ولد على ضوء شمعة

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام

23/1/1991 - مكان في أقصى الجنوب
على حافة الملجأ الرطبة، وضعت يدي، برد على كل شيء، برد على العشب، على العجلات، على الاغطية، على الاكتاف، برد على ليل ممزق هنا بالشظايا، برد على جمر الاسئلة، برد على ليالي العراق ... سبع ليال كانت نهبا لموت حاولوا ان يضعونا تحت قبته الثقيلة، لكننا (للآن)، لم نزل نشاغب متاعبنا كل صباح ونتحسس وجهنا، أذرعنا، ولم نزل نشتاق لاحبتنا كثيراً، هاهي ليلة الثالث والعشرين من كانون الثاني 1991، لم أنم منذ ان حاولوا تبديل النسيم بموجات البارود الكثيف، كما ان الكثير كان عليً عمله في وحدتي، وبرغم ان الفرصة نادرة لجولة حساب خاصة مع المشاعر، غير أن التوق يردي كل شيء جانبا ليأخذ هذه الانفاس المتقطعة ويزيد في النفس انشغالاتها المنكبة على تأكيد بديهيتها ... أينها الآن، أينها؟                                    
أين (ذكرى) الآن؟ واين تمضي بجنينها الذي دخل منذ اسبوع شهره التاسع؟ أين رحلت وما الذي سيوقف طفلي الاول (سلام) عن الاحساس بالرعب؟ تناثرت اسئلة تمتزج مع نثار شظايا يطير فوق ملجئي الآن وكان البرد قد حاصر أسرتي الصغيرة.    

كان الظلام كثيفا ...
والطمأنينة شحيحة برغم وفرة القلوب الصديقة ...
كانت هناك زوجة شابة حاصرها ( الطلق ) ورممت مخاوفها بظلام كثيف.
هناك ريف بارد بعيد ...
في صف دراسي من مدرسة مهجورة الاطفال – علامات حياة تنتظم باشكال غريبة...   
موقد صغير، خبز، بطاطس وملابس صوفية بين الحقائب، بعيدا عن النوافذ كانت، ذكرى لا تمل من حكاية تعيدها كل ليلة لطفلها الذي يسأل بدمع عن ابيه.                    
في ليلة الثالث والعشرين من كانون الثاني، كان الجرح يمتد عميقا بامتداد وحشة الليل، كان الالم يستطيل اضعاف الجسد المرتعب الوحيد ... كان جسد امرأتي المتوثب البياض، دمها اغنية احالتها القذائف الى لحظة كثيفة الرعب، دم ايضا هنا، على خنادقنا البعيدة عنها، دم لاستمرار ذاكرتنا، وانشغال دائب بالحريق – المسافة اليها، دافئة ومحمومة، يدها تضغط على حجارة ناتئة في جدار الصف الدراسي كي تكتم صرختها، كي لا تقطع على اختها الكبيرة اغفاءة نادرة في ليالي القذائف.                           
تتابع امتداد يدها، كأنها تريد بها الوصول الى ملامح تتبدد الآن، يدها ترسم في فضاء الغرفة ملامح لي، وتخاطبني بارتعاشة : انا فيض بالدفء واحتمال حياة قادمة، انني اراه سيطلع كبرعم على غصن كهل ! سنصبح اكثر بواحد ... لا اريد له غيابا موحشا لابيه، آه لو تكون لصرختي سرعة الطائرات التي تقصف المدينة الآن، كي تصلك وتجيء اليً، تأتي بذراعك ... آه لمستك الغامضة الدافئة الحنون ...                        
الصراخ اختلط ببقايا الليل الممزق اصلا بالقذائف والرحلة طويلة من تلك المدرسة الريفية الى مستشفى المدينة، تدبروا الامر جيدا، غير انها لم تعد تدرك الاشياء حولها، وشحبت وجوه الناس ... اصوات خطى ثقيلة في ممرات اكتظت بالآهات كانت تلمح احيانا اذرعا كأنها تلوح بالوداع ... وداع من؟                                                   
لا ضوء على الجدران، لا ضوء في ممرات المستشفى ... بقايا اضاءة على زجاج النوافذ، رائحة تعرفها لمطهرات نفاذة، ضمادات، صيحات مكتومة، غير ان الالم كان يشع في جسدها، وتمتد الاذرع لاسنادها: إلى اين تمضون بي؟ تقل الوجوه من حولها، ولكنها تهدأ فجأة: هنا انا امد اصابعي المرتعشة التي لا تصل، غير اني اتبين ملامحك اللذيذة على زجاج ضبابي مثل حكاياتك الغريبة.                                    
في شحة المخدر والطاقة الكهربائية وما تتطلبه ولادة عسيرة، بدأوا التحضير في صالة الطواريء شمعة واحدة بدلا عن المصابيح المكثفة الاضاءة، برق في السماء يخرب على الظلام استراحته الطويلة، مطر على الزجاج ودم دافيء على جسدها الذي اكتظ بالالم، قصف على مكان قريب، وكل شيء يتأرجح في الصالة، والايدي تتوتر ...                         

تلك الليلة كان الالم تاجا على رأسي ...
لؤلؤ من صراخي التمع كثيرا ...
شمعة واحدة 
وأنصال حادة 
والدم يغطيني بدثاره الدافيء 
ها أنت تبتعد ... كأحلامنا التي اصبحت قليلة 
كمحبتنا ... لم تعد تقودنا للنزهة
بل تبنت عندي أطفالا ...

أبني أمير في شارع الجاردنز بعمان 1998

آخر  الليل ... كانت شمس صغيرة هي طفلنا (أمير) تشع في غرفة صغيرة ... شمس صغيرة صامتة، وجوه الاهل تنثر حول زوجتي ابتسامة مربكة ... تستيقظ المتعبة، الشجاعة، تتطلع نحو طفل غض الملامح وتطيل النظر اليه (هذه اغنية اخرى منك ستأخذني موسيقاها طويلا) ... البرد يتكاثف على حدود الملجأ الخفيض ...          
اصابعي ترتجف كأنها تحاول ان تكتب ( ذكرى ) على الرمل البارد الرطب ... دفء في روحي يمنح القلق اجازة اجبارية لبعض الوقت، اتمكن من نبش ذكرياتنا معا، صرخة صغيرة من شيء مكنون كأني استمتعت بها ...                                         
لا عليك ...
انها صرخة من شيء ملتمع لصقي
صرخة من ولد على ضوء شمعة ...
ولد كي يحيا ...
ولد كي يشهد ...
ولد كي احياك ...
ولد كي اتوجه (أميراً) لآخر أحلامي ......



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM