قبة النار 1

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM


قبة النار
وقائع من خليج الموت 1

                                                                          
غروب 16/1/1991
اليوم قررت البدء في كتابة يوميات، محاولة فعل شيء في مشهد ذاهب الى اللاشيء.انه العد التنازلي لموتنا… بالامس انتهت المهلة التي حددتها الامم المتحدة لانسحاب العراق من الكويت، ومنذ يوم امس يحق لقوات التحالف استخدام القوة لتحقيق ذلك. هدوء بارد يحط على كل شيء… ضباط وحدتنا نزلوا الى الملاجئ تحت الارض، بعضهم يقهقه، ولكن ثمة خوف يتملكه مع انه يؤكد: لا حرب!! فيما اسحب خطواتي خارجاً وسيناريو الموت المثير يكاد يرتسم في رأسي.
كنت قبل ذلك بدأت بكتابة رسائل الى اصدقائي  في بغداد،  رسائل قد لا تصل غير انني اودعتها عند احد الجنود وارسلت به الى موقع خلفي لوحدتنا، واخبرته ان يذهب بها الى حيث العنوان، ساعة ان يسمع موتي او فقداني.
غروب بارد، والموسيقى المميزة لفترة برامج الاطفال في التلفزيون أسمعها من إحدى الغرف القريبة لثكنتنا الموقتة: قاعدة جوية مهجورة قرب الحدود مع الكويت، لم تصلنا الصحف منذ أيام -هذا جيد تماماً- لانني تخلصت من عبء متابعة خطابها الرديء، غير ان عنصر الرداءة مايزال حاضراً ومؤثراً في كل شيء. أكان ذلك عبر تعليقات الاذاعة "خطاب ضمانات النصر، والجمعان اللذان التقيا عند الحدود: جميع الاخيار -هؤلاء نحن طبعاً- وجمع الاشرار"! لغة تذكرك بعصور الفتوحات والفرسان الذين انقرضوا، فيما الآخر خطط لهزيمتنا على لوحة إزرار معقدة وصواريخ التحكم عن بعد، إعلامنا يقول: لاعليكم، هؤلاء عبيد الكومبيوتر وأذلاء التكنولوجيا، الرعاة سيهزمونهم وسيسقطون طائرة الشبح حين يذرون الرمل في عيون الطيارين!
غروب بارد، وأوامر تؤكد على تقنين إستخدام الوقود، وتخزين أكبر كمية منه عبر وسائل بدائية، غروب بدائي، أفق صحراوي يهجع، أصوات السيارات العسكرية المسرعة في الطرق الجانبية من حولنا هي الأعلى في هذا السكون، جندي ينزل مسرعاً من رابية قريبة متوجهاً نحو ملجأ آمر وحدتنا أسأله: ماذا يركضك هكذا؟ فيجيب هلعا :التشويش، التشويش، أجهزة الرادار توقفت وظلت مجساتها تدور دون اية رسمة على الشاشة!!

الرابعة فجراً: 17/1/1991
هبوب "عاصفة الصحراء"
نهضت من نومي على صوت اطلاق النار من الاسلحة المضادة للطائرات، أصوات بشرية تنادي باضطراب وخطوات مهرولة بين قاعات وممرات الثكنة، يا للمصادفة السيئة، فهذه هي الليلة الوحيدة التي خلعت فيها ملابسي العسكرية ونمت، فقد درجت على عادة - وهذه إكتسبتها منذ حربنا مع ايران- ارتداء ملابسي العسكرية حتى في سرير النوم، لذا كان علي وسط ذلك الاضطراب أن أرتدي ملابسي وأحمل بندقيتي ومخازن العتاد وأعلق على صدري القناع الواقي من الضربة الكيماوية (أحد شعارات هذا الحرب)، أخذتها معي جميعاً، سقطت خوذتي فيما أنا أتشتت بين نيران نازلة من السماء واخرى تنهض علواً من الارض.

 
آخر كلماتي بالأمس تشير لاحتمال ضربة جوية، وهاهي تطرق علينا بعنف بالغ، الراديو الصغير بين يدي وبدأت البحث عن أصداء ما يحدث على الارض في المحطات، توقفت عند اذاعات عديدة، فيما كان التشويش قد ألغى الاذاعات العراقية تماماً، جاءت إذاعة الامارات فمصر، فـ"صوت اميركا"، ولندن، وفي صياغة شبه موحدة: بدأت عمليات التحالف الدولي ضد العراق وبموجات من الطائرات راحت تقصف مواقع في كل البلاد. العمليات حملت اسم "عاصفة الصحراء"، مصادفات عجيبة لا ادري من اين تطلع لي؟ فقد كتبت قبل شهرين او اكثر، عن إحتمال وقوع الحرب أو عدمه، وذهبت في دقة التوصيف حين قلت ان "العاصفة ستهب نحونا من جوف الصحراء ". وهكذا تداخلت العنونة، وها هي العمليات العسكرية تكتسب تسميتها: عاصفة الصحراء!!
مرت طائرة فوقنا، ولاحقتها الشهب والأنوار التي تخلفها قنابل المدفعية المضادة والصواريخ، لم ادخل الملاجئ الشقية لكرهي الشديد لرمالها المتحركة والتي تتسلل بخبث الى الملابس والاحذية! لم تزل خطوط القذائف المضادة للطائرات تتقاطع في ظلام السماء.
حتى هذه اللحظة، هي حرب اذاعات - بالنسبة لوحدتنا على الاقل - لا احد يعرف ما الذي حصل بالضبط، اركض خلف آمرنا لأسأله ماذا يقول مركز القيادة؟ فيرد علي زاجرا: إذهب عني ،انقطع الاتصال ولقد أصيب المركز بقذيفة صاروخية على ما يبدو. وبينما الفوضى عمّت الثكنة صعدت الى غرفة المطعم، أشعلت شمعة، وضعت قدر الحساء على النار، غرفت من الحساء في صحن مستعمل لم أجد غيره وقضمت رغيفاً من الخبز الاسود.
في الفجر تعالى القرآن عبر اذاعة "صوت الجماهير" من بغداد، وبعد الدقيقة الاولى من التلاوة، دوى إنفجار ضخم، فالصواريخ الموجهة تابعة خطوط الاشعاع الراداري لاجهزتنا، وفجرتها، تذكرت الجندي الذي كان يركض بالامس نازلاً من الرابية ومنوها عن التشويش، من سيجد له اثراً؟
أركض نحو رابية الاجهزة الرادارية، الراديو في جيبي أعلى الصدر وفيه كان صوت (القرآن) بدأ البث صباحاً لتبدأ البيانات والخطابات وبينهما شعر شعبي سمج، عبثاً يثير حماسة تافهة بطريقته الرخيصة، وتعليقات هي انشاء رديء عن النشامى والعز والكبرياء، ثم بدأ يومنا الاول في الحرب يتشكل عبر ما يستجد من الاحداث: وجهت أكثر من ضربة لرعائل وحدتنا المنتشرة في منطقة واسعة هي جزء من قاطع الدفاع الجوي الجنوبي، خمس رشاشات مضادة للطائرات تعطلت بعد دقائق من استخدامها - بسبب عدم استعمالها ولو لمرة واحدة في رمي بالذخيرة الحية-!! قمت بما يلزم للتعويض عن أسلحة بديلة.
وفيما الطائرات تقصف الامكنة حولنا، وتمطر قنابل خاصة على مدارج قاعدة جوية قريبة منا ومقذوفات اخرى مخصصة للتوجه الى عمق الملاجئ المحصنة للطائرات، كانت الاذاعات تقول: غارات بل موجات متتالية من الغارات على بغداد (آه يا احلامنا)  والقواعد الجوية (هذا ما يحصل فعلاً عندنا) ومواقع الحرس الجمهوري (الى الشمال القريب منا)، الرئيس بصوت كأنه آت من مكان ما تحت الارض او ملجأ، يخاطب الجيش والعرب الشرفاء! وينهي خطابه القصير بجملة فيها ثقة جعلتني أضحك بصوت خافت: "يا محلى النصر بعون الله" اي نصر ينتظرنا؟! اذاعتنا تلت بعد ذلك بياناً صادراً عن "دائرة التجنيد العامة" تضمن دعوة مواليد الاعوام 54،55و1956 للخدمة العسكرية فوراً، الكثير من أسماء اقارب واصدقاء تشملهم الدعوة، سترعبهم كل هذه التطورات، وقد تقضي على ما فيهم من آمال شخصية والى الابد، فالهدم عندنا يتم وفق ضوابط وتعليمات دقيقة، انه ليس عشوائياً بل هو هدم (منظّم) وفي غاية الدقة ايضاً! ومنظوماته فاعلة ومتحركة في إحلك الظروف المزيد من الحطب –أقصد الناس- يلقى بهم الى جوف نار لم تخمذ منذ  اوائل الثمانينات.
وهذا الانجاز (المتوقد) يصل لذروته هذه الايام… النيران حولنا، ومواقع المدفعية بعيدة المدى، القريبة منا بدأت بقذف لهبها الى الافق البعيد باتجاه (حفر الباطن) و ما لبثت الطائرات ان استلمت الاشارة وتكفلت الاجابة عليها، الاذاعات تعلن عن انضمام فرنسا الى الجولات القادمة من الغارات علينا، وتعالي يا نيران، وتعالي يا فصول استباحة دمنا، وفجرك مخضب بنثار اجسادنا يا "عاصفة الصحراء"، بلادنا تصدر المحنة والسلطات الغاشمة وتهدي ابناءها الى فراغات الآفاق ووحشة السواتر والخنادق، انها لا تطيق رؤيتنا نطلع الى الصباح بروح متجددة، ومنذ اكثر من عقد كامل! فيا للبلاد… يا لمحنتها، يا لتراث الخراب الذي تعيده "معاصراً" وفاعلاً في أيامنا.
 
السابعة صباحاً: 18/1/1991
ملاجئ… ملاجئ
يقول بريفير:  "الحرب… يا للغباء". أتذكره وأنا أنزل من الطابق العلوي لاحدى بنايات الثكنة، الى الطابق الارضي، لم أنقطع عن الذهاب الى مكتبي، ولم أدخل الملجأ حتى الان على الرغم من توالي الغارات وازدياد ضراوتها، وتوالى مهرجان الالعاب النارية الذي تشعله الاسلحة المضادة - التعبير لاحد طياري الاسراب الامريكية المغيرة على بغداد-  .
رحل الجميع الى الملاجئ تحت الارض، وتوزعت المعاول والمجارف حول سياج الثكنة الخارجي مختارة اشكالاً متعددة من التنفيذ لملجأ سيكون بمثابة وهم خلاص. من أجل هذا راح ثلاثة من الجنود، الذين عرفوا بكسلهم الاسطوري، في سباق من أجل الحفر تحت قشرة الارض الرملية الكريهة.
ضربت قواتنا الصاروخية اسرائيل… الاذاعات بدأت تشعل الموقف استعداداً لرد اسرائيلي متوقع، فيما تولت الولايات المتحدة الرد "الحازم" عن طريق تكثيف الغارات الجوية وبذلك أقلعت طائرات من قواعد في تركيا للمزيد من النار ولزيادة رقعة الحريق، المزيد من المجانية لموتنا الذي أصبح سهلاً وكأنه "عمل شعبي" كما وصفه احد الجنود ساخراً، وتنهال علي الاوامر: عجلات صالحة لتنفيد واجبات لاتنتهي، المزيد من الوقود، نضائد جاهزة لتشغيل عجلات الاجهزة الرادارية، حفر المزيد من الملاجئ، حراسات، توزيع مياه الشرب، تعويض عتاد الرشاشات الذي تعرض للقصف الجوي فأحاله الى كرات لهب وشظايا، كل ذلك يريده (المقر الاعلى) مرة واحدة ودونما تأخير، لكن من اين؟ وقد تقطعت بنا السبل واصبحت الحركة البسيطة، هي الاخرى معرضة للرصد ومن ثم الاصابة الاكيدة، الجواب يأتي ابلهاً وسخيفاً ويائساً ايضاً: لا ندري… وانت المسؤول عن التأخير في التنفيذ، آه كيف لي انجو بنفسي؟ ليس من الحريق الشامل، بل من فوضى واضطراب عقليات ضحلة وأذهان تمتلئ بكل ما هو متعارض مع المنطق - بمثل هذه القيادات يراد لنا أن نهزم التحالف الشديد البأس-!
المطر ينزل الآن وتبتل الثكنة ويلتمع الأسفلت في شوارعها، علّها غيمة تخمد النار؟… أمنية باهتة تشتتها الوقائع المشتعلة لاحداث القصف والرد الذي جاء مخيباً للآمال من وحدات الدفاع الجوي (وقائع وحدتنا تكشف مثل هذا الرد البائس)، فثمة كلام عن إسقاط طائرات لكن لا حطام الا للقليل الذي يتضارب مع الأرقام الإعلامية.
وإعلامنا مهد لهزيمتنا، فمن غير المعقول أن يظل يردد أغنيات فقط، رديئة اللحن وبشعة في إختيار الكلام: الاغنية التي يرددها بصوته الأجش ، المطرب ياس خضر، وتتحدث عن "روعة صدام وعصره الذهبي"!
لا ترد إشارة أو تعليق مناسب حول الاحداث، لا نشرات اخبار تتوفر فيها علاقة مع ما يحدث في الميدان، وكأنك تسمع اذاعة تبث من كوكب آخر، وليس اذاعة دولة تحارب في العمق العميق منها. هزيمة إعلامية كنت أتوقعها لكن ليس بهذا الشكل المخزي، وجعلتني أتحسب لاخرى مثلها في الميدان. إستدعاني آمر الوحدة وبدلاً من إجابة واضحة لطلبي الذي كتبته والمتضمن السماح لي بمغادرة الثكنة ليومين، بغية إيجاد طريقة لتعويض خسائرنا من بعض المواد، كذلك الاطمئنان على وضع زوجتي حيث إقترب موعد وضعها للجنين، بدلاً عن الاجابة، مرر جملة مفادها: مغادرة اي فرد للثكنة تؤدي الى الاعدام! نعم فالمصائر مبتذلة وتطير بسرعة ووقت الامضاء على أوراق تحقيق فيها كل شيء ملفق ومزيف، لا يستغرق أكثر من لمحة بصر، سيرة موت عبثي كهذه جعلتني أختنق، فمن أي نار تهرب؟ نار الأفق المعادي أم من نار "المعاني السود" كما يصورها الشاعر العراقي فوزي كريم :
كل شراع
لم يعد اليك يا مخافر الحدود
لا باحثاً، سدى، عن المعنى
ولكن هرباً من المعاني السود
… فهو شراعي
متى ننتهي من روزنامة حياة يحددها القتلة وندخل الى السلام؟ –آه يا تسمية السلام، متى أفتح مغاليق المعنى فيك وأدخلها حياة طمأنينة-؟ أستعيد هنا على رغم حالتي المتوترة والهلع الذي يعصف بي ما يقوله ريتسوس: السلام يعني يد طفل تمتد الى قنينة حليب. المعنى الذي يدفع به وعيي الشخصي يصبح جاهزاً امام مسيرتي اليومية ضمن جيش يحارب ويحقق الانتصارات "الاذاعية"، هذا المعنى تدمره شهوة السلطة وتصعد وتتوالى فصول إستباحة دمنا، طفولة مغدورة ويا للأمهات وأوجاعهن، يا لحيرة الآباء وندمهم - لماذا يقتل اولادهم في الحرب تلو الحرب؟- يا لشقاء النفوس كلها يا للألم في الثنايا حين يطلق في فضاءات الروح غيوم العتمة ويرحّل النفوس الى دهاليز القمع والبطش وموسم القتل المجاني…


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM