شعراء عراقيون تحت النار: "فرائس المتوحش في هذه الأرض"
نصوصهم صارت منذ سنوات ، ملتهبة وتعيش حروبها السرية والمعلنة ، فكيف حال شعراء في العراق الآن وقد اطبقت النار على فضاءات البلاد ؟ كيف ارتعاشاتهم ، كيف خيباتهم ، كيف انفاسهم المنهكة ؟ كيف السبيل الى فسحة تحتمل جراحهم فيما النشر اقفلته تماما قصائد المديح . مالذي سيفعله الشاعر طالب عبد العزيز ، والبصرة التي ما غادرها مقتفيا في ذلك خطى " المواطن الأبدي " محمد خضير ، صارت كما مشهدها ، غابة نخيل تتلظى بين قسوة نيران " التحالف" وعدوانية " فدائيي صدام" ؟ وهل سيردّ الشاعر كاظم الحجاج على احتراق مدينته التي ما انفكت تحترق منذ طلقات حرب صدام الأولى على ايران ، بحكايات تجمع من المشهد الدموي مفارقات كوميدية ؟ هل سيكتب قصيدته ساخرا من فوز الجنود البربطانيين على لاعبي مدينة الزبير ضمن مباراة ودية بكرة القدم جرت مؤخرا ؟ وحين نظل في فضاء البصرة المحترق ، فسنرنو بهاجس القلق والإرتباك ونحن نسأل عن الشاعر عبد السادة البصري ، شاعر منكسر وحزين ، يرثي ضفاف " شط العرب " التي ما عادت فسيحة لفرط رفيف اجنحة الطيور المهاجرة من الشمال الأوروبي في الشتاء . والى الشمال الغربي من البصرة ، حيث عاصمة الغناء العراقي الحزين ( الناصرية ) ، سنجد الشاعر زعيم النصّار الذي حوّل ضعفه الإنساني و" ارتباكه " و" مخاوفه " الى نص مشتعل بالحياة وبالسؤال المتوهج بالألم ، سنجده وقد فرّ العقل من رأسه بسبب الهاوية التامة التي صارت اليها مدينته المذبوحة على الفرات . كيف سيكون المشهد بالنسبة اليه ، والقتلة يدخلوها افواجا افواجا : جند صدام العتاة الشرسون و" إمامهم " علي الكيمياوي الذي جعل الناصرية مقرا ، ينظم من خلاله " المقاومة" ، " المتطوعون العرب " من المتشددين الإسلاميين الذين هرعوا لتفريغ شحنات حقدهم على شيعة العراق تحت شعار مقاتلة " الصليبيين الكفار " ، واخيرا جنود " التحالف " الذين ما ان بسطوا نفوذهم ، كادت المدينة تموت عطشا فيما الناس يهرعون لجمع قتلاهم الوفيرين . وفي فضاء عاصمة الحزن ( الناصرية ) ذاته ، سنجد الشاعر عقيل علي وقد عاد من بغداد حيث لفحته نيران المخابز اذ يعمل فرّانا ، سيكون الألم كفيلا هذه المرة بان يجعله عثراته قاسية ومدمرة ، وسيجد ان نار تنور الخبز ارحم من نار تكتوي بها امكنته الأولى الرحيبة ، وقد يجد العزاء في جملة ارسلها له شقيقه اللاجىء في الدانمارك الذي اختار المدينة السومرية ( اوروك) اسما له " ايها الراحل الى حروب تعوي ". والى الشمال الشرقي من البصرة ، ستكون هناك جنة الآلام العراقية ، ستكون (العمارة ) مدينة الشاعر الرقيق حسب الشيخ جعفر، وقد جاءها ابنها الشاعر جمال جاسم امين المفزوع من حروب البلاد السابقة ، فكيف حاله هذه الأيام ؟ هل سيظل يردد " انني سأكون آخر النبت في حقل ايامنا الأجرد "؟ ولو تابعنا مسيرة الصعود من " جنوب " المحنة لتوقفنا في الحلة ( بابل ) ولتختلط ملامح التراب بين اثر عباقرة فجر الحضارة الإنسانية وبين خطى علماء دين ولغويين وفقهاء وشعراء اضاءوا العراق يوم كان يغط في ظلام العثمانيين . وفي هذا المكان المخطوف بظل ثقيل لقصر ضخم بناه صدام على تلال غنية باثار المدينة القديمة ، سنجد صوت الشاعر موفق محمد بين اطلال تنوح منذ ان قتل ابنه " اشاوس " الحرس الجمهوري في قمعهم انتفاضة العراقيين في اعقاب هزيمة حرب الخليج الثانية 1991 ، وسنسمع صاحب القصيدة اللافتة " الكوميديا العراقية " يقول ردا على سؤال المحبين " ننتظر اجوبة التوابيت التي تحيي عظامنا بمساميرها ". وفي غناء الحلة الشجي المتلون بطمي الفرات وخصوبة ضفافه ، يمكن ان نصيخ السمع ولو بعد جهد جهيد الى صوت خافت النبرات ، عالي الألم هو صوت الشاعر عبد الحسين الحيدري الذي انكفأ مخلصا لصوت الشاعر " النقي " يوم اكتشف انه غير قادر على مجاراة " فرسان " الشعر المسرعين الى " مجد" ظل يراه كالفضيحة . والنبرة الخافتة ذاتها تتطلب منا في الحلة جهدا لسماعها ، نبرة الشاعر " الرومانسي " في لغته وفكره ، ناهض الخياط الذي ما انفك يزداد طولا ونحولا محاكيا في ذلك ، ظلا باردا بين مساحات واسعة من نيران الحقيقة . نحو الغرب من الحلة سيوصلنا الطريق الى كربلاء وفي المسافة مابين ضريح " سيد الشهداء " الأمام الحسين بن علي بن ابي طالب وضريح اخيه العباس سنجد الشاعر علاوي كاظم كشيش ، منتبذا مكانا على رصيف وهو يبيع السجاير مطلقا للفضاء القتيل دخان احزانه ويقول " صاح ديك على مقبرة الذاهبين الى ليلهم " . و في المدينة التي تتوسط الطريق بين الحلة وبغداد ، واخذت اسمها من الأسكندر المقدوني الذي اقام فيها ضمن خط فتوحاته ، سنجد الشاعر ركن الدين يونس مبددا وحائرا وعذبا ومنكفئا وصبورا وفي قصائده الكثير من الملح المر . والى بغداد المجللة بسواد مزدوج ، سواد دخان صدام الذي اراده كثيفا لتضليل عيون طياري " التحالف" وسواد قلبها وقد تفطر من فجيعة الصواريخ التي احالتها جحيما ، الى التي تنحني على نهرها خشية ان يجف هو الآخر ، نصل وقد ناء في مكان مقتصد الشاعر عبد الرحمن طهمازي متطلعا في تقلبات المدينة بين فسحة السجال المعرفي والإنساني في خمسينات القرن الفائت وستيناته والتي اغلقت بقسوة امام " افق مبلط برتابة الرأي الواحد" ، وبين مرجل صارت نيرانه لا توفر حتى الذي اغلق بابه ونأى . وفي مكان ليس "نائيا" عن الحياة وتدفقها اليومي في بغداد ، سيشعل الشاعر حسين على يونس نيران الأسئلة في اكداس الصمت " الإجباري " المفروض على الكلام النافع والصادق وسيقول " ترى مالذي سأصنع بكل هذه العواطف التي لاطائل لها / حميد سعيد / ماجد السامرائي / طراد الكبيسي /عبد الرزاق عبد الواحد /وهلم جرا ". وفي ناحية " راقية " تطل على ضفة دجلة في بغداد تطير " نوارس " الشاعرة ريم قيس كبة مستفزة ، مرعوبة وقد اثقل اجنحتها سخام الدخان الأسود ، ومع هذا فالنشيد يعاند الحرب ويعلو " نوارس تقترف التحليق".
الشاعرة ريم قيس كبه
والى جوار المكان الذي شهد صناعة الموسيقى في العراق وان صار شبحا ،الى جوار " اسطوانات جقماقجي" وجد الشاعر داود سلمان محمد مكانا يعمل فيه لبيع الورق والأحبار واسماه بقصد " مكتب الإنسان" في عاصمة تفرض اسماء " المجد " ، و " البطولة " ونحو مئات الأسماء المرادفة لحاكمها ولحزبها الواحد ولثقافتها العروبوية الفاشية ولحروبها المفتوحة ، ولمعاني اجهزتها السرية التي ضمت اخيرا الى قافلة الضحايا من الكتاب والمثقفين ، الشاعر عبد الزهرة زكي الذي قيل انه اطلق في اليوم الأول من الحرب مقابل تعهد بالتزام ثقافة " القائد المنصور بالله".
الشاعر سلمان داود محمد
وفي قلب بغداد القديمة ، بين اصداء الشعراء المهزومين امام صليل سيوف بني العباس ، في ( الأعظمية ) التي جاءت منها بلقيس حبيبة الشاعر الراحل نزار قباني ، ينوء الشاعر علي الحلي باعباء سنوات مرة ، سنوات كانت توهم فيها " شعلة البعث " التي تحولت نيران حروب الطغيان ، وليذهب بعدها الى لذة العزلة وهدوء الإنسجام الصادق مع النفس ، والى جنة توفرها اكبر مكتبة شخصية للموسيقى في بغداد . وفي غرب بغداد ، في مقبرة " الكرخ" يظل جسد الشاعر رعد عبد القادر الذي رحل قبل ايام يثير سؤالا كان انهك صاحبه واضناه حد الموت : هل من المستحيل ان نكون احرارا ؟
الشاعر الراحل رعد عبد القادر
وفي مدينة تغفو على واحد من روافد دجلة ، على " نهر ديالى " وهو احد اعذب الأنهار في العالم قبل ان يتحول مكبا لنفايات التصنيع العسكري ، ينشد النائي عن صخب الشعر العراقي المتمثل بتمجيد القائد ، الشاعر ابراهيم البهرزي ، قائلا : " صعبة هي حقا / ولكن اذا كان كل الذي نحب / فرائس للمتوحش في هذه الأرض / بأي الحدائق / سوف نضّيف ماضي الربيع / ونستوطنه ". *نشرت في صحيفة " الحياة" اذار 2003بعد ايام من بدء الحرب |