أدونيس وشمّة: اي علاقة بين الشعر العربي المعاصر والموسيقى ؟

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       15/11/2009 06:00 AM


أدونيس وشمّة وصوتان رقيقان في " ليلة استثنائية"
اي علاقة بين الشعر العربي المعاصر والموسيقى ؟

القاهرة –علي عبد الأمير
خضعت المقاربات الموسيقية والغنائية العربية للشعر المعاصر الى تجريب دائم ، مما جعل العلاقة بين الموسيقى والشعر امرا ملتبسا خاضعا للإرتجال اكثر منه الى السياق الفني وشروطه. ومع حالات نادرة ، امكن وجود قنطرة الى الشعر العربي المعاصر اقامها عدد قليل من الموسيقيين الا ان الأمر ظل في حدود " فضيلة" المحاولة  وهذا جعل عناصر البناء اللحني و الصوت الغنائي ، والشكل الموسيقي تتراجع لصالح "سطوة"  الشعروالشعراء.
هذا الأمر بدا مختلفا مع نصوص أدونيس التي صاغها " موسيقيا " المؤلف وعازف العود نصير شمة في " ليلة استثنائية " شهدها "مركز الإبداع الفني " في القاهرة (الأثنين) وقرأ فيها صاحب " مفرد بصيغة الجمع" مجموعة من النصوص الجديدة . البناء الموسيقي لشمة بدا محكما ومتقنا ،فكلماكان النص الأدونيسي " نثريا" كلما كانت الموسيقى مستغرقة كليا في قوالب عربية وشرقية ، وضمن توافق نادر بين " الإيقاع الداخلي" للنثر وبين الأطار المقامي في جملة شمة الموسيقية.
ومثلما كانت موسيقى شمة تغرف من اصولها العربية والشرقية ، فهي لاتخفي ملامحها المعاصرة لجهة التكنيك والفكرة ، وهذا جعل موسيقاه في عملها على نصوص صاحب " اغاني مهيار الدمشقي" قريبة الى نسيج في شعر لطالما كان مشغولا بعناصر البناء اللغوي والفني المتماسك الى جانب ولع لايهدأ بالفكر الإنساني وتحولاته المعاصرة.


شمه يوقّع موسيقاه وادونيس في تأمل عميق
 
ومن بين شعر ادونيس ، اختار شمة خمسة مقاطع رأى فيها" اغواء" للموسيقى وللصوت الغنائي الذي يدقق صاحب " قصة حب شرقية " في اختياره. وهكذا جاء صوتا المطربة المصرية الشابة مي فاروق والفلسطينية عبير صنصور، متوافقين رغم اختلاف مساريهما . في صوت الأولى عمق وطرب وسعة في الوان الغناء العربي المتقن، في ما صوت الثانية مجروح ومرهف ورقيق ومبتكر، كأن الميزتين تقاربان ما تنتظم من عوالم في شعر ادونيس .
الألحان جاءت محتفية بالكلام ، ومن هنا لم تستغرق موسيقى شمة في استعراض وزخرفة ، بل في عمل قائم على فهم عميق للنص.وهي لم تبدو " متأثرة" كليا بقالب تلحين القصيدة ، مثلما لم تكن بعيدة عنه .
بدأ شمة " ليلة إستثنائية" بتقاسيم على العود ،تشير الى مهارة تحولت مع تراكمها الى معرفة في بناء عمل موسيقي متكامل ، ثم غنت صنصور بصوت خضبه الألم " ليس وجها" ، قبل ان يدخل ادونيس ليجلس الى مائدة خفيضة ويقرأ من " الكتاب " ما تفترض انها " يوميات كتبها المتنبي في مصر " :
انها القاهرة
ادخل الآن في طقسها
ويغني معي قصب النيل
وفي جو شرقي حميم استضاف فيه شمة ، روحية المقام ورهافته في الموسيقى الكردية ، جاءت فقرة من عزفه المثير على العود ، مفتتحا الطريق امام مي فاروق كي تغني " لانعرف  الحب الذي قالوه "عبر لحن منسوج من كلاسيكية متقنة ، كأنك تسمع لحنا من اشراقات عبد الوهاب ، او لحنا من البناء المحكم للسنباطي في عملهما على القصائد، غير ان حساسية شمة وبراعة لحنه هما الحاضرتان وسط عذوبة من صوت فاروق حين تصور الكلام وتضفي عليه طراوة نادرة.
قرأ ادونيس بطريقة منحت الأمسية عمقا ايقاعيا مضافا ،"نصوص حب" تقدم بالعربية اول مرة بعد الإيطالية ومن اجوائها:
" لم يعد يعرف الليل
كيف يحيي قناديلنا "
و " لا اريد لحبي ، هذا الأرق
لا اريد له ان يجرح في الكلمات
لا اريد لإعضائنا ان تسافر
في مركب من ورق"
وبحساسية غناء بلاد الشام ، غنت صنصور التي تواصل دراسة العزف على العود في القاهرة :
" لا احب غير ارضك النبية
ياهذه البلاد التي انتمي اليها"
ومن فتنة اللغة ولذتها يقرأ ادونيس :
" دمي نقيضي
يبنيني واهدمه
بستان ورد تناثر اكمامه"
 

ادونيس وشمّه : حوار الشعر والموسيقى

ومن اجواء مقاربة لهذا المعنى يصوغ شمة مقطوعة ، كأنه يقيم بالموسيقى نصا موازيا للنص الشعري ، قبل ان تتجلى مي فاروق وهي تغني " اكاد ألمح احلامي " في لحن مشبع بميلودي شرقي لا يبتعد عن فكرة التعبير ايضا.
ويشترك صوتا مي وعبير في غناء:
" لا الزمان سرير
ولا الأرض نوم
شجر الحب عار
والمكان ينام"
في ثنائية هي عذوبة الصوت وعمقه عند مي وروحه المجروحة عند عبير ، ثنائية رأى فيها شمة لب شعر ادونيس وفكرته .
صاحب " كتاب المكان" غمره احساس عميق بالسعادة ، في قاعة جمعت عدد كبير من شعراء مصر ومثقفيها الى جانب ضيوف عرب ممن جمعتهم القاهرة في معرض كتابها.
وكان ادونيس كتب نصا قارب فيه موسيقى شمة وحمل عنوان " الف عبقر وعبقر " وفيه:


عندما أصغيتُ إليه, للمرة الأولى
رأيت في عزفه بلدانا داخل السجون
ورأيت مدنا تحتضر
وأطفالا يولدون تحت مطارق الرعب
ورأيت جبالا شاهقة من الضوء.
تلك الليلة,
تركت عوده ينام في سرير الأسطورة.

مذاك,
أقول لشهيق التاريخ وزفيره
أن يجلسا إلى جانبي
لكي أعرف كيف أصغي إليه.
أتمرأى في أوتاره,
وأكتشف وجهي.
***
أوتاره كمثل أشجار
تتفيأ ظلالها يمامات الحزن.
فيها نكهة حنظل
يجيء من لهاث الطغاة,
وفيها غابات قلق
يجيء من مرارات التيه.
*متابعة نقدية لامسية في دار الاوبرا المصرية اوائل العام 2003.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM