العربية والآلات الشرقية مثل العود والناي والجوزة والقانون، هذه الآلات متميزة بصوتها ودافئة وقريبة لسمع الانسان وفيها امكانيات متطورة وعالية جدا لكنها تحتاج إلى دراسة وتطوير وبحث كما هي بحاجة إلى عازفين متطورين اكاديميا، عازفين يدرسون هذه الآلات ويدّرسون الموسيقى بصورة علمية ويطورون مهاراتهم وان لا يعتمدوا فقط على السمع والتلقين. كل الآلات الموسيقية الغربية كانت في الأصل آلات شعبية، سواء الكمان او الفلوت، لكن المؤلفين عرفوا كيف يوظفونها بصورة ابداعية ويؤلفون لها. هذه الآلات التي نراها اليوم في الفرق الاوركسترالية لم تكن موجودة قبل 200 سنة بل كانت الآلات بدائية وتطورت". ملامح عراقية في شكل اوركسترالي! وحول الملامح العراقية "المحلية" التي حضرت في اعماله يقول: "كنت استمع كثيرا لموسيقى جنوب العراق مثلا مع اني من مدينة الموصل في الشمال، و تكاد اعمالي كلها تكون من الحان الجنوب. موسيقى الجنوب اثرت في كثيرا كما الاعمال العربية الكلاسيكية،لكن لولا الموسيقى الغربية لما استطعت ان اضيف شيئا للموسيقى العربية والشرقية، لقد تعلمت من الغربيين احترام موسيقاهم، هذا علمني كيف نحترم موسيقانا ونقدمها بأسلوب راق".
صديق ..سيرة موسيقية وانسانية عراقية مميزة
وعن تحقيق "الانسجام" بين محلية اللحن وشكل الاوركسترا السيمفوني يوضح صاحب "كونشرتو الناي والاوركسترا" بانه ممكن "من واجبنا ان نوصل موسيقانا للعالمية من غير ان نؤثر على التراث. انا وظفت الآلة الشرقية في مؤلفاتي بأسلوب آخر ولي مقطوعات كثيرة جدا مكتوبة لآلات شرقية وبصحبة آلات غربية او كونشرتو بين آلة شرقية والاوركسترا. ألفت عملا يجمع بين الناي والاوركسترا وكتبته بطريقة تمكن أي اوركسترا في العالم من عزفه لأنه يخلو من المسافات المعروفة بين الموسيقى الشرقية والغربية "ربع تون"، ولابقاء هذا الجانب الذي يشير إلى روحية العمل الشرقي تركت حيزا لعزف منفرد للناي وفيه يمكن للعازف ان يرتجل ويعبر عن هوية موسيقاه.الهدف من هذه المؤلفة هو ان أي عازف ناي يستطيع ان يعزف هذه المقطوعة مع أي فرقة اوركسترالية وفي أي مكان بالعالم، وهذا ما حدث اذ أن العازف (حسن الفقير) قدمها صحبة اوركسترات في باريس وروما وبرلين وغيرها من مدن العالم. كما اني ألفت "كونشرتو القانون والاوركسترا"، وألفت حوارا يجمع بين الفلوت والناي وبمصاحبة الاوركسترا ومن يسمع العمل سيتأكد من ان الناي لا يقل ابداعا ومهارة عن الفلوت الغربي". ويبلغ حضور البيئة المحلية عند محمد عثمان صديق مستوى الحضور المؤثر،وهو مالم يمكن تلمسه بالمستوى ذاته عند نظرائه من مؤلفين موسيقيين عرب كتبوا للاوركسترا الغربي، وعن هذا التأثير يقول "نعم البيئة، فنحن في مجتمع معظم ما نسمعه موسيقى عربية. ويجب ان نمارس دورنا كموسيقيين محترفين ونعمل على توسيع وتطوير موسيقانا ونعيد صياغتها، من دون، وانا اشدد على ذلك، من دون ان نمس روحها الاصلية ونحرفها ".في هذا الاطار يرى ابن التجربة الموسيقية العراقية التي عرفت تنوعا ثرا في نصف القرن الماضي ان "المقام العراقي محصن، ضمن تجاربي يعجبني ان اوزع سماعيات لكنني لم اقترب من المقام العراقي،لأنه لا يمكن ان يقدم الا بالشكل الذي قدم فيه وله خصوصية في اسلوب تقديمه ولا أجرؤ على التحرش به هو هكذا كتب وهكذا يقدم وله خصوصيته". وفي ما يبدو لدارسي الموسيقى العربية ونقادها "مأزقا" اسمه كتابة الالحان العربية وفق اشكال غربية، لا يبدو الامر كذلك عند صديق، فهو يشير إلى حيوية الشكل الموسيقي الذي يكتب وفقه مؤلفون عرب كثيرون غيره" التقي مع اكثر من مؤلف عربي في مؤتمر "الموسيقى الجادة" السنوي بالقاهرة وقدمت اعمالي فيه فضلا عن انني قدت اوركسترا القاهرة وتعرفت على موسيقيين من لبنان ومصر والسودان من خلال اعمالهم الممتازة جدا.. جدا.. جدا ولا استطيع وصفها كلاما، وفاجأتني هذه الاعمال كما فاجأني عدد مهم من العازفين المتميزين". موسيقيون ناجحون...في المنفى! واتصالا مع هذا "الاغتراب " الذي يرفض تسميته "مأزقا" يعلق صديق على هجرة موسيقيين عرب كثيرين إلى الغرب ويقول " في سنة 2004 نظمت المانيا لقاء للموسيقيين الذين لا يعيشون في بلدانهم، اي في " المنفى"، وقدمت اعمالي في متحف برلين، وهناك تعرفت على موسيقيين عرب متميزين في اعمال لو جمعت وسجلت،فانها ستحدث ثورة في الموسيقى العربية وبسهولة ستصل إلى المتلقي الغربي".ومع كلام اقرب إلى "الثقة" للموسيقار العراقي عن "ثورة" بامكان زملاء عرب يعيشون في المنفى تحقيقها،الا انه لا يقارب موضوعا جوهريا تشكله الظاهرة يكمن في سؤال "لماذا هاجر الموسيقيون العرب من بلدانهم؟ولماذا يعيشون المنفى؟" وعن حال الموسيقى العربية الآن يرى صدّيق ان الحديث السائد عن تدني ذائقة الجمهور وجعله سببا لتراجع الموسيقى الجادة، حديث يفتقد الموضوعية " الجمهور يفضل هذه الموسيقى.. جمهورنا ذكي وناقد وواع. عندما نقدم اعمالا كلاسيكية عربية لمحمد عبد الوهاب وصلحي الوادي نرى ان الجمهور يتفاعل معها ويعجب بها ويسألنا عنها، بالتأكيد هناك تقصير في اظهار اعمال مؤلفين عرب كبار، هناك مثلا مؤلفات رائعة جدا للعراقيين منذر جميل حافظ وعبد الامير الصراف وكذلك اعمال مؤلفين عرب غيرهم، ولكن كيف يمكن للمتلقي العربي ان يسمعها؟".السؤال الذي ينهي به صدّيق تعليقه يكاد يصبح "نقدا" لحال تقاعس في دعم حضور بامكان الموسيقيين العرب الجادين تحقيقه لو توافرت فرص حقيقية لهم" هناك مسابقات عالمية للموسيقى الكلاسيكية الغربية لكننا لم نسمع عن وجود مسابقة للموسيقى العربية الكلاسيكية، تراثنا غني جدا وانني غالباً ما اعود إلى تراثنا لاستعيد عافيتي الموسيقية". |