صالون العراق الثقافي... عمّان 1997-2003 حين يكون بيت الكاتب فسحة للأمل
ليس من اليسير إستعادة أيام كالتي اندرجت فيها ومجموعة من القلوب الشجاعة في مهمة تبدو اليوم حفرا في حجر المستحيل، لكننا بدأب محبة وصدق، فعلنا مايبدو اليوم أقرب الى الفانتازيا: كيف تحول بيتي الشخصي في عمّان الى" صالون العراق الثقافي"؟ وكيف كانت الصالة الضيقة كل اسبوعين تتسع لتحتضن في مشهد نادر نحو 30 كاتبا وفنانا وموسيقيا من مثقفي العراق الذي كانوا يحاولون الخروج الى العالم انطلاقا من العاصمة الأردنية؟ من النادر أن يكون أديب عراقي حطّ بعمّان دون أن يضيء بحضوره بيتي الذي اتفقت ومجموعة الأصدقاء على أن تحمل الأمسيات الثقافية فيه إسم البلاد التي آوتنا قليلا و لوّعتنا وجرحتنا وهجّرتنا كثيرا، ولو قدّر أن أرفق صور مبدعي العراق وهم يجتمعون في ثنايا البيت الذي إتسع لنزقهم وأوهامهم وتوقهم، لكانت هناك مجموعة نادرة من أسماء باتت في قلب المشهد الثقافي العراقي المتشظي.
في بيته:علي عبد ألامير الاول وقوفا من اليسار، هدية حسين، حازم لعيبي،
عبد الستار ناصر، سعد حمزة، عبد الخالق كيطان( الاول من اليسار جلوسا)
ستار موزان، حيدر الحلاوي و علوان حسين.
الفكرة بدأت مع تقليد إستضافة الأدباء والكتاب في أمسيات وداع لمن يمضي الى واحدة من بلدان اللجوء، كانت هناك أمسيات مخصصة لأبناء الجرح الابدي الذي حمل إسم العراق وهم يصلون عمّان أما للمشاركة في "مهرجان جرش" او في واحدة من التظاهرات الثقافية الأردنية، أو في زيارة للبلد المجاور للوطن، حيث أصبح الوصول الى "مدينة الحجر الوردي" وسيلة للتحايل على موج الحنين، فيأتي الأهل من العراق متوجين بالغبار والضنك، ويصل الكاتب والأديب من غربته أو منفاه متوترا فالمكان يقربّه الى بيئته، والى لغته وطفولته. وفضلا عن إستضافة المهاجرين وإستقبال القادمين من المنافي، كانت هناك صداقات مع أدباء وفنانين يصلون الى عمّان من داخل الوطن، ويتحايلون على هواجس حذر ومخاوف ووصايا كانت تحذرهم من اللقاء مع"خونة ومرتدين يتخذون من بيت علي عبد الأمير مقرا لهم". كم من الأمسيات إمتدت بنا، وكم مرة صار بيتي مركزا لهتاف روحي غريب، فالضيوف القادمون من بغداد كانوا يجدون في يسر الإتصال ورحابة الفضاء في بيت ظل مفتوحا على المحبة ومشرعا على الأمل، وسيلة مثلى للحديث مع أصدقاء توزعهم العالم ، ففي ليلة أنيسة كان هناك المسرحيان الصديقان مقداد عبد الرضا وفاضل خليل، وثمة قلوب من أصدقاء عمّان تحيطهم بمحبة في بيتي، وكان الهاتف وسيلة للوصول الى كريم رشيد وعدنان الصائغ في السويد، ناجي عبد الامير في فنلندا، وياسين النصير في هولندا، فكانت النفوس عطشى الى نقاء مشاعر والعيون سخية في دموعها. في بيت الأمل ، كان المساء أنيسا ودافئا حين حل بيننا الشاعر والناقد فوزي كريم ، وكان اللقاء بصاحب" جنون من حجر " فرصة شخصية لي لإستعادة صداقة مع الشاعر الذي أسرني بقدرته على ان يبقى "مستقلا" وسط إستقطابات حادة ميزت الحياة الثقافية والسياسية العراقية في سبعينيات القرن الفائت، والمكان كان يضيء بفوزي في كل مرة كان يحضر فيها عمّان، ومن بينها كانت هناك فرصة اللقاء به في أمسية قرأ فيها صاحب"أرفع يدي احتجاجا" قصائد جديدة في " بيت الشعر الأردني" حيث تجمع جمهور عراقي أنيس، كنت رسول محبته الى فوزي حين قدمت الشاعر بسطور من إعجاب مستحق بشعريته التي تعمقت برؤى نقدية وافكار عميقة في تذوق الموسيقى.
مع الشاعر فوزي كريم
في بيت الثقافة العراقية، بيتي الشخصي ذاته، إستضفنا الروائي والكاتب سليم مطر، وتحول اللقاء مع نقاد وقراء حقيقيين لمنجز صاحب رواية " امرأة القارورة" الى مناقشة لمنطلقاته الفكرية في إطروحة " الأمة العراقية"، دون نسيان الإشارة الى ان الرجل تحمل بلطف "صراحة" لم تكن تخلو من قسوة حين قاربت بالنقد الحاد ، إعتماد منطلقاته على " ثقل" التاريخ في قراءاته الوضع العراقي، و غياب معطيات الراهن ومتغيرات العصر في النتائج التي توصل اليها .
الكاتب سليم مطر في بيتي
في الإطار الحميم أيضا استقبلت الشاعر شاكر لعيبي الذي لم تشفع رقّتي معه في التخفيف من ملاحظاته القاسية والمتهكمة من أعداد المثقفين الذي غادروا العراق بعد التسعينيات، وإصراره على " انهم تركوا البلاد وانفصلوا عن النظام ، بعد ان تعذّر على مؤسسات الحكم دفع المزيد من الأموال لهم"، وبالطبع كان الرجل "صريحا" جدا بحيث شمل مضيفه بالفكرة القاسية والخالية من الموضوعية، غير إن أمرا كهذا لم يمنعني من ان أحتفي بالشاعر بقوة في مقدمة كتبتها خصيصا لإمسيته في"رابطة الكتاب الأردنيين". بيتي إتسع وأضاء بخطوات رشيقة للشاعر شوقي عبد الأمير الذي بدا سعيدا بوجبة غداء من الرز " العنبر" والسمك، أصرّ خلالها على ان يشاركني وزوجتي وولدي تناولها على الأرض. بيت الصداقة، انفتح مشرع الأبواب لكتاب ومبدعين كانوا يرون عطشهم لينابيع الأمهات، فكانت لنا أمسية نادرة مع المخرج جواد الاسدي ووالدته، فاض بها صاحب " المجنزرة ماكبث" شوقا ورقّة الى" دجلة الروح"، وكانت لنا ساعات أنيسة مع الشاعر خالد المعالي ووالدته القادمة من أرض السماوة التي لم ينه عطشها انها كانت تضم نهر الفرات.
جواد الاسدي والراحلة والدته في بيتي
كم كان الإمسيات احتفالات بالموقف الإنساني، بفكرة الحرية وبالأمل، حين ودعنا الشاعر عبد الامير جرص الذي لم يمهله الموت في منفاه الكندي لاحقا ، بالشاعر اديب كمال الدين، بالناقد د. حسن ناظم الذي كان في المركز المضيء والمشع لفكرة " صالون العراق الثقافي" وأحد الذين عملوا من اجل تحويله الى صالة شموع للأمل ، وكان الى جانب الحيوي والخصب الروح والفكرة الشاعر عبد الخالق كيطان، من أعانني على عبء كنت سأنوء بحمله رغم خزين محبتي للناس الذي كان يتجدد رغم تقادم الألم و" الإساءات" التي طالتني من بعض الذي إمتدت يدي برهافة، وحطت على أكتافه التي كنت أراها متعبة وتنوء(كما توهمت) باعباء وعناءات. والى جانب ناظم وكيطان إنضم الى مركز التجربة الفاعل، الشاعر والناقد محمد غازي الأخرس الذي اكتشفت فيه دأبا وصدقا في الكتابة، أكد لي أن الجدية الخصبة في الأدب العراقي ما انفكت تنتج اسماء وتجارب، كان الأخرس أحدها، فالرجل لم يجزع من ملاحظاتي الكثيرة على إسلوبه وتحرير العروض النقدية في كتابته لمجلة " المسلة" التي صار لاحقا من أركان اسرتها، وللمجموعة الفاعلة ذاتها إنضم لاحقا ابن مدينتي الحلة، الشاعر رعد كريم عزيز بحيويته وحماسته وظرفه.
من اليمين: احمد هاتف، الراحل عبدالامير جرص، علي، عبد الخالق كيطان واحمد حميد
ودّعنا في احتفال صداقة، الشاعر حسن النواب في رحيله الى استراليا، وأرتعشت جوانحنا لهدير أحزان الرجل الذي كشف عن معدنه الحقيقي على الرغم مما أحاطه من " أضواء" مهرجانات الخديعة في بغداد. وفي صمت ظهيرة باردة في عمّان جاءني الشاعر فرج الحطاب مودّعا، تاركا لي إبتسامة أقرب الى شكل الجرح في وجه حزين قبل أن يغادر الى أميركا، ودون أن ينسى قول ما أسعفته الكلمات القليلة شكرا على ما قدمته له من مساعدة ومؤزارة يستحقها فعلا. إحتفلنا بهدوء ورقة، بالشاعر عدنان الصائغ عائدا من عزلته الثلجية الى قلوب دافئة لأصدقاء ومحبين، ووضع رأسه على اكتافنا التي كانت مبللة بدموع من سبقه الى صالون العراق الثقافي.
مع عدنان الصائغ
وبحميمية الملتاعين وجدا وشوقا، عاد الينا من جزيرته القارة، الشاعر الوسيم الملامح واللغة هادي القزويني، عاد من استراليا لينضم الى دائرة إنشغالاتنا في الشعر والموسيقى وتقليب صفحات التراجيديا العراقية .
ومن المكان الأسترالي ذاته جاء المدهش في روحه وصدقه وشفافيته ، القاص والمترجم حسن ناصر ، الذي سيرافقني مع مجموعة شجعان الى بغداد بعد خمسة أيام على سقوط صدام، وإصدارنا أول صحيفة يومية في بغداد التي كانت بدأت عهد حرية صاخب. في بيت المحبة ذاته قال المترجم والكاتب فلاح رحيم الحيدري ما لم يقله في القضية العراقية من قبل، فالمكان أنيس وآمن ولا عيون تتلصص ولا آذان تسترق السمع لتشي بالكلام ، وفي حين قلبنا مع الصديق " القديم" سنوات السبعينيات ، فانه كان متجددا عبر قدرة على مزج التحولات السياسية برؤية فكرية عميقة ، لم تكن تتردد في نقد الشخصية العراقية .
الكاتب سعيد جبار فرحان في لقاء ببيتي بعد نحو ربع قرن على رحيله خارج العراق
وفي لمسة رقيقة مفاجئة طل علينا من مقر اقامته بسويسرا القاص والرسام سعيد جبار فرحان، وبصحبة جاءت أخته الكبرى عائلتها القادمة من بغداد لرؤية هذا المتأمل" الصافن". كان فرحان في بيتنا أنيسا حيويا يعيد الأمل بذلك الكاتب البارع لقصص بدت طرية و" غير شكل" في نهاية سبعينيات القرن الفائت.
في بيت العراقيين ذاته، كان يرمي القاص حمزة الحمزة بجسده المتعب قادما من الكويت ، وبرفقته القاص السعودي حسن دعبل شقيق العراقيين في عذاباتهم وآمالهم. ومعهما كم كانت لنا سهرات نادرة اختلط فيها الغناء بالشجن، والمكاشفة بالأمنيات، حين جاء مقداد عبد الرضا ورائد محسن من بغداد، وانضم الينا من عمّان القاص عبد الستار ناصر وزوجته القاصة هدية حسين، والقاص علي السوداني وزوجته طيبة القلب والروح، وعبد الخالق كيطان وزوجته التي يشبه لون بشرتها لون طين ضفاف انهار العراق، واختلط غناء عبد الستار ناصر لمقاطع من محمد عبد الوهاب، باجواء من الغناء العراقي الحزين آداها مقداد عبد الرضا. الى جانب الغناء تحدث رائد محسن بمزيج من السخرية والأمل عن صورة العراق المستقبلية، فيما " حشر" كاتب السطور القاص عبد الستار ناصر عبر سؤال : كيف ترى تحولك من مديح صدام الى معارضته بقوة؟ ليبدأ جو من المكاشفة لم تعهده من قبل سهرات يغلب عليها الطابع الإجتماعي .
حشد من الاصدقاء في بيتي
في مكان قيّض له ان يكون محطة العراقيين الأنيسة في عمّان، كان يجد الشاعر والأكاديمي في التاريخ د. خزعل الماجدي، فسحة محبة على الأقل من صاحب المكان الذي كان زميله في دراسة الطب البيطري، وصاحب " يقظة دلمون" القادم من اقاليم الصحراء الليبية الى عمّان صيفا، كان يجد في دار صديقه القديم غيمة من محبة تأخذه الى ظلال من تلك الغرفة المشتركة في القسم الداخلي بابي غريب، غرفة الشاعرين المنداة بموسيقى جورج بيزيه وموتسارت ، واجواء " روفائيل الفاسق" وقصائد رامبو . وبين صاحب السطور والماجدي صديق مشترك هو الشاعر والناقد حكمت الحاج الذي جاء عمّان في زيارة عمل من تونس بعد اقامته فيها سنوات خمس، وأثار في إيام قليلة ما عهدته فيه منذ زمن، حيوية في السجال والمراجعة، مثلما كانت قطعتيه اللتين كتبهما في " القدس العربي" عن زيارته عمّان وموقع بيتي في الحوارالثقافي العراقي على الساحة الاردنية.
مع الشاعر والكاتب حكمت الحاج
واذا كان تجمع الشعراء والمثقفين المشردين في بيتي "صالونهم الثقافي" هو تجمع الحالمين الحمقى، فان وجود الناقد والمفكر محمد مبارك بينهم ، كان ضروريا في ضبط الحلم بشيء من العقل، والرجل، رحمه الله، كان حيويا في تعليقاته وبالذات في امسيتين نظمها البيت الثقافي، الأولى اقترحها الشاعر حازم لعيبي وكانت احتفالا بعيد الشعر العالمي وقرأ فيها فضلا عن صاحب البيت نحو عشرة شعراء، والثانية صادفت في العاشر من محرم، وتحدث فيها مبارك عن استشهاد الأمام الحسين عليه السلام بعمق وتجل قل نظيرهما. في بيتنا المفتوح على المحبة والشوق والإنتظار ذاته، إحتفينا بتحفة فنية مثلها فيلم وثائقي عن هجرة المثقفين العراقيين " ما تبقى" الذي أشرفت على مشروعه ونصه وحتى مراحل اخراجه بدعم من"الإتحاد العام للكتاب والصحفيين العراقيين"، والإحتفاء كان عرفانا بابداع المخرج فادي آكوب قبيل رحيله الى الولايات المتحدة.
مع المخرج فادي آكوب اثناء العمل على الفيلم الوثائقي " ماتبقى"
وفي حين اخذت المنافي الشمالية والغربية: الى النرويج وصل الحسينيان الشقيقان هادي وستار، والى كندا وصل الشاعران سعد جاسم وهادي ياسين علي والأكاديمي والمفكر د. نوري اسماعيل الربيعي، حصة كبيرة من اتجاه هجرة المثقفين العراقيين، فان الشرق البعيد ممثلا باستراليا ونيوزيلندا كانت له حصته من غياب الاصدقاء، فالناقد سعيد الغانمي والصحفي طارق الحارس والشاعر عماد حسن إنضموا الى عراقيين في استراليا كان وصلها قبلهم الشاعر هادي القزويني والقاص والصحافي عبد الجبار ناصر الذي ظل بعد ذلك متنقلا بين سدني وعمّان وبغداد، والشاعر عماد جبار وصل الى " ثقب الاوزون" أي الى نيوزيلندا، وللأربعة لمساتهم في"صالون العراق الثقافي" ومحبتهم التي صارت اليوم جزءا من محطة بارزة في دياسبورا الثقافة العراقية. على أعتاب البيت ذاته ولكن في جوهر فكرته حلّ بيننا الجريء الذي يشهر علنا اتجاهه الفكري "اليميني"، صموئيل شمعون اثناء زيارته العاصمة الأردنية مدعوا من مهرجان جرش الشعري، والذي كسر صورة رتيبة للمثقف المشارك في المهرجانات العربية، فهو عوضا عن جلسات الشرب الطويلة ومتنها المكتظ نميمية وريبة، كان يضع ملامح نهائية لكثير من المشروعات أكانت متعلقة بموقعه الشخصي على الإنترنت او مسؤوليته السابقة محررا ثقافيا لموقع" ايلاف"، و لمجلته الرائدة في نقل الأدب العراقي و العربي الى اللغة الانجليزية " بانيبال".
صموئيل شمعون منسجما في عمله وزيارته الى عمان لم تشغله عن دأبه
في "بيت الأمل" سهر الكاتب والإعلامي احمد المهنا رفقة زميله المخرج رعد مشتت واللذان كونا ثنائيا اعلاميا بارعا انتج سلسلة من الحلقات في البرنامج التلفزيوني الناجح " بين زمنين" قبل ان يتحولا الى عمل مثمر ميز ايام البث العراقي الاولى من قناة "الحرة". ومن سوريا جاء الشاعر جمعة الحلفي مشيعا في "بيت الثقافة العراقية" جوا من الشجن العميق في قصائده التي قرأها على ضوء من شموع عطرها الاس والبخور، ولم ينس الحلفي أن يظهر إستغرابه من الطريقة التي إتسع فيها المكان لنحو أربعين صديقا، فيما هو بيت شخصي؟ معلقا بقوله: نتعب في دعوة الناس الى أمسية في أماكن مكرّسة للثقافة بدمشق فلا يحضر الا قلةّ، وهنا يتسع بيت شخصي لكل هذه القلوب المحبة!
حين نظمنا امسية جميلة في بيتي للشاعر جمعة الحلفي
*النص مكتوب في العام 2004 كجزء من مشروع مشترك لكتاب عن عقد كامل من الوجود الثقافي العراقي في عمّان 1993-2003 . |