مقدمة في دراسة الناقد عبد الجبار عباس

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


1-النقد.... رسالة ثقافية

لأن عبد الجبار عباس ناقد رصين، فلا بد لمن يدرسه من ان يتحرى عوامل الرصانة في منجزه فينظر في تفاعلها مع بعضها، ولابد من النظر في تجليات تلك الرصانة من احكام نقدية وآليات واجراءات نقدية اثمرت تلك الاحكام، وضروري، ان لم نقل واجب، ان ينظر دارسه فيما وقف عنده الناقد الراحل للبحث في فلسفة اختياره التي رجحت الوقوف عند تلك الاعمال بالتعامل النقدي او بالمناقشة.

ولأن لعبد الجبار عباس اسلوبه في الكتابة.. فما هي مكوناته؟ وكيف تتجلى؟ واية مصطلحات اعتمدها الناقد؟ وهل وفق في التعبير من خلالها عن مفاهيمه او فهمه لهذه القضية او تلك؟


الناقد الراحل عبد الجبار عباس

واذ يجهر عبد الجبار عباس بانه ناقد انطباعي، ويكرر حسنات منهجه في اكثر من مناسبة، افلا يدعونا ذلك لوقفة منهجية؟ واذ نزعم ان في انطباعية عبد الجبار ما يميزها.. فما هو؟ واين هي من الانطباعية العامة، واين هي من انطباعية آخرين؟
واذ يتخلل شعاع او أكثر من شمس المنهج الاجتماعي في خيمته الانطباعية، افلا يدعونا للنظر في ارضية ذلك التداخل وهل كان تفاعلاً؟ وكيف؟


قاسم عبد الامير عجام محاضرا في اتحاد ادباء بابل
 
وتساؤلات اخرى... محصلتها ان ثمة الكثير مما يجب عمله في دراسة عبد الجبار عباس ورصانة منجزه النقدي، وهو اكثر مما تستوعبه ورقة لمؤتمرها او حلقة نقاشية. ولذا ارتأينا ان تكون محتويات هذه الدراسة مقدمة تنتقي منه ما تراه يدل عليه.
وتحسب هذه المقدمة اننا نستطيع ان نلج عالم عبد الجبار عباس او صرحه النقدي من خلال ابواب ثلاثة:

الاول - باب الدور الثقافي للنقد والناقد

الثاني - باب المؤلف - كمفتاح من مفاتيح النص

الثالث - باب المقالة النقدية كما كتبها عبد الجبار عباس

وفي هذا الملخص سأكتفي بما يفضي اليه الباب الاول.

****
واذ ننظر في الدور الثقافي الذي كان لمنجز عبد الجبار النقدي فلأننا لا نرى في النقد مجرد فاحصة لعناصر او آليات تشكيل النصوص، تنتهي عند توصيف تلك العناصرـ بل هو تلك الرؤية لعناصر الابداع وكيف حملت رسالة النص الفكرية، وما هي تلك الرسالة. فليس العمل الادبي بمعزل عن سياق ثقافي يلعب والمؤلف دورهما في شكل وطريقة تركيبه. وبقدر نجاح النقد / الناقد في الكشف عن تفاعل عناصر الابداع ورسالة النص وذلك السياق الثقافي، امكن له ان يساعد على تحسين ذوق الثقافة التي ينتمي اليها.
ولقد مارس نقد عبد الجبار دوره الثقافي باكثر من صورة ووسيله، ليس كمحصلة نستخلصها نحن بالبحث والتمحيص فحسب، وانما مارسه فعلاً عن قناعة اعلنها في اكثر من مناسبة اذ يقول في احدى مقالاته عن النقد الادبي.. انه، أي النقد:
"مظهر حضاري واداة فعالة في مسيرة التطور الحضاري. والنقاد الكبار كانوا في كل عصر رسل ثقافة واصحاب رؤى". واكثر من ذلك وضوحاً وتحديداً قوله. "...فالنقد الحق (وجهة نظر) ترتبط على نحو مباشر ووثيق بنبض اللحظة الحضارية ومشكلات الواقع، فهو منغمس فيها ويستعين لمعالجتها باسلحة الكفاح الثقافي" والنقد العربي لا يشذ عن هذه القاعدة.


ويتبدى فهمه ذاك تطبيقاً من خلال:

1-اختياره للاعمال التي كتب عنها.
2-محتوى نصوصه النقدية.. وهي في اتجاهين:
أ-نصوص في نقد الابداع.
ب-نصوص في نقد النقد.
3-متابعته الظواهر والقضايا الثقافية.
1-اختيار الاعمال
لا نرى في اختيار الناقد لعمل ابداعي للتعامل معه نقدياً مجرد مسألة ذوقية - وان كانت الذائقة الفنية محصلة عوامل ذاتية واجتماعية وخبرات قرائية متشابكة - فحسب، وانما هو تعبير عن موقف فكري وفني للناقد. فهو اذ يختار عملاً للكتابة فيه، او للكشف عن جمالياته، فانما يرشحه للتفاعل معنا.. يرشحه اما للاندماج بالبنى الثقافية والاجتماعية، او للانفراد بما يراه له الناقد من مكانة في النسيج الابداعي والثقافي بعامة وهذه احدى مهمات النقد الثقافية.

من كتب الناقد الراحل عبد الجبار عباس

لقد اختار عبد الجبار اعمالاً ابداعية في الشعر والقصة، عربية و/أو عراقية، مما رآه قد توفر على شروط فنية وفكرية تؤهلها للامتداد في ساحتنا الثقافية. فان لم تتوفر كلها - من وجهة نظره - يشير إلى ما كان على العمل المختار ان ينضجه ابداعياً كي يبلغ رسالته.
اختار اعمالاً حملت، على الاغلب، قضايا فكرية واجتماعية ساخنة فادار من خلالها حواراً خصباً اتاح ويتيح للمتلقي ان يكسب على صعيدي الفن او الحرفة الادبية والموقف الاجتماعي معاً. وقائمة اختياراته تعزز ما نذهب اليه..
ففي الرواية.. اختار اعمالاً لنجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن منيف وابو المعاطي ابو النجا وعبد الرحمن الربيعي وغيرهم.
وفي الشعر.. درس اعمالاً لسعدي يوسف والجواهري وبلند الحيدري وكاظم جواد ونجيب سرور وامل دنقل.. ناهيك عن دراسته المتميزة عن السياب.
وفي القصة القصيرة... اختار اعمالاً ليوسف ادريس وجليل القيسي وغازي العبادي واحمد خلف وادوار الخراط ويوسف الشاروني وغيرهم.
وفي نقد النقد.. ناقش مؤلفات نقدية مهمة ليوسف الصائغ، ومحسن اطيمش وعبد المحسن طه بدر وعلي عباس علوان وفاضل ثامر وغيرهم.
وهي اختيارات اقل ما توصف به انها نوافذ على عوالم لرموز مؤثرة في ابداعنا وثقافتنا العربية.


2-محتوى نصوصه النقدية
قد يكون ضرورياً لتلمس الدور الثقافي في نص عبد الجبار عباس النقدي أن ننظر في آلياته النقدية أو في تطبيقات منهجه وهي نظرة أو وقفة تمثل دراسة لوحدها.
ولو اجملنا ملامح نصه النقدي لرأينا كم فيها من نوافذ ودروب مفتوحه على قضايا الثقافة عامة، ففيه:
1-تعريف بالنص / الكتاب: ويتم بطريقة تسمح للقارئ ان يلم بقضية العمل المنقود واتجاهاته الاساسية مما يساعده على الخروج من النص النقدي بموقف وفكرة عن العمل المنقود ان لم يحفزانه للعودة اليه، فعلى الاقل قد وفرا له معرفة به.. اذ يتطور الموقف النقدي، بتلك الطريقة، شيئاً فشيئاً مع تطور التعريف بالعمل فينمو الالمام بالنص الابداعي والموقف النقدي معاً.. على النقيض من الكتابات (النقدية) التي تنقض على العمل باحكام دونما حيثيات او تطلق آراء في النص دون ان تمد المتلقي بتعريف به - ربما لانها تفترض ان النص يعرفه الجميع!! - وبذلك تترك القارئ كالأطرش بالزفة!
بل قد يعرف عبد الجبار بمبدع (شاعر او قاص) من خلال النص الابداعي فيمد المتلقي بمعرفة عن النص ومبدعه وظروفه اضافة للموقف النقدي.
فقد عرف بالشاعر حسين عبد اللطيف (الشاب وقتها) من خلال مجموعته "على الطرقات ارقب المارة" وعرف بالشاعر امل دنقل من خلال مجموعته "العهد الآتي".
فاذا تأملنا حصيلة قارئ لمنجز عبد الجبار وما فيه من تعريف بما اختاره من اعمال، وقد اشرنا لأمثلة منها، فانها في الحقيقة معرفة باعمال ابداعية ومواقف فكرية وفنية لكتاب وكتب كبار.. تمثل للقارئ زاداً ثقافياً وافراً وقاعدة متينة للانطلاق منها إلى عوالم أوسع.
2-تعريف بجماليات الجنس او النوع الادبي:
قصةً كان العمل المنقود ام شعراً، لا يكتفي عبد الجبار حين يتناوله بالكشف عن عناصره الابداعية الخاصة، بل لا بد من ان يحيل من خلالها إلى جماليات الجنس الذي ينتمي اليه العمل قياساً على كلاسيكياته، فيضع النص المنقود ضمن شبكة جماليات الجنس او النوع الادبي، ومن خلالها يضعه ضمن المدرسة الفنية التي ينهج النص الابداعي منهجها او حتى لتسود فيه عناصرها. وقد يقارن المبدع بمبدعين آخرين مقارنة فنية، او يقارن عمله الذي هو بصدده باعمال سابقة له للكشف عن التطور او النكوص في مسيرة المبدع الفنية.
وفي كل حال لا بد من ان تتكشف من خلال نقده للنص رسالته الفكرية وصلات النص ومبدعه بمحيطه وبمرحلته الاجتماعية. او حتى مجرد مساهمته في خدمة الفن الذي يبدع في منطقته الفنية.
ومن الطبيعي ان تزود تلك الاجراءات النقدية المتلقي بخبرة فنية ومعرفة بالتفاعل المتبادل بين المبدع والنص والمحيط. ولو توقفنا عند امثلة من دراساته وما اشتملت عليه من زاد ثقافي، وهو ما فعلناه في متن الدراسة، لرأيناكم من القضايا تشتمل عليه نصوصه النقدية، ولكننا هنا نكتفي بالاشارة فقط لبعض تلك الدراسات، كدراسته لسعدي يوسف "شاعر القصائد المرئية" ودراسته لاقاصيص ابو النجا ودراسته لفن يوسف ادريس القصصي من خلال مجموعة "لغة الآي آي" فتلك دراسات تحلل الابداع وتدرس التطور الفكري للمبدع وتصلهما بمجتمعهما. اما دراسته "الطبيعة في شعر الشابي" فنموذج لفن مبدع يؤثر بجماليات الفن الذي يعمل في دائرته لذا يدعو لاستيعاب درس الشابي في توظيف الطبيعة لاغناء فن الشعر.
وحتى حين يتناول نصاً يبتعد عن متطلباته الفنية - وقلما يفعل ذلك - فانه ينطلق من عثراته للتأكيد على اهمية الاصول الفنية للجنس الادبي، ويوضح كيف يمتد الخلل الفني في جسد النص تاركاً اثره السلبي على القدرة الايصالية للنص فحسب وانما على رؤيته الفكرية: وعلى موقعه من مرحلته الاجتماعية. ودراسته لرواية "ضباب في الظهيرة" لبرهان الخطيب مثل على ذلك.. اذ جاءت درساً في البناء الفني للرواية. ناهيك عن تناولها (أي الدراسة) لظاهرة حماس شباب القصة القصيرة لكتابة رواية (استكمالاً) لمجدهم القصصي!




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM