مكان على البحر*
الى إبني .. سلام
إحتفال أعددت أشياء كثيرة للاحتفال بـ"يوم السلام"، اليوم يستحق مني ان اتفرغ له واترك مشاغلي جانبا ... سأستعيد عنده كل ذلك الزخم الذي امتلأت به حياتي ولم يهدأ، من أول يوم إرتديت فيه " الخاكي "، قبل الحرب بسنة حتى "بيان بياناتها" ... غير انني لم أكن أتوقع أن يأخذ الاحتفال ذلك الشكل المحتدم ثانية، فها أنذا أستدعى للخدمة العسكرية ثانية ضمن دورتي للضباط الاحتياط في اوائل آب 1990... وتداعى شكل الاحتفال من لحظة صفاء مع النفس، وايقاد الشموع لذكرى الاصدقاء الذين رحلوا وأبقوا لي إحتمال النسمة وهذه الفسحة من الصباحات، الى الانتظام مجددا في أوامر الثكنة وإحكام ما تغيًر من الجسد والذهن على مقاييس العسكرية، ما لبث الايقاع أن تغير أيضا في المنزل وتبدلت سحنة زوجتي، وكثرت أسئلة طفلي ... غير أنني وعدتهما باحتفال صغير في إجازتي المقبلة... وقد فعلت ... فاوقدت لهما شمعا وملأت صالة البيت بالاغنيات والدمى وأحضرت المزيد من الفاكهة ... وفتحت زوجتي نوافذ دارنا فتدفق علينا الخريف بانسام من مودة وألق خفيف ....
إتصال ! بوابات على الصحراء، بوابات على البحر عبرتها واحدة تلو الاخرى، ومن بين الصحون المعدنية المتطلعة صوب السماء من بين إسلاك كثيرة وابراج معدنية هائلة الارتفاع، قرأت : العالم في وسائل الاتصال المعاصرة.. قرية كبيرة، واهتديت الى نفسي مخففا من قيظ الاسئلة ودفعت عن جبهتي تلك الطبقة التي التصقت بي جراء ارتفاع نسبة الرطوبة، دليل اقترابي من البحر ... وقبل ان اخرج من المكان عرفت كما من الاحداث في هذا العالم، يحتدم قريبا من اصبع واحدة لانسان، يضغط بها على زر او نتوء لترتسم الوقائع بهدير حيويتها وضجيجها ايضا ....
صباحات أولى فيض من التعب يرافقني آخر الليل الى مناطق نائية في جسدي، لايربكني الالم، بل يدفعني الى ملاقاة صباح قادم سيثب عبر نافذتي، وأندرج في ساعاته بوضوح، عابرا قسوة ما يتركه المشهد أمامي حيث المقبرة المعدنية (تلال السيارات القديمة) تشكل مصدا للرمال التي ستبدأ حركتها بعد قليل ... أسوار معدنية مطمورة وثمة رابية انتصبت عليها ابراج عالية. فيما تبقى من تعريف الصباح بعض أشجار من خضرة شاحبة لفرط ماحولها من جفاف ... النفوس في الثكنات المتباعدة تشحب فيها الحياة، مهمات وطرق استعداد وعمل كلها تأتي ببطء ... في الضحى موعد لكوب شاي ومن ثم فهناك لائحة طويلة من المشاغل ستقودني الى آخر الليل فاعثر على منطقة اخرى نائية في جسدي تتسع لي، بل تضيق باحلامي ....
سلام.... في أتونها المشتعل قدمت إليً فاسميتك "سلاما "، وفتحت في الحرب ثغرة قادت للمعنى الذي فيك ... واليك ودائما اليك ساعود، أرى اصبعك تشير الى فسحة عشب قرب نافذة، وذراعاك طريتان وصغيرتان وهما تطوقاني قبل ان ارحل عنك ... للسلام الجميل الذي جئتني به سأعود، فواصل الرنين باجراس دموعك الصغيرة، ففي نفسي يتجلى المعنى الذي اسميتك له، وسلام على محبتنا، وسلام على دارنا وسلام على لحظة الذهول التي تركت فيها، فهات كفك الصغيرة إليً وباركني بضوء السلام ....
ابني سلام بكاميرتي - فيرجينيا 2005
الصوت الرقيق للعاصفة ! كل شيء يدل على حدوث عاصفة ... بل هي الأشياء متناثرة تماما فيها من شكل الانقاض ما هو أقرب من اكتمال الابنية ... الحياة متحفزة، لكنها تحتفظ بايقاع ما ... الليل تخلى عن تسمية المنجم المهيأ لتمجيد الظلام الى نقاط حراسة، ودوريات واسرار لا يعبر الممرات إلا من يعرف البوح بها ... فوهات ترتفع باتجاهات شتى واذرع تلقمها المقذوفات برشاقة تامة ... هناك عاصفة ... وفي الافق غبار كثير ... وقريبا من حشد الأسلحة في اضخم مشهد للمواجهة تقف والسؤال في ثناياك : أهناك في الافق ما يغير المشهد المرتقب ؟ أهناك عاصفة ؟ لا شيء من هذا على الاطلاق، يجيبك البحر بامواج مرسلة وبايقاع متناغم كأنه يكتب اغنية .. ومع هذا فانك تسمع الصوت الرقيق للعاصفة!
مشهد طريق الموت 1 آذار 1991 كما تخيلت رعبه قبل اشهر
لك .... نجتمع معا في الغياب حد العناق، غير اننا نرتبك في الحضور حد التشتت ... لهفتك إليً تطلع تحت جلدي زنبقة طرية، وتراتيلك التي تأتي بها طيور اقصى الجنوب ... بل روحك التي قرأت فيها المياه دروس النقاوة، كلها حولي تدعوني لدخول مهرجانها الاثير للنفس ... هي باختصار الغيوم التي تمطر على مداري الصحراوي ... فلك ايتها الرحيبة، لك ولاجنحتك الخفية التي تطيرين بها إليً. للصباحات التي تحف بجسدك وتقلل من ارتباك خطاك، لمكاني الذي أعرف كم ستنظرين اليه بوجيب خاص، ثم لنا كمطرودين الى الحنين، أفتح النوافذ من مكان يطل على البحر .... الاثنين 5 تشرين الثاني 1990 |