في (الحياة) ... عن سنوات في محبة العراق وأهله

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM


أكاد بعد ان إستقر بي التطواف  في بغداد، المكان الذي أحببت ونذرت حياتي كلها من أجل حرية إنسانه، أبدو في حاجة تامة الى بعض المراجعة، لا للنفس وحسب،  بل للسيرة التي نضجت فيها مواقفي تجاه كل ما هو عراقي حميم وأصيل.  سيرة العمل المضني دفاعا عن حقيقة بدت لي دائما، حقيقة تستحق كل هذا العناء والضنك والإنتظار والتوق والإشتباك، حقيقة ان يعيش العراقي آدميا كريما حرا في بلاده، وما ترتب عليها من أثمان باهظة أكلت من عمري قدر ما أنهكت عائلتي الأنيسة وجعلتها تعيش حياة قلقة مؤجلة.
المراجعة شأن لا يتعاطاه العربي والعراقي بخاصة، فهي تستدعي الإعتراف،  والإشارة الى جميل آخرين، مثلما تستدعي وقفة حازمة مع النفس،  ناهيك عن صدق قلما كان ملمحا في ثقافتنا، وقدرة على قول الحقيقة حتى وإن كانت تعني نهاية فترة " الأوهام الجميلة".
وما يبدو لي جديرا بالمراجعة في سيرة إندرجت فيها بتوق وإخلاص أقرب الى الهوس، بل هي قاربت" الغلواء "في بعض الأحيان،  تلك الفترة من عملي الصحافي والثقافي في العاصمة الأردنية عمّان مراسلا لصحيفة "الحياة" العربية الصادرة في لندن، هي فترة نضج في المهارات المهنية، في جعل اللغة رشيقة وسبكها في نسيج دلالي لايقبل الترهل، وفي جعل"الحداثة" ميدانا للفعل وقابلة للإختبار، حداثة كانت تهز قناعاتي ومفاهيمي و" إسلوبي" الصحافي القائم على خطيئة كانت ترى في " الصحافي أقل شأنا من الثقافي"، حداثة في صوغ الخبر بدءا من عنوانه وصولا الى فقراته ممرورا بالمميز فيه، حداثة في إستخدام الصورة، في خلخلة رتابة الكتابة التي عهدتها التحقيقات والتقارير، وحداثة في الإطارالذي تستحقه " القصة الإخبارية"، وكيف يمكن للحقيقة التي تأتي بها تلك الأشكال أن ترقى الى مصاف القطع الأدبية الرفيعة (خذ مقالات حازم صاغية وغسان شربل وتعليقاتهما مثلا)، حداثة في جعل الوقائع اليومية شبة المنسية لفرط عاديتها وتداولها، قصصا تلفت الإنتباه لبراعة كتابتها وصفا وتسلسلا منطقيا وللعوالم التي تحيا فيها ( هل يمكن نسيان ما كتبته الذكية واللماحة أمينة خيري عن المشاهد اليومية لمدينة الفوضى الحية ، القاهرة ) ؟
فترة عملي في " الحياة"، حياة خاصة، متدفقة، جدية، مثمرة، وانطوت على مسؤولية خطيرة : الكشف عن حقيقة ما كان يعيشه العراق من وقائع سود في عهد النظام السابق ضمن نهج لا يتساهل مع الصدقية والحقيقة. والآن بدا ماكنت أنفرد بنشره على صفحات " الحياة" وأعتبر في حينه "قصص، لا مكان لها غير رأس كاتبها" كما قال وزير الخارجية الأسبق ناجي صبري الحديثي في رده على أحد تقاريري الإخبارية بدا " مخففا" حيال الأهوال التي كان يعيشها العراقيون لكنه يظل بالنسبة لي شرفا ما كان لي ان أصل اليه لولا تلك القلوب الرحيمة، لولا " الأيدي الشافية" التي ساندتني، وخففت من " غلوائي"، علمتني، وفتحت المساحات أمام لوعتي التي كانت توجز حبي وإخلاصي لمكان ذرفت له أجمل دموعي،  وكتبت له أحلى نصوصي رغم حروبه التي دمرتني وأرهاب حكمه الذي روّعني،  لولا الدأب المحب لما كنت أكتب عند صديق حقيقي للشعب العراقي ومقاتل لايتعب من أجل الحرية،  الزميل الكريم سلامة نعمات حين كان مديرا لمكتب " الحياة" في عمّان الذي كان يفوق عراقيين في وعيه أزمات بلادنا وطرق الخلاص من آثارها المدمرة، دون أن ننسى كيف تحمّل من أجل هذا من أعباء وصلت السجن ومصادرة حريته حين " كشف المستور" وكتب في العام 1997عن لائحة كتاب وصحافيين أردنيين يتلقون رواتب وهبات من سفارة صدام في عمّان ، لولا المهذب والأبن البار للصدق ، نائب رئيس تحرير " الحياة" خلال سنوات عملي الزميل الأنيق عبد الوهاب بدرخان والذي تحمل من إندفاعي، تشكيكا و" مواقف محرجة " ولكنني لم أخذله أبدا حين كنت صادقا معه وأمينا على مسؤولية الصحيفة ونهجها،  وظل مراهنا على ما أكتب من أخبار وتقارير ، بل حتى تلك الإضاءات التي كتبتها في المتابعات الثقافية والنقد الموسيقي، ومع كل مرة اجد قصتي المنشورة في "الحياة" وقد صار خبرا تتناوله وكالات الأنباء أشعر بمسؤولية أكبر تجاه الصحيفة اولا وتجاه التحدي الذي وضعت نفسي أمامه.


مع عبد الوهاب بدرخان في مكتبه بصحيفة "الحياة" بلندن 2000
 
وعلى ذكر التحدي فأنني اتذكر أول خبر كتبته، بعد تكليفي من الزميل ياسر ابو هلالة الذي كان يتولى إدارة مكتب الحياة في عمّان أواخر العام 1998، وكان الخبر الذي نشر الجمعة هو عن "إجتماع غير عادي" سيعقده المجلس الوطني العراقي السبت، ومن المؤكد انه سيبحث "توصيات" ترفع الى الرئاسة العراقية حول اعادة النظر بقرارات دولية وافق عليها العراق بعد غزو الكويت، وهو ما كان يعني إعادة النظر بالاعتراف بالكويت دولة مستقلة. الزميل أبو هلالة علق قائلا: "واذا لم يعقد المجلس الوطني جلسته، فماذا ستفعل؟ انك اخترت بداية أقرب الى المغامرة"، ولحسن حظي أصدر رئيس المجلس د. سعدون حمادي بيانا "ملتهبا" يفيض بلغة الوعيد للكويت، وهو ما جعل خبري الاول "سبقا صحافيا"، وفر الفرصة لي بالدخول الى أفضل تجربة صحافية عشتها.
وفي حين أستعيد" تلك الأيام" أستعيد نقيضين: مافعله بي " أصدقاء عراقيون" حين إرتضوا حمل رسائل " ترهيب و ترغيب " من بغداد، وما حملته من لمسات محبة لاتنقطع، فزميلنا في مكتب "الحياة" ببيروت حازم الامين، عثر على نبع وجعي العراقي،  وعثرت فيه على جانب عراقي حميم قل نظيره،  فهو كان يلتقط من مشاهد بلادنا الممزقة أكثرها دلالة، ويكتب(وهو البعيد) عن نبض اللحظة العراقية:  صعود الطغيان سلالم قسوته اللامتناهية،  وتبدد النسيج الإجتماعي (هنا لايمكن نسيان ما كتبه من إشارة ذكية عن حفلة في " نادي العلوية" يظهر فيها ثنائي مبتهج تحت صورة كبيرة لصدام، أو تقريره الشجاع قبل سقوط النظام عن أصحاب الكوبونات النفطية من الكتاب والسياسيين والفنانين العرب الذي كانوا ينتظمون في زيارات جماعية الى بغداد ودائما تحت شعار خادع ومضلل : التضامن مع العراق).
 النقيضان هو ان " الأصدقاء العراقيين " إرتضوا أن يحملوا لي تهديدات من مخابرات صدام ، باتت تقليدية لفرط ما تكررت: " لا مانع ان تظل ناشطا في إعلام المعارضة العراقية ولكن اترك الكتابة في " الحياة" ولك منا ضعف ما تكسبه من الصحيفة العربية الشهيرة،  نحن مستعدون لإيصالك الى اي عاصمة غربية كي تقيم فيها مرتاحا،  كما أوصلنا غيرك، وفي حال لم تتوقف عن الكتابة فتذكر ان أهلا لك في العراق"، والمحزن ان من اندرج في نقل رسائل التهديد تلك، كان من هو بمصاف أحد أفراد بيتي ! أليس حازم الأمين محقا حين كان يكتب عن " إنهيار النسيج الإجتماعي " و" نجاح الطغيان في هزيمة القيم الأخلاقية للمجتمع العراقي"؟ فمن بين "اهلي" من كان يتفنن في حمل رسائل الرعب اليّ، بينما كان "الغريب" يشد أزري، ومن بين "أهل بيتي" من إنقطع عن زيارتي في عمّان كي لا أحمل له الشبهات، فيما كان"  الغريب" يحرص على زيارة بيتي ويوقد فيه شموعا نادرة.

الكاتب والزميل في " الحياة" حازم الامين بكاميرتي في عمان 
 
كتبت في " الحياة" عن عذابات العراق واشواقه مئات الآلاف من الكلمات ، تلك اليوم هي مثار فخر لي، كأنها "كنزي الوحيد" أحملها في إرشيف الى بغداد، أعرضها على الناس بشرف، كأني أحمل شعلة وأقول: ألا يستحق هذا الضوء رحلة ضنك وألم كالتي مشيتها بلا كلل؟ ألا يستحق العراق العذب والمعذّب أن نضيء له ثنايانا دون ان نسأله منة او ثناء؟ ألا يستحق أنين الأبرياء ولحم الأمهات الحي لكنه المسحوق في تراب المقابر الجماعية أن أمشي طريق الحق دون ان أشكو " قلة سالكيه"؟
لن أنسى صدق الزميل محمد علي فرحات في انتصاره لما كتبت عن العراق،  ولن انسى مؤازرة لم تنقطع من الزميل الشاعر عبده وازن، لن انسى" البيسانين" الرقيقتين: طي والشيخ، لن انسى الزميل المفكر الجريء و" المعلق السياسي" الحاذق اللغة والرأي حازم صاغية، وكيف أشار بمحبة الى أن تقاريري في " الحياة" كانت عونا له في كتابه عن  البعث العراقي وسقوط صدام، لن أنسى كل قلب حان ويد رحيمة تلمست في ذلك الفيض من الصدق في قراءاتي لوقائع بلادي، ونقلته من "النداء المجروح" الى"الوثيقة المؤثرة" التي كان لها لاحقا تأثير لافت، فكم إتصل بي " مكتب العراق" في الأمم المتحدة على إثر تقرير أو تحقيق كتبته في " الحياة" تناول ما لا يستطيع احد كتابته، وكم إستعان بي مكتب "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" في العاصمة الأردنية لتوضيح مفصل أو واقعة في المشهد العراقي المتشظي سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وكم من مقال وتعليق كتب في"الحياة" ذاتها أوغيرها من الصحف العربية والدولية إعتمادا على أخبار أوردتها وتقارير كشفت فيها أسرار "جمهورية الخوف"؟ كم من الصداقات إكتسبتها وأفرحتني؟ وكم من حنق نظام الموت ووعيده وتهديده وهو ما افرحني أيضا؟

 
الصفحة الاولى لعدد "الحياة" الصادر في 7 نيسان 2003
وتضمن 3 قصص لعلي عبد الامير واحدة منها نشرت باسمه 
 
لقد وفرت لي الكتابة في الشؤون العراقية عبر صفحات"الحياة" ذخيرة من الوثائق والوقائع، يمكن من خلالها التوفر على قراءة أخطر مرحلة عاشها العراق: سنوات الحصار ومارافقها من هدم منظم لقيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم حرب الإطاحة بصدام ومارافقها وتلاها من وقائع (غطيتها من بغداد) ومغادرتي البلاد ثانية الى المنفى بعد إغتيال أخي وصديقي  ومعلمي وقرة عيني: قاسم عبد الأمير عجام. ليس التوثيق وحسب هو ما تحصلت عليه، بل الخبرة في تحويل المادة الأولية والمعلومات الى مادة صحافية مشوقة أو شائقة كما يفضل لغويون.  تلك الخبرات ما كنت سأصلها لولا تلك المدرسة العميقة في رسالة حريتها،  تلك التي أرساها الراحل الشهيد مؤسس "الحياة" كامل مروّه عبر نداء يحتذى  "ان الحياة عقيدة وجهاد"، وأخلص لها من منحني ثقته وجددها أكثر من مرة الزملاء في تحرير الصحيفة الكائنة في الحي اللندني الذي أحب وأعرف جيدا :هامرسميث.

التقرير المنشور بأسمي على الصفحة الاولى من " الحياة" وقبل يومين من سقوط صدام
 
* النص كتبته بعد عودتي الى بغداد وفاء لمدرسة"الحياة" ولايام الحقيقة العراقية كما أخلصت لها في عملي مراسلا للصحيفة من العاصمة الاردنية ثم بغداد ايضا فعمّان مرة أخرى بعد اغتيال اخي قاسم في 17 آيار (مايو) 2004.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM