الالحان في الفيلم شكلت ركائز مهمة في تعميق الاحداث وجاءت مشحونة باصداء العذاب والالم ومايلقيه الارهاب من عناءات على ضحاياه ، فثمة لحن يصور المحبة في اشكالها الجسدية وفعلها الرحيب حيث تصير في مجتمع "اونسيانا" كما اسماه اورويل في الرواية ، جريمة! فثمة عدسات دقيقة تراقب من بعد وعبر النوافذ بحثا عن "جريمة حب" مشبعة بالتعبير عن المأزق الذي اشارت اليه الرواية: الحب رديف الحرية في مجتمع كل شيء فيه خاضع لرغبات الطاغية !
لقد اوضح اورويل في روايته على "ان الانسان قابل لان ينقلب تماما ، لان يصبح الجحيم بعينه، وانه ليست هناك ثوابت طبيعية او ازلية في التركيب الانساني غير قابلة للانكسار ، ويظل خطر الضياع قائما". وفي حمى تلك الانفعالات الاقرب لانحدار هاوية، تاتي مقطوعة "محبة الاخ الاكبر" لتجسد قوة الفقدان، فلا شيء باقيا سوى الظلام في النفوس حين يصبح الطاغية ايقاع الحياة ذاتها، ولاشيء تملكه سوى قوة التخيل والماضي .
كانت العاطفة مثلت الجريمة الاولى في ذلك المجتمع الذي اقامه اورويل، فالجريمة الاخرى التي يعاقب عليها النظام، هي الفكر، وهنا يقدم ديف ستيوارت مقطوعة موسيقية غاية في قدرتها التعبيرية عن لمسة الحنان التي تميزت بها محاولة (ونستون) -بطل الرواية- لكتابة مذكراته وايامه الخوالي التي يرى فيها مجداً روحياً يتهاوى امامه ليتركه وحيداً ازاء رعب شامل.
ان عبارة الجلاد اوبراين الاخيرة في الرواية والموجهة الى ونستون:"لعلك اخر انسان على وجه الارض"، تحمل ما استطاع اورويل التنبوء به من سطوة الشر وضعف الكائن الانساني امامه، وتواصلاً مع تلك الرؤية جاءت مقطوعة "تحيات رجل ميت" لتتناغم في الاحساس الذي يصل للمتلقي مع مقطوعة اخرى تذهب الى تصوير مشهد غرف التعذيب بالفئران.
هكذا نجد ان الموسيقى المعاصرة وبمعونة عمل ادبي مميز، تستطيع ان تخرج من قالب الايقاعات والانغام الخفيفة والذي يحاول البعض ان يوضعها فيه، الى مستويات تعبيرية متقدمة.
آلان بارسونز بروجكت
ولان الاغنيات كانت تمضي الى ما وراء النص المكتوب وتحاول الوصول الى قراءة معاصرة له، لذا جاءت تحمل رصانة شكلها الموسيقي اضافة الى روحها المعاصرة، فهناك الحضور حتى للشكل التقليدي للاوركسترا السيمفوني، بل ان مغني الفريق وواضع الحانه : آلان بارسونز، لم يتردد في استخدام الكورال الانشادي والتوزيع الرصين للاوركسترا الضخمة.
ان العمل تقف خلفه (رؤيا) فاعلة ومؤثرة، وهذه جاءت من جهة آلان بارسونز الذي سبق وان عمل في صياغة موسيقية لاغنيات فرق معروفة مثل "البيتلز" و"بنك فلويد" تلك الاغنيات التي عرفت ببنيتها "الانتقادية- الاجتماعية".
الاطاحة بالصورة التقليدية لنجم البوب
حين انفصل ستينغ عن الفريق الانجليزي الشهير "بوليس" في عام 1983 ليتجه الى الغناء الانفرادي، كان يريد ان ينهي نوعا من التشتت بين رؤاه الخاصة في الحياة والمعرفة والتي زاوجت بين الفكر المعاصر والاغنية والموسيقى الجديدة كشكل من اشكال التعبير الممكنة عن ذلك الفكر، وبين الزملاء في الفريق، والذين كانوا يحرصون على ابقاء الاغنيات في مجال "الروك اند رول" وادخال البهجة الى قلوب المستمعين دون الدخول في قضية التعبير فكرياً وعقلياً!
ستينغ أو بول سميث، انتقل الى الغناء بعد ان كان استاذاً لمادة الانثروبولوجي "علم الاناسة" في جامعة لندن، ونال شهادة الماجستير في تخصصه بعد اشراف من مفكر الانثروبولوجي الشهير كلود-ليفي شترواس، والذي اعتبره ستينغ لاحقاً، بمثابة الاب الروحي له.
ومن هذه الاجواء والتي لا تخفى مرجعياتها الفكرية والمعرفية "الغريبة" نوعاً ما على اجواء الغناء المعتادة حيث البهجة والمرح والرقص والدعابة، بدأ ستينغ مشواره الغنائي الخاص، ورغم تضمينه لاغنياته العديد من مفاهيم خاصة بشأن الانسان وقضايا حريته، الاقليات، البيئة وغيرها، الا ان تلك الاغنيات اعتماداً على موسيقى رفيعة وطريقة مميزه في الغناء من قبل ستنغ ، استطاعت ان تجد طريقها لتحتل ايضاً المراتب المتقدمة في اكثر الاغنيات مبيعاً.
وحملت اغنياته من مجموعته الانفرادية الاولى "احلام السلحفاة الزرقاء 1985" نمطاً لم ليألفه المستمع لاغنيات "البوب" العادية، فهي تجمع الى جانب موسيقاها الحديثة والرصينة في ان، تلك "الاضاءات" الانسانية والتصوير الرقيق عن قضايا مثيرة في عصرنا، فأغنية مثل "الروس "كانت نداء مقابلاً للدعوات التي تصور السوفيت في الغرب وكأنهم بشر خارج (البايولوجيا) التي يشترك فيها كل الناس في كل البلدان، كما انهم شأن باقي البشر يحبون اطفالهم! وجاءت تلك الاغنية في فترة اذكاء الحرب الباردة اثناء فترة رئاسة رونالد ريغان الاولى.
موسيقى وانغام الجاز كانت خيار ستينغ الامثل، وكانت استعانته بمجموعة من خيرة عازفي الجاز في العالم، خير مثال على جدية تعبيريته في الاغنية، فكان هناك العازف الموهوب على الساكسفون مارساليس، وعازف الطبول عمر حكيم الابن الاصغر للاديب العربي الراحل توفيق الحكيم والذي هاجر الى اوروبا اوائل السبعينيات محترفاً العمل والعزف الموسيقي.
وهذا الاختيار لتعبيرية عالية تتضمنها موسيقى الجاز تمثل في مجموعته الغنائية "لاشيء يشبه الشمس-1988" التي طاف ستينغ عبر اغنياتها على موضوعات لا تطرقها الاغنية عادة، مثل عزلة الروائية ايريس مردوخ الى تتبع الاثر الفني في المسرح الذي احدثه برتولد بريشت، والى رثاء عميق لضحايا الديكتاتورية في اميركا اللاتينية في اغنية "انهن يرقصن لوحدهن" التي صورت امهات المفقودين في سجون الديكتاتوريات وهن يحملن على صدورهن صوراً لاولادهن ويأخذن برقص حزين هو اقرب الى الايماءات امام المعتقلات.
المغني والملحن البريطاني ستنغ
هذا الاتجاه المغاير لستينغ في الغناء موضوعة وتعبيراً تعمق لاحقاً عبر اشتراكه في تظاهرات فكرية وسياسية، تدعو لمعاني انسانية خيرة، منها جولته الغنائية مع مجموعة من مغني العالم اواخر ثمانينيات القرن الماضي في غير عاصمة عالمية لصالح منظمة العفو الدولية، ودائماً كانت الجولة تحت عنوان "حقوق الانسان: الان"، او تلك الدعوات التي تبناها وانتقل للاعلان عنها الى مواقع بعيدة مثل غابات الامزون، للتذكير بمأساة البيئة والتشويه الذي تمارسه "الحضارة" في زحفها على اقاليم الحياة البرية لسكان الامزون، هنا لا يمكن فصل هذا الموقف عن دراسته للانثروبولوجي، وخاصة التذكير بفضل شتراوس صاحب "الفكر البري" الكتاب ومنهج البحث والاكتشاف… كذلك اشتراكه في مهرجان الاحتفال بعيد ميلاد نيلسون مانديلا (حين كان سجيناً) واشتراكه في مهرجان "الحقيقة البسيطة" للتذكير بمأساة الاكراد العراقيين في هجرتهم المليونية اثر قمع نظام صدام الوحشي لانتفاضتهم في العام 1991.
واعتبر نقاد كثيرون سيرة ستينغ الفنية والفكرية باعتبارها تمثل امال "اخر الرومانسيين" في القرن العشرين، وكنوع من الرد على هذه الاراء، واعتزازاً بآماله هذه اصدر ستينغ اسطوانة مزدوجة ضمت اغنيات ناجحة من سيرته تلك، واختار لها عنواناً "حقول الذهب" وكانت بحق دعوة لرحلة تثير التأمل وتمتع الذهني والروح معاً، وتؤكد ان للمغني تأثيراً خارج الصورة التقليدية لنجم الروك، هو تأثير المبشر بقضايا عميقة يعيشها عصرنا.
ان ما تقدم من مراجعات وقراءات في بعض مما في الموسيقى الغربية المعاصرة لجهة حضور البعد" الثقافي" و"الانساني"، يوفر لنا اشارة لمقارنة مهمة تخص كثيرا من المشتغلين بالموسيقى والالحان العرب، ومنها نتعرف على ضآلة حجم المؤثر الثقافي والمعرفي عندهم واشتغالهم موسيقياً وغنائياً على اشاعة المشاعر والعواطف الساذجة والعادية، كاشفين بذلك عن هوة سحيقة قائمة بين الموسيقى والثقافة العربية.
*المقال جزء من كتاب قيد الطبع بعنوان "في سوسيولوجيا الموسيقى".