تشومان .. موقد ساخن لحكايات الشتاء

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM


 علي عبد الأمير
إلى سامال
 
في أوائل شهور دراستي الجامعية كنت ما إن أسمع أغنية " ليالي الشمال الحزينة"، أحيلها مدخلاً إلى مدن كردستان العراق التي لم أكن قد زرتها بعد. وتلويحةُ المطربة فيروز كانت هاجساً يدعوني إلى معرفة "الحزن" في تلك المدن التي اختلطت في ذاكرتي بين النفي لمعارضي الحكومة من العرب، والمعارك التي يشنها الجيش عليها في محاولته فرض ولاء سيكون ثمنه دموياً حد الرعب، على الرغم من صورة " سياحية" كانت تقدم مدن كردستان بوصفها "مصايف" العراقيين الهاربين من قيظ الصيف.
غير إن صورةَ مدن الشمال الكردية على الأرض كانت أكثر حزناً من صورتها في الأغنية، ومثل هذه الحقيقة تعرفت إليها مع وقائع الحرب التي عاشتها كردستان العراق منتصف سبعينيات القرن الماضي حين شن نظامُ البعث حرباً واسعةً بقصد اخماد الثورة الكردية واطفاء جذوتها في أعالي الجبال، حيث رجالٌ أشداء كانت الماكينة الاعلامية الرسمية تصورهم أشراراً لايجيدون سوى "قنص" الجنود العراقيين.
وكلما استعدت صورة مدن كردستان تبدأ ذكرياتي رحلةً تبدأ من " تشومان" ولاتنتهي بـ “رانية" و"قلعة دزه" وصولاً إلى " كلار" مرورا بـ " بنجوين" و"عربت " و" نالباريز". 
ومن بين دخان معارك كردستان في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن الفائت ثم سلامها، أتسلل الآن إلى "ليالي الشمال الحزينة"، ولكن ليس بحسب الصورة التي رسمتها فيروز في أغنيتها، بل عبر تجربةٍ شخصية فعلية وخارج الإطار "السياحي" بين تلك الارجاء المترامية "الحزينة"، بدأت منذ قرار النفي الذي اتخذ اسم الخدمة العسكرية طبيباً بيطرياً في "سرية نقلية جبلية" مقرها أربيل وتمتد خدماتها إلى معظم القطعات العسكرية في شعاع واسع يمتد إلى الحدود التركية شمالاً وإلى الحدود الإيرانية شرقاً. أتسلل الآن إلى رحلةٍ ابتدأت بالياسمين وانتهت بالقذائف (يا إلهي كم من القذائف تساقط على أحلامنا)؟
المدن تمنح النفسَ ملامحها وتترك فيها نكهةَ من الحياة التي تتشعب بين أرجائها، أسواقها، نواصيها، أرصفة تتسع دائما لمزيد من الحكايا وجلسات الاسترخاء عند مقاهي الشاي الساخن. ومثل هذه الملامح وجدتها في أربيل ما إن وصلتها في أواخر تشرين الأول 1979، لكن مع بزتي العسكرية وجدت حذراً في تعامل الناس يقرب إلى الضيق معنا (أنا وزميلي عماد محمد رشيد)، حتى وجدنا وسيلةً عمليةً للتخلص من هذا الحرج، فكنا نستبدل ملابسنا العسكرية في نقابة الأطباء – فرع أربيل، لنلبس ثيابنا المدنية موفرين على نفسينا امتعاض الأهالي، وفي الوقت ذاته كنا نربح حريتنا في الحركة والدخول إلى أمكنة كان مستحيلاً على الجنود الوصول إليها.
وما إن بدت أربيل تزهو بين جنبات روحي المفزوعة، وبالكاد بدأت اتطامن معها ومع عوالمها، حتى أصدر آمر وحدتنا العقيد عباس علي قادر (كردي من السليمانية) أمرا بتنسيبي إلى مفرزة سريتنا ضمن لواء المشاة الثامن والتسعين بمنطقة تشومان بحسب "نصيحة" زميلنا د. عادل والذي كان يشغل منصب "ضابط التوجيه السياسي"، وحذّر الآمر من خطورة وجودي في مقر الوحدة بأربيل باعتباري "معادياً للحزب والثورة"، فيما تقضي أوامر الاستخبارات العسكرية بابعاد المشكوك في ولائهم إلى أقصى المناطق النائية. وكان "زميلنا" الملازم المجند عادل أبن النجف في حسه التآمري نقيضا لزميلنا د. ياسين محمد عباس المطوع كضابط بيطري على الملاك الدائم في الجيش، فالأخير كان يخفف من وحشتي واضطرابي من أجواء العسكرية وصرامتها، ومثله فعل زميلنا الملازم البيطري المجند د. فارس نوار الدليمي الذي كان يقف للأحابيل والدسائس، منتصراً لي ولاهتمامتي بالأدب والموسيقى بعيداً عن تأويلات "أبو التوجيه السياسي" الدميم.
ها أنا أستعيد الآن ملامح "تشومان" التي كانت في التصنيف الاداري، قضاءً تابعاً إلى محافظة أربيل، ولكنها كانت أقرب إلى القرية منها إلى ملامح المدينة الحقيقية. وبالرغم من تواضعها العمراني واختباء بيوتها المتناثرة بين الوديان والسفوح ووحشة ملامحها وخلوها من أي إيقاع مديني، إلا أنني وصلت سريعاً إلى معادلةٍ قلقة بشأنها: إما أن أصادقها لتصبح "جنة" منفاي، أو أكرهها فتصبح "جحيم" ذلك المنفى. 
وصلت تشومان أول مرة في أواخر تشرين الأول 1979 رفقة زميلنا الملازم البيطري المجند د. رياض مسلم والذي عمل فعلياً على تقليل رعبي وإحساسي العميق بالوحشة كلما طالت الطريق بنا.
حين وصلت تشومان كنت قطعت أكثر من مائتي كيلومتر بين أصعب التضاريس على البرية والتي تتشكل منها المسافة بين أربيل و"منفاي الكردي"، انها رحلة صوب أقصى شمال شرق كردستان العراق.
لم أعد أتذكّر مشاعري وأنا أدخل تشومان أول مرة، على الرغم من تعلقي بالأمكنة تطلعاً ومشاهدة وحفراً في الذاكرة ومقارنات بين بيئات عشتها وأخرى أحلم بها وغيرها مما أصبح واقعاً يومياً. لم أعد أتذكر غير بطانيتين ووسادة مربوطة إليهما بحبل في يد، وحقيبتي في يدي الأخرى. وكان ثقل ما أحمله كفيلاً بان أتوقف عن التطلع في المكان الذي سيأويني في هذه الأصقاع النائية: بنايات متهالكة تتناثر على امتداد سفح واسع بنيت عشوائياً من أحجار مختلفة الاحجام، وتوزعت تلك البنايات ضمن مساحة حددها سياج صخري خفيض يمتد لمسافة طويلة، عرفت لاحقاً إن تسميته العسكرية الرسمية هي "الساتر" الذي سنقف عنده بحذر في أوقات الإنذار لاحقاً.
انه معسكر لواء المشاة الجبلي 98 الذي يضم مقرَ قيادةٍ مبنياً وفق طراز البيوت الغربية السائد في ستينيات القرن الماضي، ومع توالي أيامي هناك عرفت إن المكانَ كان مقراً للزعيم الملا مصطفى البارزاني وانه جمع بين القائد الكردي التاريخي و"السيد النائب" حينها صدام حسين اثناء مفاوضات اتفاقية السلام التي أقرّت في الحادي عشر من آذار/مارس 1970.
الطريقُ إلى تشومان استعدتها في ذهاب إليها وإياب منها للفترة من تشرين الأول 1979 حتى تموز 1980 حين نقلت إلى راوندوز، وخلال سفراتي على تلك الطريق خبرت جداولَ المياه التي تتسع تارةً فتهدأ مياهها، وتضيق في أخرى فتندفع التياراتُ بقوةٍ ضاربة الضفافَ الصخرية التي كثيراً ما تنهار مقاومتها أمام قوة الاكتساح فتهدي إلى الجدول قطعةً صخريةً كبيرةً تندفع إلى وسطه لتجاور أخرى سبقتها إلى هناك حيث احتمال التآكل والتعرية أو التحول إلى سطوحٍ ناعمة تنمو فوقها الأشنات.

طريق كلي علي بيك القديم الذي سلكته مرارا
  

الطريقٌ كانت دائما ضيقةً وتلتاذ بالسفوح كأنها تخشى على سالكيها من هوة الوديان السحيقة. وكانت التضاريس على جانبي الطريق تتبدّل، فبعد ديانا وسهلها الفسيح تضيق الطريق ليلتقي سفحا جبلي "هندرين" و "زوزك " وهناك تتشكل منطقة "جنديان" والتي تأوي في كهوفها العميقة "سحرة المياه" الذين يهبون الصيف ماءً بارداً في عين تحمل اسم المنطقة، ويجعلون الماءَ دافئا في الشتاء.
أولئك " السحرة" عقدوا صلحاً مع أصحاب المطاعم والمقاهي الذين استغلوا الظاهرة: الماء البارد صيفاً والدافىء شتاءً، وحوّلوها نقطةَ استراحة يتوقف عندها المسافرون. وحاولت مرة تفسيرَ الظاهرة المائية "الغامضة" بحسب تفسير علمي لمجموعة المسافرين معي في سيارة صغيرة كانت تقلني من أربيل إلى تشومان، فأوضحت إن الثلوج تبدأ بالذوبان في الربيع وتتحول في الصيف تدفقاً مائيا ينزل بين طبقات الأرض في الجبل فيصل إلى العين ماءً بارداً، وإذ يحلّ الشتاء تكون درجةُ حرارة العين أعلى بكثير مما في الخارج فيبدو الماء دافئاً، غضب مني سائق السيارة التي تقلّنا وقال محذراً انني بتفسيري أثير غضب "الجن" الساكنة في عمق الجبل، وهو فألٌ غيرُ حسن علينا في الطريق!
بعد جنديان و"غرابة" أطوار المياه فيها، تضيقُ الطريق وتكادُ السفوح تلتقي ببعضها بالذات حين تصل "مضيق برسلين" والذي ينقل عابره من الاحساسِ بندرة الفضاء إلى رقعةٍ فسيحةٍ تأتي دونما مقدمات. تنعطفُ الطريق حول تلك الفسحة لتصل قرية تنزلُ بيوتها عميقاً نحو جدول المياه الذي يسقي مجموعةً متناظرة من الحقول. وتنفتح الطريق ثم تضيق وتنفتح لتصل إلى قرية "ريزانوك" أو " ريزان" ببيوتها الخفيضة السقوف والمولعة بتزيين نوافذها المطلة على الشارع العام بنباتات مشذبة ومشتولة في صفائح معدنية على الرغم من كون تلك البيوت محاطة بغاباتً خضر ومن كل جانب!
انها بيئةٌ خصبة ومحمومة أيضا بالأسرار، كنت أسجّل مشاهدها في ذاكرتي، وأجد في مراقبتها نوعاً من السلوى وقتلاً للوقت الطويل. عبرت قناطرَ خشبيةً صغيرة وأخرى حديديةً كبيرة، صعدت إلى ينابيع مياه وأمضيت أوقاتا عند جداول، تطلعت في سماوات تضيق بسبب القمم العالية المتراصة، ووجدت في غرائبية المكان ووحشته الضارية تناغماً مع روحي المفزوعة أنا القادم إلى هذه المضائق الجبلية من آفاق تجربة تكسرت فصولها كما تتكسر هنا مديات الرؤية، أنا القادم من حربي الشخصية على الخذلان وانكسار الأمل إلى حربٍ كانت بزتي العسكرية تمثلها.

في تشومان نيسان 1980

"طاحونة ذكريات" في ناوبردان

من نقطة على يسار الطريق الواصل إلى تشومان، يتفرع ممرٌ اسفلتي صغير يصعد عالياً بين الصخور مؤدياً إلى "كلالة " التي استعيد معها دلالات الأسم وما علق به من مؤشرات طبعت تاريخ المنطقة حين اتخذها الزعيم ملا مصطفى البارزاني مقراً له اثناء قيادته الثورة الكردية وتحديدا اثناء مواجهته نظام الحكم العراقي في العام 1974. وتلبية لنداء مجنون في معرفة القرية التي صارت أسطورة في تاريخ كردستان العراق، طلبت من سائق سيارة مدنية أن يقلني ذات نهار إلى كلالة، فحرصت على ارتداء ثيابي المدنية احتراما لمشاعر الناس الذين كانت مظاهر العسكرية تخنقهم.
بيوت كلالة وبسبب ضيق الوادي الذي تنفتح فيه، تتراكب واحدةٌ فوقَ الأخرى، وسطحُ بيتٍ ما، هو فناء البيت الذي يعلوه، وتلك هندسةٌ بناءٍ فطريةٌ غالباً ما يلجأ إليها الناسُ في قرى كردستان المبنية دائما بين شقوق الأرض وأعماق الوديان. كانت حجتي جاهزةً في حال ايقاف السيارة من قبل السيطرة العسكرية: انني الطبيب الخاص بالمستوصف البيطري الحكومي في تشومان وجئت إلى فرع الدائرة في كلالة، وبالطبع كانت هوية "نقابة الأطباء" منقذاً لي في عشرات الحالات الحرجة، وتحديدا حين أحرص على أن أكون بملامحي الطبيعية خارج استعارات القوة العسكرية التي كانت تضفيها على شكلي ملابس الجندية.
بعد الطريق الفرعية المؤدية إلى كلالة، تستمر الطريق إلى تشومان منحنيةً متعرجة بتعرج الجدول المندفع المياه الذي يحاذيها حتى تنفتح قليلاً عند حافة الجدول، ومن تلك الفسحة تمتد قنطرةٌ حديديةٌ للعبور إلى ناوبردان حيث جمال طبيعي لا يقاوم سحره، وفضلا عن أناشيد الطبيعة ثمة اللمسة الانسانية وتحديداً في النهارات الشتوية الباردة، فثمة خيوط الدخان المنبعثة من فتحات في سقوف البيوت، خيوطُ حياةٍ تبدد الصمتَ الموحشَ في تلك الأرجاء، وهي تعني ناراً داخل البيوت، تعني دفءَ الحكايات. ومثلما تعمق المشاهد تلك ملامح الأغنية الفيروزية: " ليالي الشمال الحزينة" ثمة ملمح في المكان يحيل ألى فيروز مرة أخرى، فالطاحونةُ تطلّ على حافة الجدول المائي "كان عنا طاحونه على نبع المي"، ولكن هذه المرة أنا الذي صرت " طاحونة ذكريات"، وليس كما تقول الأغنية "جدي صار طاحونة ذكريات".
لم تتبق سوى خمسة كيلومترات حتى أصل الى المكان الذي أقصده كما تشير الى ذلك العلامة المرورية، وها هو المضيق الذي رافقني قرابة الساعة بسيارة مسرعة، ها هو يصير فسحة مكانية لم تكن لتخطر لي: أفق متسع وكأن يداَ ضخمةً دفعت بالجبال بعيداً عن بعضها فراحت تلك القمم العالية تنشغل بقبعاتها الثلجية ومداعبة السحاب. 
هاهي تشومان تستلقي في سهل محاط بدائرة من أكثر الجبال ارتفاعا في كردستان العراق، فعلى يمين مدخل المدينة الشمالي يشهق عاليا "جبل سكران"، وفي قلب المدى البعيد يرتفع "جبل كردة مند"، وإلى يسار المدى يطلّ "حصاروست" مزدهياً بقمته المغطاة دائما بالثلج.  توقفت سيارتنا عند سيطرة عسكرية ومن جنودها تعرفت على وحدتي، وكان المكان الذي آواني أول ليلة حسن التنظيم، ويدل على حسن ذوق من يسكنه، فـ"المفرزة الطبية" كانت بمدخلٍ نظيف وبغرف قلّل الترتيبُ الحسنُ لمحتوياتها من تواضع عمرانها ووتداعي جدرانها وسقوفها، وقبل هذه العلامات كان أهل المكان من طبيب ومساعديه وانسان طريف من سكان "سوق الشيوخ" بالناصرية سيكون مساعدا لي في عملي، كانوا جميعا أحاطوني بودّ منذ ليلتي الأولى معهم وهو ما قلّل من احساسي بالوحشة والغربة.

في المكان العجيب هذا شهدت مباهجَ عدة أوّلها اكتشاف الثلج حين نزلت كراتهُ الصغيرةُ على جسدي الذي حميته بمعطف الصوف الثقيل، وفيه صادقت الأحجار، ولم أتردد في تكوين مجموعة منها بأشكال غريبة وألوان نادرة وبخاصة تلك الأحجار الصغيرة التي أختارها من حافات الجداول أو من أطراف ينابيع المياه، صعدت إلى أعلى السواقي المنحدرة من الجبال ووصلت عيونها المنبثقة من بين فتحات صخرية كبيرة، وشربت من تلك العيون ماءً أحلى من العسل وأنقى من الكريستال.  
في تشومان تتشكل تضاريسٌ كجوقةٍ منسجمةٍ لا تتوقف عن الانشاد. في ليالي المعسكر الطويلة وجدت سلواي الخاصة عبر صداقة مع الراديو، وتحديدا مع صوت دافىء كان يقدم مزيجاً من التعليقات والمعلومات في فضاء من الأغنيات العربية والغربية، صوت المذيعة هيام في إذاعة "مونت كارلو" التي كانت غيّرت الايقاع التقليدي للاذاعات وبرامجها. ومع إيحاءاتٍ أنيسة من صوت هيام كان الليل يأتي أنيساً وناعماً ومتدفقا بالأسرار، وكنت أقضي مع ذلك الصوت ما يعنيني على أسئلة الخوف والحذر التي ظلت تلازمني في أيامي الأولى، الخوف من طلقات المدفعية التي كانت تطلق قذائفها باتجاهات لم تكن محددة بالنسبة لي، والحذر من أهالي المدينة لاسيما إن تحذيرات كثيرة كنت أسمعها في المعسكر من "مخاطر" الاختلاط بالأهالي.
فضلاً عن صوت "هيام"، كانت مجموعتي من الأغنيات والمقطوعات الموسيقية المختارة بعناية ضمن أشرطة كثيرة إلى جانب كتبي، كانت خيرَ عونٍ على قضاء ليالي الوحشة والخوف والحذر. الليالي التي تجلّت قسوتها ذات مساء حين انطلقت قذيفةٌ نحو معسكرنا من جهة بيوت تقع أسفله.  صحيح إن لا إصابات محددة وقعت في المعسكر أو جنوده إلا إن القسوةَ في الحدث تجلّت في الصباح التالي حين بدأ الحديث يكشف كيف قام آمر وحدتنا وهو ضابط عنيف الطباع اسمه كرم ذيب النمري أردني الجنسية، بقتل صاحب البيت الذي قيل بان القذيفة انطلقت منه. حينها انكشفت مخاوفي عن تحول سريع لصالح أهل المدينة حد أنني وضعت المحاذير خلف ظهري ورحت اكتشف المدينة، متاجرها ومقاهيها الصغيرة وجامعها الذي يخترق باحته جدول كان ماؤه يتألق على سواعد المصلين وجباههم حين يستخدمونه للوضوء. 

ماضٍ سياسي  
توثقت علاقتي بأهل تشومان عبر الخدمات التي كانت وحدتنا الطبية تقدمها لهم، بعض تلك الخدمات كان معلنا والبعض كان سريا لاسيما حين يتعلق الامر بإيصال كميات كبيرة من الأدوية إلى المرضى، وكان ذلك يتم عبر شبكة من العلاقات سهّل اقامتها زميلنا، د.نور الدين، وهو طبيب كردي من أربيل كان يتمتع فضلاً عن ألمعيته العلمية بروح الدعابة والفكاهة حدّ انه طلب مني أن أبادله الأشرطة الصوتية الثلاث لمسرحية عادل امام "شاهد ما شافش حاجة" والتي كنت حملتها معي زادا للسخرية يعنيني على أيامي المكفهرة في المعسكر، بالأعمال الكاملة للشاعر نزار قباني. نور الدين كان وسيلتي إلى معرفة أعمق بالمدينةِ وأهلها، وكنا معا نتجول في شارعها الرئيس الوحيد، فتوقف ذات مرة عند عبارة "حكومية" شهيرة مكتوبة على سياج المدرسة القريبة من المعسكر وهي: "أطفال اليوم شباب المستقبل " وقال معلّقاً بسخرية " أطفال اليوم "عصاة" المستقبل" ، ومفردةُ "عصاة" هذه كانت الصفةَ التي تشيعها الحكوماتُ المركزية في بغداد عن المقاتلين الكرد، وهو ما كان ليطلق عبارات كهذه، بل ما كان ليشاركني في جهوده الطبية لمساعدة المرضى الكرد سراً لولا معرفته بانني من " المشكوك في ولائهم "، والمبعدين الى هذه المناطق النائية عقاباً على ماضٍ سياسي وعدم موالاة للحكم.

"قصر الملا"
هذه الألفةُ مع المكان وأهله جعلت مخاوفي تتلاشى تماماً، بل انني كنتُ هادئاً تماماً في أوقاتٍ ومواقفَ كانت تستدعي القلقَ أثناء خروجي والمفرزة الطبية البيطرية إلى أفواج لوائنا المتوزعة في مناطق “قصري" أو " قصروك" وكذلك في منطقة كانت تعرف بـ " قصر الملا" وصولاً إلى "رايات" في الطريق إلى "حاج عمران" التي تعتبر بوابة الحدود مع إيران.
في "قصري" تعرفت على واحدة من مراحل صراع الكرد مع حكومة البعث، فالمكان كان يضم مستودعات كونكريتية ضخمة يستخدمها المقاتلون الكرد كمخازن للعتاد مما عرضها إلى قصف جوي كانت البنايات المهدمة أمامي تترجم قوته. وهالني في المشهد وجود مفارقات قائمة على إن المكانَ مفتوحٌ بين سلاسه الجبلية القاسية على سهول من الجمال والخضرة، فيما الوجود الانساني فيه قائم على التدمير والبطش والموت.
وفي " قصر الملا" حيث فوجُنا السادس، عرفت إن المكانَ هو مقرٌ اقامة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني. بيتٌ كبيرٌ مبنيٌّ وفقَ فهمٍ عميقٍ للبيئة وللدواعي الأمنية أيضا، فمدخلهُ غيرُ مرئي إلا حين يصبح الناظرُ إلى "القصر" بمواجهة ذلك المدخل، وثمة ثلاثة سفوح تلتقي في المكان الذي اختير مقراً لإقامة الرجل الذي اختلطت في صورته عند العراقيين العرب ملامح المتمرد الشرس بملامح المقاتل المخلص لشعبه.
في ذلك المكان نمتُ عند زاويةٍ معتمة دافئة بينما كانت الليلة باردةً بريح ثلجية يسميها الكرد "ره شبا "، وصعدت في النهار التالي إلى سفوحٍ مطلة على المكان، كانت الطريق إليها شديدة الوعورة، ومن هنا جاءت الاصابات الكثيرة التي تعرضت اليها أعدادٌ من البغال وهي الوسيلة الوحيدة لتأمين الطعام والماء والعتاد للجنود في رباياهم العالية. عالجت ومعي المساعد البيطري ومضمدان عدداً من تلك البغال التي كان بعضها مجروحا بسبب الطريق الصخرية، وتحولت تلك الجروح إلى التهابات حادة جعلتها غير قادرة على اداء واجباتها.
وأطرف ما كان يشاع من حكايات حول البغال في الوحدات العسكرية المنفتحة بين الجبال، انها كانت " تنتحر"، فترمي بنفسها من القمم العالية إلى الوديان "جزعا من حياتها هناك". وحقيقة الأمر إن تلك الحيوانات البائسة كانت تحمل كثيراً أكثر من طاقتها بالمؤن الثقيلة، فتتعرض في سيرها إلى القمم العالية إلى أن تضع حوافرها على صخرة ناعمة الملمس فتفقد توازنها وتقع إلى أسفل، فتجرها الحمولة الثقيلة إلى بطون الوديان. أما " الانتحار" فيأتي تأويلا من الجنود الذين كان الوضع المأساوي الذي يعيشونه، يجعلهم يتمنون القدرة على الانتحار للخلاص من وضع رهيب يقضون فيه نحو شهر في مكان مقفرٍ عالٍ بعيداً عن أي إيقاع للحياة. 
وأحد أجمل الامكنة في المناطق القريبة من تشومان، بل قد يكون في كردستان كلها، كان الطريق إلى"رايات". هو أقرب ألى طريق السهل المنبسط منه إلى الوادي السكران بالجدول المائي النائم في حضنه، وحين كنت أسلكه وأنا في طريقي إلى رعاية بغال الوحدات العسكرية القريبة منه، كنت أعبر ممراً إلى الأحلام أكثر منه ممراً واقعياً على الأرض، خضرته الآسرة في الصيف، وألوان أوراق أشجاره المتباينة بين الأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر في الخريف، أو انحناءة الأغصان بتاثير الثلج المتساقط عليها في الشتاء. مكان يفترض أن تحتفل به الحياة لا أن يكون هكذا قرين العزلة والصمت الثقيل، مكانٌ جديرٌ بان يجعل النفوسَ حرةً وطليقةً وأنيسة، لا أن يجعلها نهباً للخوف والحذر، لا ان يجعل هذا الافق الباعث للجمال، أقرب إلى حقل الغام!

فرن الخبز في صباح الثلج
في تشومان موسمٌ طويلٌ للثلج يمتد قرابة الشهرين، وينزل بكثافة في الأسبوع الأخير من السنة، وفي فجر اليوم الثالث من ذلك الأسبوع الثلجي قررت الرحيل إلى بغداد لتنشيط الدورة الدموية لعلاقة حب كانت بالأصل محاولة في اصلاح المبعثر من جسد صداقة نمت تحت ظلال "الآيديولوجيا". آمر الوحدة رفض بقسوة السماح لي باجازة قصيرة، غير انني قررت الرحيل وانتهى الأمر!
الثلج الكثيف وفّر لي غطاءً للخروج من المعسكر دون أن يراني أحد، فأغلقت باب غرفتي واجتزت البوابة الثانوية للثكنة مخترقاً شارع المدينة صوب نقطة تجمع السيارات الذاهبة ألى أربيل. الأشياء كلّها مغطاةُ بالثلج: الطرق، السيارات المتوقفة قرب الأرصفة، البيوت، الأشجار، ذراعي، غطاء الرأس الصوفي وحقيبتي أيضا. الثلج كان ينزل بنعومة غريبة، نعومة تحيل المكان إلى صمت موحش. توقفت عند علامة الحياة الوحيدة في المدينة: فرن الخبز وهو يدفع بالأرغفة الحارة، ثلاثة عمّال يخبزون ألقيت عليهم تحية الصباح بكردية مرتبكة، قدموا لي شايّاً وقطعة خبز شهية. كنت أراقب الشارع لكن لا أحد، وتلال الثلج المتكومة فوق السيارات المتوقفة كانت تشعرني باحباط قوي، لكنه لم يتمكن من قلبي صعب المراس الذي لا يحيد عن وجهة نبضه. ومن عمق تلك اللوحة الثلجية الصارمة للبيوت كانت تنطلق ألى أعلى خيوط الدخان لتحيلني إلى الحكايات قرب المواقد وأصوات الأقداح الزجاجية المحتفلة بدفء الشاي وبهجة الفطور الصباحي وحرارة الغرف.
من عمق الشارع الذي يصل طرف المدينة الآخر، ظهر شيء ما يتقدم، لكنني لم أميّزه لفرط بياض الثلج المستغرق في كل شيء، لكن ذلك الشيء بدأ يقترب رويداً رويداً في حركة بدأت تغيّر السكون المطبق على المكان، انها سيارةٌ خاصة صغيرةٌ تكوّم ثلجٌ كثيرٌ عليها وهاهي تقترب من فرن الخبز. لوّحتُ لسائق السيارة الشاب، لوّحتُ لفضاء المدينة المشغول بالتراسل ما بين الثلج ودخان المواقد في البيوت، لوّحتُ بيدي التي سأحتضن بها حبيبتي، وحين أصبحت المدينةُ خلفي ودخلت أولَ المضيق الطويل كان الثلاثون من كانون الاول 1979 يرافقني لأعبر من خلاله إلى سنةٍ جديدة، سنةٍ لم أعرف انها ستكون سنة ستكون عقوداً من الجحيم الطويل.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM