في بيتي بعمان مع عدد من الادباء الذين اسهموا في تحرير اوراق ثقافية
في تموز من العام 1998 صدر العدد الأول من "أوراق ثقافية " في تجربة حاولت الانفتاح على الطيف الثقافي العراقي في العاصمة الأردنية عمان ، واغناء فكرة جاءت اتصالا مع جهد رسّخه الجيل الاول من المثقفين العراقيين ممن هاجروا اواخر سبعينيات القرن الماضي مشكلين خطا من المواقف المعارضة لسياسة نظام البعث ، وحملوا في العواصم : بيروت، دمشق وعدن شعلة مناهضة الطغيان للفترة من 1979-1990 وانتقالهم لاحقا الى المنافي الغربية ( اوروبا واميركا ). وفكرة الإتصال مع الجهد الرائد لجيل من المثقفين العراقيين الذين انضووا في ترسيخ الحرية نصا وموقفا انسانيا .
ان هاجسا كهذا هو ما شغل صاحب فكرة اصدار مطبوع ثقافي عراقي في عمّان ، حتى وان بدا المطبوع فقيرا في التنفيذ الطباعي ، لكنه حرص على ان يكون منتميا الى جوهر دافع عنه بقوة عشرات المثقفين العراقيين من جيل الهجرة والنفي الأول، جوهر الدفاع عن حرية العراق في نتاج ثقافي لا يتخلى في مهتمه " العضوية" عن شروط الإبداع الفني.
وفي العدد الأول كتبت، بوصفي محرر المطبوعة وصاحب فكرتها، مقالة حملت عنوان " المثقف العراقي وتدعيم فكرة الحرية" ، رسمت بموجبها الخطوط العريضة لـ" الأوراق" وجاء فيها:
"نحن هنا في مساحة مفتوحة ومتحركة للسجال ، للنقد و للحوار، مبعدين عن توجهنا الثقافي، ثنائية لسنا بصدد التعاطي معها : ثقافة الداخل – ثقافة الخارج، فما يكتب من ادب وما ينتج من عمل مسرحي وتشكيلي رصين ، يلتقي بالضرورة مع مثيله الذي ينتج خارج الوطن. و نحن هنا للثناء على مبتكري الامل، على الكتاب و المثقفين العراقيين اينما كانوا، المبدعين الحقيقيين الوارثين فكرة النور و المعرفة و قبل كل شيء الحق و الحرية.
نحن هنا لتوثيق لحظة شديدة الحرج من تاريخ وطننا و أثر انتاجه الثقافي و المعرفي و الذي كان دائما"توثيقا"حيا لعراك الانسان العراقي مع اليأس و القهر و فوضى الرعب.
نحن هنا لنقول ان واحدة من اكبر مهمات المثقف العراقي اليوم تدعيم فكرة الحرية في انتاجه، فهي مهمة تجعل زمن الطغيان اقصر، و تجعل الارهاب مرتدا على عناصره و بواعثه و هي اليوم في حال نظام صدام، الاكثر وحشية بين ازمنة الارهاب التي انتجها التاريخ المعاصر.
هذه دعوة لزمن حرية يستحقه الشعب العراقي ".
ان مراجعة لعناوين العدد الأول كافية للكشف عن جدية توجه " الأوراق" وجديده ايضا ، فثمة على الغلاف متابعتان: الأولى " حضور لافت للثقافة العراقية في مهرجان جرش 1998" والثانية " عاطل عن الأدب رئيسا لإتحاد الأدباء في بغداد" وهي اشارة الى " فوز" هاني وهيب .ونقرأ في العدد شكلا لم تكن تعرفه الدوريات الثقافية العراقية الا وهو شكل " التقرير الإخباري الثقافي " ، فثمة " الأدباء العراقيون يغيبون في صمت عميق .. آخرهم غازي العبادي".ومن الجديد الذي يحسب لـ" اوراق ثقافية" شكل " التحقيق الثقافي" الذي ينفتح بابعاده الثقافية على الحياة داخل البلاد ، فنشرت تحقيقا بعنوان" لمن يبيع العراقيون ذكرياتهم؟" وآخر" ثروة العراق المعرفية معروضة للبيع في شارع المتنبي".
وبالرغم من أن " اوراق ثقافية" كانت تحصل على الدعم من " حركة الوفاق الوطني العراقي " المعارضة للنظام السابق ، الا انها اجتهدت منذ صدور أعدادها الأولى في أن تنأى عن "الخطاب السياسي والإعلامي التحريضي" الذي كانت تتبناه ادبيات فصائل المعارضة العراقية أنذاك ، ومنها بالطبع حركة "الوفاق" . و تلك لم تكن مهمة يسيرة لسببين :
اولهما سعي الحركة في أن تكرس وسائلها الإعلامية في خطاب تحريضي ضد نظام متغطرس يملك الكثير من اسلحة التأثير وتحديدا الإعلامية منها، وثانيهما تمثل في تردد بعض الكتاب من الإندراج في المهمة ، فلطالما كانت " المعارضة" قرينة عند العراقيين بالتهلكة، لاسيما ان نظام صدام بزّ كل نظيراته من الإنظمة القمعية في تصفية معارضيه وتهديدهم بعوائلهم في حال تمكن المثقف المعارض الإفلات من اسوار السجن والهرب بعيدا.
ورغم " عثرات" و"مطبات" كهذه الا انها لم تثن المطبوعة على السير بما خطط له محررها، والذي اخذ على عاتقه جمع المواد وتحريرها وتنسيقها وطبعها وإخراجها في مقر " الوفاق" ، وبمساعدة من صاحبة اليد الرحيمة والروح التي لا تكل من العمل المخلص والمميز ، السيدة منى علوش، فهي لم تكتف بقضاء اوقات طويلة في اخراج المطبوعة بشكل انيق، بل في الحرص على توفير " دعم مادي " لكتاب " اوراق ثقافية" و كانت المكافآت مجزية ، لاسيما انها جاءت في وقت كان فيه الكثير من المبدعين العراقيين يتضورون جوعاً وهم يتحملون عذابات النفي من أجل فكرة الحرية التي آمنوا بها ، ونجحت المهمة بمؤزارة من الشخصية السياسية والقيادي في " الوفاق " حينها ، الصحافي والكاتب معاذ عبد الرحيم والذي بدا وكأنه صديقا دائما للأدباء العراقيين ، فهو حين وقف الى جانب المجددين من المثقفين اثناء عمله رئيسا لتحرير اكثر من صحيفة في ستينيات القرن الماضي، كان كذلك على اعتاب نهاية القرن حين وقف مساندا مشروعهم الثقافي وهم في مكان خارج الوطن ومدهم بكثير من مقالاته القيمة، وعبر " اوراق ثقافية". والى جانب عبد الرحيم حظيت تلك التجربة الثقافية بدعم القيادي حينها في " الوفاق" ضرغام كاظم الذي كان يحرص على الكتابة في المطبوع الوليد جامعا بين الفكر والأدب بلغة رقيقة، قدمته بطريقة جديدة لم يعرف عنها سابقا كمحترف للعمل السياسي، وبدت مقالاته " انتصارا" للمثقف وللكاتب فيه على السياسي الصارم الملامح.
ومنذ العدد الرابع من السنة الأولى انضم الشاعر الراحل عبد الأمير جرص الى تحرير " الأوراق " غير انه لم يمض وقت طويل حتى قرر جرص الأنسحاب ، فبقيت وحيداً في عملي حتى انضم الي الشاعر والناقد المسرحي عبد الخالق كيطان، ثم عرفت " هيئة التحرير" اسهاما من الشاعرين محمد غازي الأخرس وعماد حسن.
ومع انقضاء السنة الأولى كانت " الأوراق " حققت ابعد مما كان صاحب فكرتها يأمله ، فهي وبجدية القضايا التي تصدت اليها ، وبخطابها الذي تجاوزالطابع التحريضي الآني في " ثقافة المعارضة" الى التحليل العميق للعمل الثقافي ، ولربطها المؤثر بين ضفتي الثقافة العراقية " الداخل" و" الخارج" ، استطاعت ان تجذب اليها كتابا وادباء عراقيين من ابرز الذين اقاموا في الأردن ، كذلك ممن هم في المنافي الأوروبية ، ووصفها القاص جبار ياسين بانها " اخبار الأدب" العراقية لولا فقر الطباعة، في اشارة الى الصحيفة الثقافية المصرية الاسبوعية الشهيرة، فضلا عن كونها صارت واحدة من المطبوعات " السرية" المفضلة لدى رواد " ثقافة الإستنساخ" في الوسط الثقافي داخل العراق.
وحيال نضج ثقافي وفكري حققته " الأوراق" انضم اليها أدباء وصلوا عمّان من بين موجات متعاقبة واصلت النفي ،ومنهم : القاص علي السوداني ، الكاتب صباح اللامي ، القاص زعيم الطائي، الشاعر فرج الحطاب ، الشاعر محمد غازي الأخرس ، الشاعر عماد حسن ، القاص عبد الستار ناصر ، الشاعر سعد جاسم ، الشاعر والناقد هادي ياسين علي ،الروائي محمد شاكر السبع ، الشاعر حازم لعيبي ، القاص محمد سعدون السباهي ، ، القاصة هدية حسين ، الكاتب والقاضي زهير كاظم عبود ، الشاعرحسن النواب ، الشاعرعدنان فالح ، الشاعر اديب كمال الدين، الكاتب ستار موزان ، الشاعرسلام دواي ، الشاعرمكي الربيعي ، الكاتب والمترجم أحمد حميد ،الشاعر الراحل كاظم الرويعي ، الكاتب علوان حسين ،الكاتب سعد محمد عباس، الشاعرعماد جبار ، الناقد حاتم عبد الهادي ، الشاعر فالح حسون الدراجي ، التشكيلي عبد الجبار الجنابي ، الكاتب احمد كاظم، المؤلف المسرحي محمد الجوراني، الروائي سليم جواد وغيرهم كثير ممن كانوا يحملون الإصدار الجديد من " اوراق ثقافية " وينطلقوا به إلى مقهى " السنترال " ومراكز تجمع العراقيين الأخرى في عمّان، فيقومون بتوزيع نسخ العدد الجديد إلى المثقفين العراقيين في ظاهرة لافتة عن تلك الوشائج الجميلة بين المثقفين ومطبوعتهم الانيقة ، وكانوا يستثمرون حضور الوفود العراقية الرسمية إلى عمان للمشاركة في مهرجانات ثقافية أو فنية، فيدسون بيد الأمناء من أعضاء هذه الوفود نسخاً من إصدارهم ، وذلك حرصاً من العاملين في "اوراق ثقافية " وكتابها على وصول نتاجهم إلى القارئ العراقي المحاصر من كل الجهات .
والى جانب جهد لافت في التصميم الأنيق والرشيق للمطبوعة على الرغم من بساطته ، فقد كانت هيئة التحرير حريصة على إعطاء مساحات كبيرة للكتاب وتضمين موادهم بعدد من التخطيطات الفنية أسهم في تزويد " الأوراق " بها عدد من الفنانين التشكيليين أمثال : عماد الظاهر، صاحب أحمد، وسام عبد الجبار، مهند الخطاط، عباس مخرب وغيرهم .
ومع الاعداد الأولى من السنة الثانية ،مضت" اوراق ثقافية" خطوات ابعد الى الجدية والتوسع في التغطية عبر زيادة مخصصات " الدعم المالي" للمطبوع الذي كان يلاقي إقبالاً لافتاً بين صفوف المبدعين العراقيين داخل عمان وخارجها ، و في داخل البلاد تحديدا. زيادة الدعم، دفعت العاملين لتوسيع عدد الصفحات وزيادة مبلغ المكافأة والانفتاح الاوسع على الطيف الثقافي العراقي ، فكان هناك انفتاح على الفنون التشكيلية والمسرحية والموسيقية .
ومع بروز ظاهرة "المتطفلين" على الثقافة العراقية ممن كانوا يحاولون النشر في منابر المعارضة الوطنية من أجل قبولهم لاجئين في مفوضية الأمم المتحدة في عمان ، وقفت " أوراق ثقافية " بحزم أمام تلك الظاهرة، واضعة الكتابة الرصينة الجادة ودون سواها ، هدفا لها ، ما جعل لها مكانتها المرموقة بين مجمل العمل الثقافي العراقي سواء اكان داخل البلاد ام خارجها. وعن " ظاهرة المتطفلين على الثقافة العراقية" كتب محرر "الأوراق " مقالة في عددها الثاني واضعا عبرها مسافة واضحة بين الجدية والخديعة ،وجاء العنوان واضحا: " نفوسهم مخربة ويشوهون الثقافة" وجاء في المقالة:
" سارع بعض من ادعى الاندماج في العمل الثقافي العراقي، للنشر عبر بوابة اعلام و صحافة حركات المعارضة الوطنية العراقية، ليكشف المتابع فجأة"سيلا" من"منتجي" الثقافة العراقية"المضطهدين" الذي راحوا يستثمرون فسحة النشر المعارضة لاهداف غير نظيفة بالمرة، لا علاقة لها بالثقافة فعليا و لا بقيمة اعلان الموقف كما تظهره للوهلة الاولى كتاباتهم! فهم بتوسل الشفقة كانوا يتمنون النشر، مرة عبر حوار ملفق، و أخرى عبر ملاحظات لا قيمة حقيقية فيها غير اعلاناتها الخادعة عن تحولهم الى "ابطال" داخل الوطن حين" واجهوا "قمع النظام، و التعكز على موجات لا تنتهي من الشتائم لمؤسسات الحكم في بغداد ،ولا علاقة لها بالثقافة او كشوفاتها العمقية.
و ساهمت احكام"غير ثقافية" لدى اعلام المعارضة العراقي المقروء، في تسهيل مهمة سنتأكد من تلفيقها الكبير، ففجأة و بعد نشر مادة او اثنتين للشاعر الملفق او الناقد المخادع و القاص و الفنان التشكيلي، نجده وقد توقف عن النشر، و حين تسأله عن"تدعيمه" لموقفه الظاهر في مقالتيه السابقتين و هل يسواصل-كما يدعي-الانتماء الى الانسان العراقي و يدعو عبر نصوص و اعمال ابداعية لحرية ذلك الانسان،تستغرب رده:
" لا حاجة للنشر في هذه الصحف، فأنا قبلت كلاجيء لدى المنظمة السامية لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة و لم اعد بحاجة للمعارضة وثقافتها"!
يقول ذلك بشيء من التعالي، ليكشف بعد مراجعه بسيطة لمثل هؤلاء انهم كانوا يتوسلون النشر لتقديم مقالاتهم (كوثائق) تدعم طلبهم للجوء و ليس الاعلان موقف حقيقي حول الثقافة ، او حول الاضطهاد الذين يدعون تعرضهم له و ان لا فرق جوهريا بينهم و بين من حول القصائد في اجهزة النظام الاعلامية و الثقافية الى سوق النخاسة، و بها يمارس التكسب الذليل للمال من الطاغية كلما زاد شحنة المديح و بالغ في اضفاء اوصاف"العظمة"و"التبجيل"عليه.
من ركب الموجة المعارضة لينشر كلمة او اكثر "غير حقيقية" لا فرق بينه و بين من جعل الموقف في الكتابة و اشكال الابداع الثقافي الاخرى تتحول الى مهرجانات للتهريج و المديح".
واستطاعت " أوراق ثقافية " أن تصدر عددا خاصا عن الشاعر عبد الوهاب البياتي ، وكان احتفاء يستحقه صاحب " قمر شيراز" قبل رحيله بشهرين، بل انه جاء كنبوءة وان كانت حزينة عن ذلك الغياب القاسي لإبي علي ودفنه في دمشق ، والملف وجد صداه في الحفل التأبيني الكبير للبياتي وفي أربعينية الراحل في "غاليري الفينيق " الذي استمد شهرته منذ افتتاحه في العام 1991 بصفته المكان الذي يلتقي فيه البياتي واغلاقه بمشاركة عدد كبير من المبدعين العراقيين والعرب ومنهم : سعدي يوسف ، حسب الشيخ جعفر ، محمد الجزائري ، سعد جاسم ، علي عبد الأمير ومحمود الريماوي .. وقد حضر في الحفل التأبيني الشعر والمسرح والتشكيل والموسيقى والنقد والشهادة الشخصية.
كما احتفت " أوراق ثقافية " بعدد من التجارب العراقية في المسرح والتشكيل والموسيقى عبر حوارات مطولة مع أصحاب هذه الاختصاصات الإبداعية ممن اتخذوا عمان مكاناً لهجرتهم من سجن العراق أو عبر الكتابة عن الاشراقات الفنية العراقية في هذه العاصمة أو تلك ، فكتبت مراراً عن الموسيقى والغناء العراقي مثلما فعل الشاعر والناقد عبد الخالق كيطان في مقالاته عن المسرح العراقي، وغاص محمد غازي الأخرس في قراءات للحضارة الرافدينية القديمة وأثرها في الثقافة المعاصرة ، فيما كتب سلام جبار وحيدر عليوي وفادي آكوب عن السينما العراقية .
ونشرت " أوراق ثقافية " عدداً من النصوص لمبدعين عراقيين بأسماء مستعارة كانوا تعاونوا معها وهم داخل البلاد ، كما في نصوص الشعراء: عبد الزهرة زكي ، كريم شغيدل ، كاظم الداخل ،حسين علي يونس ، القاص عبد الستارالبيضاني ومقالات ونصوص للفنان مقداد عبد الرضا .
ومنذ بدايات صدورها كلفت " أوراق ثقافية " عدداً من كتابها قراءة الأعمال الإبداعية العراقية الصادرة حديثاً هنا وهناك ، فكتب فرج الحطاب ومحمد شاكر السبع ومحمد سعدون السباهي ومحمد غازي الأخرس وغيرهم مقالات كثيرة تعرف بالإصدار العراقي الجديد .
وعلى الرغم من تكريس المطبوع للإبداع العراقي إلا أنها لم تغفل نتاج الآخر، فكلفت بعض المترجمين العراقيين ترجمة شواهد من الإبداع العالمي المعاصر، ومن أبرز مترجميها أحمد حميد الذي ترجم مقالات عن ساراماغو ، سوزان سونتاج وغيرهما الى جانب نصوص تولى ترجمتها عن الإنجليزية الشاعر اديب كمال الدين، وترجم سعد حمزة حسن نصوصا عن الألمانية.
ومن اشكال التحرير الصحافي الجديدة التي استخدمتها " اوراق ثقافية" بجرأة ، نشر نصوص على الصفحة الأولى منها وتخصيص ذلك للنصوص التي تنبعث معطياتها الإنسانية والفنية في مدار قضية حرية العراق وعذابات انسانه ، حتى بات ذلك الشكل تقليدا ، مثلما بات هدفا يسعى اليه شعراء وكتاب باتوا يجدون في المنبر بيتهم الفسيح ونافذتهم الحرة بامتياز.
وإذ شمل المطبوع الجديد من النصوص الإبداعية في الشعر والقصة والمقال ، فأنها عمدت إلى نشر تغطيات صحفية عن الواقع الثقافي العراقي أيام الحكم الشمولي ، فكانت ترصد وتحلل وتشير إلى مجمل الظواهر الناتجة عن حكم الفرد في العراق ، وكانت لسعاتها تصل ، حسبما ينقل القادمون من العراق ، أهدافها وبوضوح ، وكان من أبرز تلك التغطيات ، متابعة اشرت الى لحظة انحطاط بدأت تعيشها الثقافة العراقية على يد السلطة الحاكمة ، لحظة الإعلان عن " صدام روائيا" وتحول عدد غير قليل من الشعراء والكتاب والنقاد والأكاديميين الى " حارقي بخور" في قصور صاحب " زبيبة والملك" ، مثلما كانت نصوص كتابها تخرج عن الحدود " الأدبية" المثالية فكتب الشاعر حازم لعيبي نصا مؤثرا عن حريق "مكتبة المثنى" في بغداد وما شلكه الحريق من خسارة معرفية لواحدة من أعرق المكتبات العراقية ، وكتب جبار ياسين" بغداد ، مدينة تتنقل" ، وغيرهما في نصوص استذكرت الأمكنة العراقية الحميمة وانسانها، بينما كانت المتابعات التي اخذت بالمتابعة الصحفية الى ابعاد تحليلية جادة ، كثيرة وغنية ومؤثرة كما في كتابات الشاعر والناقد محمد غازي الأخرس ومنها" تأملات في بغداد وارصفتها ومثقفيها" او نص القاص علي السوداني " نبوءة الولد الجميل" او ذلك النص الجرىء الجارح للشاعرخالد المعالي " رسالة الى كاتب عراقي " او نص القاص والروائي عبد الستار ناصر " آخر صفحة من كتاب الخوف" او نص الكاتب صباح اللامي " ابجديات الخوف العراقية" او نص الشاعر ( الراحل لاحقا) عبد الأمير جرص " بكاء الأمهات في الحرب .. بكاء الأمهات في المنفى"، او نص الشاعر هادي ياسين علي " في معنى نظام الإستبداد"، او ما كتبه الشاعر عماد حسن عن الإنتفاضة الشعبية 1991 " آذار .. خارطة من موت وحرية"او ماكتبه الشاعر فرج الحطاب" هكذا رايت جثث الايام والاصدقاء".
تجربة " أوراق ثقافية " كانت تجربة مفيدة لجرأتها ووضوح مشروعها الثقافي، وفرادتها بين اعلام المعارضة وثقافتها جاءت من خلال خطاب لم يندرج في الشائع والسهل من لغة سادت في منابر المعارضة العراقية ، انها التزمت خطابا قائما على الكشف والتحليل والمراجعة ، حتى ان مثقفين اردنيين وعرب ممن وقعت بين ايديهم " اوراق ثقافية " توقفوا عند ما اسموه " الخطاب الجاد" لنصوصها وموضوعاتها وابتعادها عن إلاسفاف الذي كان للأسف يغلب على خطاب منابر المعارضة العراقية.
وفضلا عن ملفات تتعلق بثقافة العراق في تسعينيات القرن الماضي واجيال الأدب العراقي الأحدث ، فتحت " الأوراق" نقاشات موسعة من بينها سجال
مهم حول " كيف يوصل المثقف العراقي في الخارج نتاجه الى المتلقي داخل الوطن؟ " الى جانب عنايتها الخاصة بفنون المقالة التي جمعت بين النقد الثقافي وبين التحليل السياسي ، وطالت مقالات في هذا الإطار فنونا واشكالا ادبية ونشاطات استمرت الثقافة العراقية في ابتكار اسئلتها التعبيرية ، فكتب الشعر سلام دواي " جيل التسعينات الشعري في العراق وضغط الوقائع اليومية" ، فيما قلب الشاعر فالح حسون الدراجي اوراق الغناء العراقي، متسائلا" اي غناء بهيج وعذب والعراق موسم نواح وحروب" ، وتوقف القاضي والكاتب المقيم في السويد زهير كاظم عبود عند قضايا " متخيلة" في المشهد العراقي لكنه عالجها بواقعية في مقالاته ومنها " ليلة القبض على رئيس الجمهورية" عن القبض على صدام حسين بوصفه هاربا من الخدمة العسكرية و" دماء يابسة فوق لحية عباس ".
*أدين بالفضل التام لهذه المقالة الاستعادية لصديق تلك الايام المكتنزة بالامل في العمل الثقافي المعارض للنظام الديكتاتوري، الشاعر والناقد عبد الخالق كيطان فهو من صاغ فكرتها وحتى كتابتها الاولية، التي كانت جزءا من مشروع لتوثيق تلك الايام، واسعى لاصداره ضمن كتاب قريبا.