بيانو بياتريس اوهانسيان

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       15/11/2009 06:00 AM


ما ان تنتهي  مقطوعة "الفجر" التي كتبتها عازفة البيانو والمؤلفة العراقية الارمنية الاصل بياتريس أوهانسيان، حتى تبرز كلمة واحدة من السامع توجز جوهر المقطوعة وتأثيرها: مدهش.
ان الامر ليس مجرد تقنية عالية في التعامل مع لوحة المفاتيح في الالة التي أسرت ابنة بغداد، بل هي مسألة التعبير العميق التي لطالما كانت علامة على الموهبة الكبيرة لأوهانسيان ليس كعازفة بيانو وحسب بل بوصفها مؤلفة موسيقية أيضا. انها ايضا تقدم مثالا على ان الموسيقيين من دول الشرق ليسوا مجرد عازفين جيدين بل يمكن ان يكونوا مؤلفين محترمين لمقطوعات تقع في صلب نسيج الموسيقى "الكلاسيكية" الغربية.


وانطلاقا من هذا المدخل كان للراحلة أوهانسيان التي توفيت قبل فترة في الولايات المتحدة، تأثيرها الفاعل في تعزيز الموسيقى الكلاسيكية الغربية في العراق "في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، كنت أول موسيقي عراقي يواجه الاوروبيين بطريقة محترفة" ، وكانت محقة تماما في قولها، خاصة عندما نعلم أن بياتريس ولدت فيما كان العراق بدأ للتو اهتماما عميقا في فنون العالم الغربي وثقافته.
كانت في المدرسة الابتدائية عندما تم انشاء معهد الفنون الجميلة في عام 1936 ، وتقدمت بطلب للانضمام اليه في وقت لاحق، ورفض طلبها لأنها كانت صغيرة جدا "كانت شروط القبول في المعهد تقضي بأن يكون الطالب حائزاً على شهادة الدراسة الإبتدائية، وأن يقل عمره عن 13 سنة. هنا تقول بياتريس: دخلتُ إلى المقابلة أمام لجنة المعهد المكوَّنة من الأساتذة الشريف محي الدين حيدر، مدير المعهد، وحنا بطرس، معاون المدير، وأستاذ البيانو الروماني جوليان هرتز. قدّمني الأستاذ حنا واصفاً إياي بـ "شوبان الموهبة المبكرة" معزِّزاً طلب إنتمائي للمعهد، كوني موهوبة في العزف. قدمتُ عدداً من القطع والتمارين أمام اللجنة بشكل جيد، فنالت إستحسانها. لكن اللجنة وجدت عائقاً أمامي لقبولي في المعهد بسبب صغر السن، وكوني ما أزال تلميذة إبتدائية. وبتدخُّل تشجيعي من الأستاذ حنا بطرس، تم قبولي إستثناءً من شرط العمر. وهكذا بدأت الدراسة الفنية بالشكل العلمي الجيد على يد الأستاذ الروماني جوليان هرتز، وتخرجتُ في العام 1944، بدبلوم فن عالٍ بدرحة إمتياز". وقبل الثانية عشرة من العمر كانت الصغيرة اوهانسيان تقدم حفلات أسبوعية في محطة إذاعة بغداد!
موسيقى وحرية
لا شيء يعبر عن حركة المرأة العراقية نحو الحرية والحقوق ، مثل نشاط المرأة العراقية في مجال الموسيقى، حيث بالامكان اكتشاف عشرات المغنيات والموسيقييات في العراق للفترة من الاربعينيات  حتى الثمانينيات من القرن الماضي. نساء موهوبات لم يعكس نشاطهن الفني مجرد جوانب الحرية والمساواة ولكن أيضا كان يعكس جانبا من عملية  تحديث بلدهن. وانطلاقا من هذا فان بياتريس أوهانسيان المستنير تضيء لنا مسار امرأة عراقية تتطلع  نحو الحرية والحقوق. فهي نشأت في ظروف عندما كانت الحكومة العراقية خلال العهد الملكي توفر المنح الدراسية لتعلم الفنون الادائية ، وهو ما سمح لها الدراسة في الأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن. ومن هناك توجهت إلى نيويورك للدراسة في مدرسة جوليارد للموسيقى. أخيرا عادت إلى العراق في عام 1961 لتصبح العازف الرئيسي للبيانو في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية.
العراق والانتماء العراقي لم  يكونا خيارا ثانيا لها رغم انها ولدت في بغداد لأبوين ارمينيين،فالأب والأم فرا من الإبادة الجماعية للأرمن عندما كانا صغارا. والدها كان عمل محاسبا في شركة النفط ، وهو ما عنى  أن تعيش العائلة بشكل جيد وسط  تشجيع والدها وأشقائها لها في دراسة الموسيقى. من هذه النقطة اتخذت بياتريس البيانو كوسيلة للتعبير عن حياتها وبلدها.



واذ نتوقف كي نلقي نظرة على حياتها عندما زارت شقيقها في ولاية مينيسوتا الاميركية العام 1959. نجد عبارتها المؤثرة : "الجميع قال لي عليك البقاء في أميركا ، ولكن صوت داخلي قال لي يجب أن اعود إلى العراق وتعليم ابناء بلدي على حب الموسيقى. الموسيقى الكلاسيكية كان للتو قد عرفت في العراق، وانها بحاجة الى اشخاص مثلي هناك للعمل على ازدهارها ". في العام 1959 حزمت حقائبها على متن السفينة "كوين ماري" وأبحرت الى لندن ، ومن ثم الى العراق.
بيانو في ليالي الصواريخ
الحدث الأكثر إثارة في حياة بياتريس، جاء في العام 1980 ، عندما كتبت أول مقطوعة موسيقية غربية بتاثير الحرب وهواجسها، فهي كانت تكتب عملها وتعزفه على ضوء الشموع بسبب فرض التعتيم ليلا في  الستة أشهر الأولى من الحرب العراقية الايرانية ، وتتألف بياتريس التي تمارسها أضواء الشموع. وما ان اكتملت المقطوعة، حتى تم توزيعها للاوركسترا، وعزفها، وبثها عبر التلفزيون. نجاحها في تأليف المقطوعة تلك شجعها على كتابة سبعة اعمال آخرى بين عامي 1990 و 1994، حيث الحياة بدأت تضيق بسبب صواريخ "عاصفة الصحراء" والهجمات اللاحقة، لكن ذلك لم يكن قد اوصل الظروف حدا من السوء بحيث يدفعها هي وشقيقتها سيتا الى مغادرة البلاد، بل استمرت باحياء حفلات موسيقية داخل البلاد وخارجها. وكان عرضها الفني الأخير في العراق حمله العام 1994 ، عندما شاركت للسنة الخامسة على التوالي ، في مهرجان بابل الدولي . هناك ، وجدت بياتريس اوهانسيان نفسها تعبر امواجا من الزمن لتحط في  واحد من المعابد البابلية وبدلا من العزف على البيانو كانت تعزف على القيثارة الذهبية العراقية القديمة  انغاما كونت مقطوعتها " مقدمة لحمورابي" ، التي استلهمتها من اول واضع لشريعة قانونية في تاريخ البشرية: حمورابي.
في العام 1994 تبدو بياتريس في الاتجاه المناقض تماما لما اقدمت عليه في العام 1959، فهي اذا كانت رفضت البقاء في اميركا كي تلبي "نداء العودة العميق الى العراق"، لكنها تجد نفسها بعد 45 عاما تصطحب شقيقتها للانتقال  إلى الولايات المتحدة والعيش مع شقيقهما. بياتريس لم تكن قادرة على ان تحمل الكثير معها، فاخذت ما يعني لها ملامح من انجازها الانساني والفكري: برامج حفلاتها القديمة والميداليات والاوسمة والجوائز التي استحقتها عن اكثر من خمسين عاما من الموسيقى في وطنها، لكنها  تركت وراءها صديقها المخلص: بيانو كبير من نوع "شتاينواي"، أودعته عند اناس تثق بهم على امل استعادته يوما ما.
في اميركا أصبحت نوعا من السفير الثقافي العراقي ، وغالبا ما تمكنت من خلق صداقات حيث فشل الساسة، عزفت في فرقة اوركسترالية خاصة بولاية مينيسوتا، وخبرت اناملها مفاتيح بيانوهات كثيرة، الا ان الاشواق لم تخفت للبيانو خاصتها، وبدأت منذ فترة اتصالات مع اميركيين وعراقيين كي يسمحوا لها بنقل حياتها العراقية وقد اختصرت في بيانو مودع عند اصدقاء ببغداد. طالت الاتصالات وتعددت الاعتراضات، الا ان البيانو الذي كانت قديسة الموسيقى الرفيعة في بغداد قد ابدعت عليه احلى الانغام، بدأ رحلة الخروج من صمته كي يفرح ثانية بالاصابع الندية التي اغوته وداعبته كثيرا. وفيما كنت اقول في حفل اقامته بواشنطن مؤسسات اميركية وعراقية بعد ايام على وفاة العازفة والمؤلفة الموسيقية : "بياتريس ...لإيمانك الى الابد بالعراق ، لاستعدادك العالي بالتضحية ، أرقدي بسلام فانت كنز وطني للعراق ، وكتب التاريخ والموسيقى العراقية ستخلدك"، وما ان انهيت كلمتي حتى ابلغني القنصل الثقافي في السفارة العراقية بواشنطن، د . هادي الخليلي بان بيانو بياتريس اوهانسيان وصل من بغداد قبل ايام.. حينها كانت صاحبة "الفجر" ترقد في مقبرة، لا اصابعها رقت على البيانو من جديد، ولا المفاتيح غنت شوقها بعد انتظار.
* النص مكتوب اصلا بالانجليزية وقدم خلال احتفاء اقامته الملحقية الثقافية العراقية بواشنطن تكريما للراحلة العام 2008.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM