موسيقى البوب

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       15/11/2009 06:00 AM


موسيقى البوب .. من الاستعراض الغنائي الى التأسيس الثقافي
استنفد بعض الاشكال في الكتابة قدرته على التعبير، وهناك في ازمنتنا الحديثة ما يكفي من الفوضى في البناء الاجتماعي، فكيف في البناء الروحي المعقد التركيب؟
 ومن سمات التعبيرية الجديدة، نهضت اتجاهات الموسيقى والغناء المعاصرة، ولونت ذائقة جيل الفوضى والعدمية في الستينات الى تعارضاته الفكرية في السبعينات، انتهاء بانضوائه في مؤسسات الفكر التقني واساطينه التلقينية في الثمانينات .
 ان تتبع مسيرة جيل انتفض ضد خطوط حياته الصاعدة نحو الاغتراب انتهاء  بمشاركته الحالية في البنى المؤسساتية لذات الفكر الذي قمع حريته !! يجعلنا نعثر على حقيقة هي ان نهوضا رافق هذا البعد الاجتماعي ودلالاته الفكرية في انواع الابداع الفني والموسيقي كانت احداها، وقوتها التي تتمرد :الاغنية التي انشغلت في تعبيريتها بعذابات الانسان المعاصر، وجسدت مفاهيمه المتجددة عن الوقائع وصولا الى اسئلة عن ما يخفيه المستقبل من احتمالات.
ان موسيقى واغنيات "البوب" كما يصفها الناقد  سيمون فريث  اصبحت من الدلائل المعتمدة لتأشير مستوى الوعي الاجتماعي، ومثل هذه المهمة "السوسيولوجية " يتعمق في توضيحها  فريث عبر كتاب" الفن في موسيقى البوب – 1987 "الصادر عن دار " ميثوين " بلندن ونيويورك وكتبه بالاشتراك مع  هيوارد هورني.

اي بعد ثقافي في الموسيقى المعاصرة؟
 
والجانب الاجتماعي في تلك الكتابة النقدية يبدو واضحا فيما لو عرفنا ان سيمون فريث هو باحث اجتماعي في "جامعة وارويك"، ومدير لبحوث الموسيقى والسينما والتلفزيون في "جامعة غلاسكو"، وعرف ايضا بتحريره لاعمدة النقد في الصحافة اليومية والدوريات الموسيقية،  كما ان شريكه في الكتاب  هيوارد هورني  باحث اجتماعي هو الآخر في "جامعة مانشستر".
والكتاب يوضح حكاية تلك المدرسة الفنية المعقدة في جوهرها الثقافي التي بدأت تتكون بعد الحرب واتضح تأثيرها المهم على الموسيقى الشعبية البريطانية. 
انهما يسلطان الضوء على تلك الفترة المهمة في اول ستينيات القرن الماضي حين بدأ  جون لينون  و اريك كلابتون بعزف الالحان والاغنيات المأخوذة اصلا عن نصوصها الاصلية في الولايات المتحدة من موسيقى "الروك" و"البلوز"، كل ذلك بذائقة موسيقية شابة واحلام بوهيمية. كما انهما (الكاتبان) يؤشران فترة نهاية السبعينات حيث ظهر موسيقيو " البانك " من الفصول الدراسية لتصاميم الازياء. التياران الموسيقيان المختلفان حاولا ايجاد نوع من الحل لمشاكل الشباب والطلبة، لاحقا تم ادخالهما كنشاط فاعل في تدريس الفن.
ان موسيقيي فترة ما بعد الحداثة اظهروا حرصا على تقليل الفجوة بين مفهومي "العالي " و " الواطيء " في الثقافة،  فكانت الافكار الطليعية للتجربتين في الموسيقى قد ساهمت فعلا في بناء التكوين الثقافي للفرد. كما ان الاغنية او " باروميتر " الوعي الاجتماعي كما يسميها العديد من نقاد الموسيقى، تجد في كتابة  الناقد  سيمون فريث  مؤشرات دراستها كظاهرة تبتعد عن شكل الاستعراض الغنائي التقليدي منتقلة الى محاولة التأسيس الثقافي.
 
هنا قراءة  لملامح"ثقافية" في غناء "البوب" في عقدي ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته ، وفي حين لا تبدو هذه القراءة متطابقة في نهجها مع ما ذهب اليه فريث الا انها ليست بعيدة عنه، وان كانت تبدو هكذا على الاقل لجهة كونها قراءة عربية وان كان هذا المعنى بتأثير مخفف مع تحول الموسيقى المعاصرة واحدة من علامات الاتصال الثقافي الكوني في الربع الاخير من القرن العشرين.
مقاربات أدبية في الموسيقى المعاصرة
شهد العام 1984، صعوداً عارماً لظاهرة جورج أورويل، الروائي الانجليزي استذكاراً لروايته "1984" التي كان كتبها عام 1948 وضمنها تصوره "الحياة في المستقبل". لقد كانت "1984" رؤية بانورامية لنظام متسلط قتل في الفرد البسيط  معنى ان يكون "انساناً" و "حراً"، قتل فيه الحب ولجم قابلية الذهن على ممارسة التفكير بالحياة ماضياً ومستقبلاً واحال الانسان "حاضراً محاصراً بالشبهات".
تلك البانوراما من العذاب الانساني وفرت فرصة لاحد مخرجي السينما الانجليزية وهو مايكل رادفورد لاخراج فيلم في العام ذاته الذي حملته الرواية عنواناً لها. و صاحبت الفيلم موسيقى واغنيات تعبيرية، عمقت ذلك الايقاع الحزين والسوداوي الذي نسجته الاحداث والفكرة، كتبها الموسيقي وواضع الالحان الغنائية المعروف ديف ستيوارت، وقامت باداء الاغنيات رفيقته آني لينوكس (معاً شكلا الفريق الغنائي "يورثمكس" الذي عرف طوال الثمانينات باغنياته الطليعية).

مشهد من فيلم "1984" المأخوذ عن رواية أورويل بالعنوان ذاته
الالحان في الفيلم شكلت ركائز مهمة في تعميق الاحداث وجاءت مشحونة باصداء العذاب والالم ومايلقيه الارهاب من عناءات على ضحاياه ، فثمة لحن يصور المحبة في اشكالها الجسدية وفعلها الرحيب حيث تصير في مجتمع "اونسيانا" كما اسماه اورويل في الرواية ، جريمة! فثمة عدسات دقيقة تراقب من بعد وعبر النوافذ بحثا عن "جريمة حب" مشبعة بالتعبير عن المأزق الذي اشارت اليه الرواية: الحب رديف الحرية في مجتمع كل شيء فيه خاضع لرغبات الطاغية !
لقد اوضح اورويل في روايته على "ان الانسان قابل لان ينقلب تماما ، لان يصبح الجحيم بعينه، وانه ليست هناك ثوابت طبيعية او ازلية في التركيب الانساني غير قابلة للانكسار ، ويظل خطر الضياع قائما". وفي حمى تلك الانفعالات الاقرب لانحدار هاوية، تاتي مقطوعة "محبة الاخ الاكبر" لتجسد قوة الفقدان، فلا شيء باقيا سوى الظلام في النفوس حين يصبح الطاغية ايقاع الحياة ذاتها، ولاشيء تملكه سوى قوة التخيل والماضي . 

الثنائي"يورثمكس": آن لينوكس وديف ستيوارت
 
كانت العاطفة مثلت الجريمة الاولى في ذلك المجتمع الذي اقامه اورويل، فالجريمة الاخرى التي يعاقب عليها النظام، هي الفكر، وهنا يقدم ديف ستيوارت مقطوعة موسيقية غاية في قدرتها التعبيرية عن لمسة الحنان التي تميزت بها محاولة (ونستون) -بطل الرواية- لكتابة مذكراته وايامه الخوالي التي يرى فيها مجداً روحياً يتهاوى امامه ليتركه وحيداً ازاء رعب شامل.
ان عبارة الجلاد اوبراين الاخيرة في الرواية والموجهة الى ونستون:"لعلك اخر انسان على وجه الارض"، تحمل ما استطاع اورويل التنبوء به من سطوة الشر وضعف الكائن الانساني امامه، وتواصلاً مع تلك الرؤية جاءت مقطوعة  "تحيات رجل ميت" لتتناغم في الاحساس الذي يصل للمتلقي مع مقطوعة اخرى تذهب الى تصوير مشهد غرف التعذيب بالفئران.
هكذا نجد ان الموسيقى المعاصرة وبمعونة عمل ادبي مميز، تستطيع ان تخرج من قالب الايقاعات والانغام الخفيفة والذي يحاول البعض ان يوضعها فيه، الى مستويات تعبيرية متقدمة.
الموسيقى المعاصرة تكشف "حكايات الغموض والخيال" لادغار الن بو
وفي اطار متصل لجهة "المقاربات التي اقمتها الموسيقى المعاصرة للادب" برع الفريق الغنائي المعروف باتجاهاته التحديثية للبناء الموسيقي للاغنية "آلان بارسونز بروجكت" الذي يعرفه جمهور الاغنية الغربية عربياً من خلال اغنياته الجميلة "Step by step"  و "Don’t Answer me "و " Eye In the sky "  وغيرها من الاغنيات التي كانت تميل الى اظهار تفوق في الموسيقى والالحان على حساب النص والصوت الغنائي، في عمل مقام مضمونياً على استلهام نصوص مختارة من "حكايات الغموض والخيال" للشاعر والقاص الاميركي إدغار الن بو، فكانت هناك اغنيات مكتوبة اعتماداً على مقاطع من حكايات "آذار" يؤدي بعضاً منها بصوته المؤثر وطريقته الحاضرة الفاعلة الممثل والمخرج السينمائي الراحل اورسون ويلز.
الاغنيات تقدم  درساً في مقاربة الادب الى عالم الاغنية واللحن المعاصر، وتلغي بذلك فكرة شبه ثابتة عندنا ، وتقوم على اعتبار الاغنية والموسيقى المعاصرة ما هي الا شتات عواطف سريعة وايقاعات غير منسجمة، وتوفرت الاغنيات على تصويرية لحنية لاجواء تأتي من اعماق النص "الغامض" الذي يكتبه عادة ادغار الن بو، وفق نص يذهب الى تلك الروح لكن دونما الاهاب الغامض كما في اغنية حملت عنوان حكاية بو الشهيرة "الغراب": "ما يزال الغراب في غرفتي/ مهما توسلت ليس ثمة كلمات تسترضيه ليس ثمة دعاء للتخلص منه/ حيث توجب علي سماعه الى الابد".

آلان بارسونز بروجكت
 
ولان الاغنيات كانت تمضي الى ما وراء النص المكتوب وتحاول الوصول الى قراءة معاصرة له، لذا جاءت تحمل رصانة شكلها الموسيقي اضافة الى روحها المعاصرة، فهناك الحضور حتى للشكل التقليدي للاوركسترا السيمفوني، بل ان مغني الفريق وواضع الحانه : آلان بارسونز، لم يتردد في استخدام الكورال الانشادي والتوزيع الرصين للاوركسترا الضخمة.
ان العمل تقف خلفه (رؤيا) فاعلة ومؤثرة، وهذه جاءت من جهة آلان بارسونز الذي سبق وان عمل في صياغة موسيقية لاغنيات فرق معروفة مثل "البيتلز" و"بنك فلويد" تلك الاغنيات التي عرفت ببنيتها "الانتقادية- الاجتماعية".
الاطاحة بالصورة التقليدية لنجم البوب
حين انفصل ستينغ عن الفريق الانجليزي الشهير "بوليس" في عام 1983 ليتجه الى الغناء الانفرادي، كان يريد ان ينهي نوعا من التشتت بين رؤاه الخاصة في الحياة والمعرفة والتي زاوجت بين الفكر المعاصر والاغنية والموسيقى الجديدة كشكل من اشكال التعبير الممكنة عن ذلك الفكر، وبين الزملاء في الفريق، والذين كانوا يحرصون على ابقاء الاغنيات في مجال "الروك اند رول" وادخال البهجة الى قلوب المستمعين دون الدخول في قضية التعبير فكرياً وعقلياً!
 ستينغ أو بول سميث، انتقل الى الغناء بعد ان كان استاذاً لمادة الانثروبولوجي "علم الاناسة" في جامعة لندن، ونال شهادة الماجستير في تخصصه بعد اشراف من مفكر الانثروبولوجي الشهير كلود-ليفي شترواس، والذي اعتبره ستينغ لاحقاً، بمثابة الاب الروحي له.
ومن هذه الاجواء والتي لا تخفى مرجعياتها الفكرية والمعرفية "الغريبة" نوعاً ما على اجواء الغناء المعتادة حيث البهجة والمرح والرقص والدعابة، بدأ ستينغ مشواره الغنائي الخاص، ورغم تضمينه لاغنياته العديد من مفاهيم خاصة بشأن الانسان وقضايا حريته، الاقليات، البيئة وغيرها، الا ان تلك الاغنيات اعتماداً على موسيقى رفيعة وطريقة مميزه في الغناء من قبل ستنغ ، استطاعت ان تجد طريقها لتحتل ايضاً المراتب المتقدمة في اكثر الاغنيات مبيعاً.
وحملت اغنياته من مجموعته الانفرادية الاولى "احلام السلحفاة الزرقاء 1985" نمطاً لم ليألفه المستمع لاغنيات "البوب" العادية، فهي تجمع الى جانب موسيقاها الحديثة والرصينة في ان، تلك "الاضاءات" الانسانية والتصوير الرقيق عن قضايا مثيرة في عصرنا، فأغنية مثل "الروس "كانت نداء مقابلاً للدعوات التي تصور السوفيت في الغرب وكأنهم بشر خارج (البايولوجيا) التي يشترك فيها كل الناس في كل البلدان، كما انهم شأن باقي البشر يحبون اطفالهم! وجاءت تلك الاغنية في فترة اذكاء الحرب الباردة اثناء فترة رئاسة رونالد ريغان الاولى.
موسيقى وانغام الجاز كانت خيار ستينغ الامثل، وكانت استعانته بمجموعة من خيرة عازفي الجاز في العالم، خير مثال على جدية تعبيريته في الاغنية، فكان هناك العازف الموهوب على الساكسفون مارساليس، وعازف الطبول عمر حكيم الابن الاصغر للاديب العربي الراحل توفيق الحكيم والذي هاجر الى اوروبا اوائل السبعينيات محترفاً العمل والعزف الموسيقي.
وهذا الاختيار لتعبيرية عالية تتضمنها موسيقى الجاز تمثل في مجموعته الغنائية "لاشيء يشبه الشمس-1988" التي طاف ستينغ عبر اغنياتها على موضوعات لا تطرقها الاغنية عادة، مثل عزلة الروائية ايريس مردوخ الى تتبع الاثر الفني في المسرح الذي احدثه برتولد بريشت، والى رثاء عميق لضحايا الديكتاتورية في اميركا اللاتينية في اغنية "انهن يرقصن لوحدهن" التي صورت امهات المفقودين في سجون الديكتاتوريات وهن يحملن على صدورهن صوراً لاولادهن ويأخذن برقص حزين هو اقرب الى الايماءات امام المعتقلات.

المغني والملحن البريطاني ستنغ
 
هذا الاتجاه المغاير لستينغ في الغناء موضوعة وتعبيراً تعمق لاحقاً عبر اشتراكه في تظاهرات فكرية وسياسية، تدعو لمعاني انسانية خيرة، منها جولته الغنائية مع مجموعة من مغني العالم اواخر ثمانينيات القرن الماضي في غير عاصمة عالمية لصالح منظمة العفو الدولية، ودائماً كانت الجولة تحت عنوان "حقوق الانسان: الان"، او تلك الدعوات التي تبناها وانتقل للاعلان عنها الى مواقع بعيدة مثل غابات الامزون، للتذكير بمأساة البيئة والتشويه الذي تمارسه "الحضارة" في زحفها على اقاليم الحياة البرية لسكان الامزون، هنا لا يمكن فصل هذا الموقف عن دراسته للانثروبولوجي، وخاصة التذكير بفضل شتراوس صاحب "الفكر البري" الكتاب ومنهج البحث والاكتشاف… كذلك اشتراكه في مهرجان الاحتفال بعيد ميلاد نيلسون مانديلا (حين كان سجيناً) واشتراكه في مهرجان "الحقيقة البسيطة" للتذكير بمأساة الاكراد العراقيين في هجرتهم المليونية اثر قمع نظام صدام الوحشي لانتفاضتهم في العام 1991.
واعتبر نقاد كثيرون سيرة ستينغ الفنية والفكرية باعتبارها تمثل امال "اخر الرومانسيين" في القرن العشرين، وكنوع من الرد على هذه الاراء، واعتزازاً بآماله هذه اصدر ستينغ اسطوانة مزدوجة ضمت اغنيات ناجحة من سيرته تلك، واختار لها عنواناً "حقول الذهب" وكانت بحق دعوة لرحلة تثير التأمل وتمتع الذهني والروح معاً، وتؤكد ان للمغني تأثيراً خارج الصورة التقليدية لنجم الروك، هو تأثير المبشر بقضايا عميقة يعيشها عصرنا.
ان ما تقدم من مراجعات وقراءات في بعض مما في الموسيقى الغربية المعاصرة لجهة حضور البعد" الثقافي" و"الانساني"، يوفر لنا اشارة لمقارنة مهمة تخص كثيرا من المشتغلين بالموسيقى والالحان العرب، ومنها نتعرف على ضآلة حجم المؤثر الثقافي والمعرفي عندهم واشتغالهم موسيقياً وغنائياً على اشاعة المشاعر والعواطف الساذجة والعادية، كاشفين بذلك عن هوة سحيقة قائمة بين الموسيقى والثقافة العربية.
*المقال جزء من كتاب قيد الطبع بعنوان "في سوسيولوجيا الموسيقى".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM