قاسم عبد الامير عجام العام 2003 (كاميرا شقيقه علي)
ولكن ماذا حدث حتى الآن بعد سقوط النظام؟
وهكذا يكون البد بالهجوم على تلك الادوات هو البداية الملائمة للهجوم على خراب الحياة الجامعية. ولنتصارح هنا بشأن ما حدث حتى الآن بعد سقوط النظام.. إن الانتخابات التي جاءت بادارات جديدة لم تأت بالافضل في مؤهلاتهم العلمية ولن نبالغ بالقول إن العديد من الانتخابات قد شهدت مساومات وترضيات أمنت سريان المبدأ البعثي القديم، الانحناء أمام العاصفة، دون تغيير حقيقي في المشهد الجامعي، ولا سيما ان شلل المنتفعين لم تتمزق خيوط تشكيلاتها لتبقى شباكاً معادية للتغيير الحقيقي الذي ننشده.. التغيير المفضي إلى ارساء القيم العلمية في الادارة والتقويم والمناهج وخطط العمل.
فلنرفع الصوت بوضوح وثبات ندعو إلى مراجعة دقيقة للسبل التي حملت غير المؤهلين بالحق إلى منصات الدرس.. فليس سراً أن العديد من (الأطاريح) قد كتبت لقاء ثمن كي يركبها مدللو البعث نحو كراسي الاستاذية! فلنبعد هؤلاء من الجامعة أصلاً قبل محاكمتهم بتهمة الغش والتدليس، وعلناً! نعم علناً كي نشعر الطلبة الجدد بانتصار المعيار العلمي وحده.
ولنبدأ مراجعة عميقة لمستويات اداء (الحشد البعثي) الذي كونوه على غير اساس من القدرة والعلم كي يبعدوا الاساتذة الاكفاء.. تمهيداً لتصفية شاملة على قاعدة لا يصح إلا الصحيح، وهذا يتطلب الوجه الثاني للعلمية وهو فتح ابواب الجامعات للاكفاء من المؤهلين ولا سيما الذين ابعدوا لأسباب السلامة الفكرية أو الأمنية، أو حتى لمجرد أن يتخلص منهم ازلام السلطة على طريقة صراع الردئ ضد الجيد!
ومن المتوقع، بل من الضروري، أن تكون هذه المراجعة عميقة الصوت في الكليات (الإنسانية) وأن نبدأ بها ما دمنا بصدد خطاب ثقافي مختلف. وفي هذه الكليات تستوي في الشدة والحسم والمثابرة عملية تغيير الادارات والمناهج معاً.. من منطلق فتح الجامعات لرياح الفكر وتقاليد الثقافة الرفيعة، وقاعدتها الاساس.. حرية الفكر! حرية الاجتهاد والحوار والبحث العلمي. وعلى هذه القاعدة نؤسس العلاقات مع المجتمع واحتياجاته المادية والروحية كي تكون العلوم الحديثة ومناهج البحث والافكار قوى دافعة ومغيرة لها وجود في الحياة اليومية للناس بتكامل مع ستراتيجية الثقافة الجديدة التي نريدها لمجتمع ديموقراطي.
ونزعم، وبكثير من الثقة، إن التغيير العميق في الجامعة قاعدة من قواعد التغيير الثقافي العام وأن كثيراً مما عانته الحياة الاجتماعية والثقافية بخاصة، ولا تزال تعانيه، من انغلاق وضيق أفق وضيق بالرأي الآخر سببه انحطاط المستوى العلمي والثقافي العام لخريجي الجامعة وجهل اكثرهم حتى بمفردات اختصاصهم الدقيق لأن كثيرين منهم قد دخلوا الجامعة على غير معيار علمي ولأن (اساتذتهم) صنائع المعايير والارادة المخابراتية! فلنكتب في هذا حتى نرى الجامعة وهي تخرج من شرنقة الفاشية، ولندعو جميع المنابر الثقافية لفتح كل ملفات الجامعات ولتقييم معها حواراً نقدياً ساخناً. وليتوجه المثقفون نحو ساحات الطلبة وقاعات المنتديات الجامعية ليكشفوا لهم العزلة التي أغرقهم النظام في بئرها المظلمة.
أي خطاب يستحقه طلبتنا الجامعيون؟
لنمارس معهم وامامهم لغة الحوار الراقي واساليبه، ولنشركهم فيه. ولنشركهم في مشاريع ثقافية تعتمد قواعد البحث العلمي، ولنشغل فيهم عوامل الجرأة على مفردات الخراب، والقوة في نقد الواقع المحيط بهم في ضوء الحقيقة الموضوعية والصدق في مواجهة الاحتياجات الحقيقية للعيش والفكر معاً.
وفي زعمنا إن الخطاب الثقافي المتعلق بالجامعة والحياة الجامعية يتسع للعديد العديد من مناهج التفكير والخطاب وللعديد من الاقلام المختصة بالفكر العام، بالسياسة، بالتاريخ، بالأدب، بالاجتماع، وبالعلم التطبيقي.
ولا بد لتلك الاقلام من أن تخوض الصراع مفتوحاً ضد الزيف الذي اعتمده البعثيون في تدمير الحياة الجامعية وحرمان المجتمع منها. وضد شبكات المنتفعين الذين تخلوا مختارين، أو بحكم الاعتياد، عن تقاليد العلم ومعاييره وشروطه الثابتة في الرفض والقبول. وحين نخوض هذا الصراع سنجد إننا نخوضه ضد القبح والرداءة اللذين أشاعهما المداحون المتكسبون بالكلمة! وإلا هل هناك أشد قبحاً من جاهل أو مزيف يعتلي منصة الدرس الجامعي دونما أهلية علمية؟! فابحثوا عن امثاله فستجدونهم اكثر! ابحثوا، لتروا جريمة الفاشية التي حرمتنا من جمعاتنا وكي ندرك كم نحن بحاجة إلى هتك محرمات تلك الفاشية وفضائحها..
وفي جميع تلك الخطى والمساعي لا بد أن تبقى الاستراتيجية العامة تحكمها جميعاً، وهي استراتيجية نشر وتعميق البعد الثقافي للعمل الجامعي بحثاً وتدريساً، وهذا لا ينفصل عن استراتيجية فرعية تستهدف نقل نتائج البحوث الجامعية إلى الواقع وتنشيط الجهد الفلسفي الذي يستخلص الدرس المعرفي من متغيرات الواقع ومحصلة تلك الابحاث وتطبيقها.
لا شيء كالحرية ينعش الفكر
ولنتذكر أن العسف الفاشي قد أصاب الفلسفة كدرس بالضمور وخفوت الصوت، ومن هنا يضعها ويضعنا جميعاً أمام مهمة فتح الدرس الفلسفي على المتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم وإعادة قراءة الحدث العراقي في ضوء تلك المتغيرات إذ لا شيء كالحرية ينعش الفكر ويجسد الرؤى ويبث الفعالية في الدرس.
على أن ما نتمناه من شوط ثقافي مباشر للجامعة، لا يمكن فصله عما ينبغي للمدارس الابتدائية والمتوسطة والاعدادية أن تسهم فيه، من تأسيس للتلقي الثقافي وبناء أو صقل المواهب التي تأتلق في تلك المراحل. ومن هنا لا بد أن نتطلع لخطط تضع جسوراً راسخة بين الجامعات والحياة الثقافية دعاماتها مراحل التربية والتعليم الاولى تلك وما لم يكن التواصل العضوي بينها جميعاً وبين التوجهات الثقافية العامة فلن نجد إلا عطاءً أقل مما نطمح اليه! ولعلنا في سعينا للربط بين التربية الاولى والتعليم المبكر وبين الجامعة لا نشيد واقعاً ثقافياً جديداً فقط وإنما نقيمه على أنقاض بناء كان يعتمد ربطاً مشابهاً ولكنه يقوم على هياكل الخراب والخواء.. إذ امتد الخراب الروحي والتعليمي منذ الابتدائية صعوداً إلى الخراب الجامعي وخواء المحصلة. فكانت الجامعة تشكو قصور الاعدادية وهذه تلعن امية المتوسطة التي بدورها تتهم الابتدائية بكل العيوب والقصور!
وإذا كنا في سعينا لترسيخ التواصل العضوي من قاعدة التعلم إلى قمة المعرفة نتحرك على مسارات الفكر والاهداف المعرفية المؤثرة في الواقع، بنيةً وأهدافاً، فان ثمة تحركاً مشتركاً على ساحتي القاعدة والقمة نفسهما لكنه على مسار آخر هو مسار المعلم. فمثلما سقط التعليم الابتدائي تحت سنابك التبعيث القسري للادارات المدرسية والمعلمين، فان سقوط التعليم الجامعي والبحث العلمي كان نتيجة مباشرة لغزو منصات الدرس الجامعي ومختبرات البحث بمفارز الاتباع الموالين المدججين بالمنافع العزل من العلم والخبرة.
وهذه الحقيقة تعيدنا إلى اساس متين من أسس العمل الثقافي، وهو المبدأ والمعاد في كل تقدم.. إنه مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب. إنه في العمل الثقافي مهمة أولى ودائمة، إذ لا ثقافة دون مثقفين. ولا مؤسسات ثقافية فعالة دون قيادة المثقفين لها، وهو ما يفتح ملف المؤسسات الثقافية وأهمية بنائها الجديد وتجديد اولوياتها وتوجهاتها ومفردات عملها وتشعباتها. ولكننا نكتفي بهذه الومضة التي تنبثق من ذلك المبدأ الأهم لأن هذه الورقة معنية بالاساس بالخطاب الثقافي. ولكننا لن نستطيع المضي في الحديث فيه دون الالتفاف إلى اهمية أن يكون لنا مؤسسات تدرك ذلك الخطاب وتحمله وتبدع في بثه.
*سلسلة من المقالات نشرها قاسم عجام في جريدة"المدى" وحملت عنوانا ثابتا رغم تعدد محاوره "ملامح من خطاب ثقافي لمواجهة ما بعد الفاشية"، وبدت تلك السلسلة فضلا عن البرنامج الذي قدمه الراحل الى وزراة الثقافة باسم "اتحاد ادباء بابل" برنامجا عمليا لاعادة بناء الثقافة العراقية.