كثيرا ما تكون الاستجابة للأعمال الفنية الجادة بحثا وراء آفاق اوحت بها او بين علاقات اقامت أسسها او نسجت عليها، وقد يبدو ذلك البحث تدقيقا او تشددا وما ذلك في الحقيقة إلا ممارسة لقانون فني تجدده تلك الاعمال بينما تعجز الاعمال الخاوية إلا عن حفز المتلقي على تأشير عثراتها وربما الشكوى منها. وذلك ما يضعنا فيه فعلا مسلسل "عنفوان الاشياء " الذي عرض التلفزيون حلقته الأخيرة مساء 3/12/1987 فقد جاء بالكثير من الواقع الصعب ادراكه لكنه مع ذلك اوحى لنا بشيء لم نجده، وجاءنا بكثير من الاتقان الفني لكنه لسبب غير واضح ارتضى ان يأتي بزوائد هي الى النتوءات اقرب، ومع ذلك فهو عمل يكسبنا اليه بالهدف وبالمعالجة، ولأنه كذلك فاننا نعتز به، بمحاورته عما قاله وعما نرى انه فاته. ولعل اصدق تعبير عن اعتزازنا ان نبدأه بالاشارة للنماذج الجديدة التي التقينا بها في هذا المسلسل وهي تكسر تكرارا مملا في حكايات اصبحت او كادت ان تكون كاللوازم الثابتة، فقد كانت شخصية فوزي التي امتعنا بها فاضل خليل بتجسيدها وشخصية رؤى التي اضافت لنجاحات آسيا كمال نجاحا اكثر حلاوة، صورتين مفعمتين بالتعبير عما تفعله معايشة العصر وادراكه، وعما يثمره التحصيل العلمي في النفوس التي تصدق ذاتها وتصغي الى حقائق دنياها، ولذا بدت شخصية فوزي فائقة الاريحية ربما الى درجة يستغربها كثيرون، فليس لعيب فيها ولا لوم على مؤلف يحرص على الجديد ان يقدمها ... بل انه استغراب اورثته الاعمال التي تكرر نفسها وتكرر غيرها دون ان تجرؤ على اضاءة البؤر الجديدة في واقع ينمو ويتجدد بمثل اضاءة صباح عطوان هنا، فالمؤلف لم يؤكد صدق هذه الشخصية في ذاتها فحسب وانما من خلال مقابل ارتوى من نفس النبع وهي رؤى، فان الاسرة التي سمحت لابنتها ان تنضج وان تمارس ذاتها دونما كوابيس متوارثة هي نفسها التي انضجت فوزي اصلا مما جعلهما يتحاوران من منطق هو الاساس المشترك، واذا كانت ام رؤى ( ليلى كوركيس ) ترتبط بمنطق النفع المباشر والمظاهر المتوارثة، واذا كانت حماستها لذلك الارتباط قد أبقت والد رؤى قريبا منها، وان لم يفقد تفهمه لمنطق ابنته وخطيبها، فذلك كله مما عمّق صدق النموذجين في علاقات لم تتحرر كليا رغم كل ما انجزته، وعلى الجانب الآخر يأتي نضج شخصية ماهر ( عبد الجبار كاظم ) وفهمه لعلاقة فوزي برؤى ودوافعه للتودد اليها ليعمق من انتماء ذلك التفتح لحساسية اكثر تطورا واكثر انتماء لزمننا وهو ما يجب ان نحتفي به، بل اننا ندعو لتنمية مثل تلك الشخصيات من منطلق ان الفن المخلص لا يعكس واقعه ليطوره فحسب وانما ليبشر بواقع جديد يطمح اليه.
والواقع ان جديد هذا المسلسل لايكمن في هاتين الشخصيتين وان اتخذناهما مثلا، بل يتوزع كالروح في الجسد، في علاقات وشخصيات اخرى مفعمة بالوعي والدفء، رئيسية كانت أم فرعية ... وإلا فهل ننسى صراع ايمان ( هناء محمد ) بين المسؤولية، فردية واجتماعية، والعاطفة في علاقتها بمنير ( سامي قفطان ) ام ننسى تفهم منير نفسه لموقفها وتجاوزه لما يرغب لصالح ما يرى انه واجبه ! وحتى اسرة عزيز على كثافة ما فيها من ملامح عراقية معروفة بدت جديدة بهذا الشكل او ذاك لاحتفاء المؤلف بالنسغ الصاعد فيها، حقا ان تلك النماذج والعلاقات ليست جديدة من عدم، بل تكمن جدتها في اتخاذها محورا لهذا العمل بعد ان طال تكرار صور وعلاقات متشابهة البدء والمنتهى، وكأن قطار حياتنا واقف في محطة أزلية، فجاءت مقدمة لواقعيتها، وممتعة لجدتها وتزداد قدرتها تلك كلما تأملنا النقيض الذي يواجهها او المفاجآت التي تجدها على طريق حياتها الاعتيادية. ففي اسرة عزيز يجتمع القديم والجديد ويفترقان دونما قطيعة لكن الجديد يزداد قوة وتألقا بينما يلهث القديم بين عثراته ويتراجع حتى الى مجرد الاحتفاظ بصلة الاصل مع الصاعدين الى المستقبل مادامت ثمة كوى تعد بفرص للتجاوز كانتقال رشيد الى عمل ادعى للأمان بالنسبة لحبيبة، وكاحساس أشواق ( فاطمة الربيعي ) بتقصيرها وانحيازها الى الأناني المتوارث الذي لم يورثها الا الوحشة ورعب الخسران الشامل، ويمكنك ان ترى في هذه الاسرة ... بين اولادها وبناتها، تعايش لمسات التغيير الاجتماعي الى جانب الاصالة التي تتدفق بها شمائل الأب التي وجدت في براعة جعفر السعدي واقتداره الأخّاذ صورة شديدة التأثير، وتملأ بها الام بيتها ونفوس اولادها، حتى ليكون اداء سهام السبتي تعبيرا عن الرقة والوفرة التي تمتليء بحنانها تلك النفوس. لذلك فقد تهيأ الاساس الموضوعي والذاتي كي تكون اسرة عزيز مركز الجذب والطرد للعلاقات والحبكات التي تضمنها المسلسل وزاد ذلك الاساس متانة بيقظة حسن حسني الاخراجية وامساكه بخيوط الجذب والطرد، ودقته في ادارة الاحداث وتوزيع مشاهدها بما يعزز لاسرة المحور مركزها في الاحداث وبيان دلالاتها مما مكنه من رسم وادامة احساس بتبادل تأثير مستمر بين الاحداث وبين الشخصيات، وتكوين ايقاع منسجم مع طبيعة المواقف وشخصياتها، ولذلك – وهذا شأن الاعمال المتقنة – تنكشف بسرعة تلك الزوائد والنتوءات لغربتها عما بثه المخرج وعززه من انسجام ... وإلا فهل يعقل ان يهنيء الاشقاء شقيقهم بزواجه بمصافحة كأي غريب او صديق؟ ... بينما يتلقون هم تهاني الناس بزواج اخيهم ! وهل تقدم الهدايا في حفل الزواج حقا؟ ام ترى مخرجنا مقتنعا بتلك المبالغات التي ( اقترفها ) المعيد العاشق فؤاد ( نزار السامرائي ) دون اعتبار لقاعة الدراسة والدارسين ، بل وهل تراه مقتنعا بحكاية فؤاد كلها اصلا؟ تمنيت على المؤلف ألا يثقل بها عمله وتمنيت على حسن حسني المخرج بعد ان وقع المحذور ان يتخلص منها فليست هي الوسيلة المثلى لتأكيد وعي ايناس ( ليلى محمد ) واتزانها وجاذبيتها، ومادامت كذلك فقد فقدت الحكاية مبررها الوحيد لاسيما وهي تفتقده اصلا بصلاح زوجة فؤاد وطيبتها، فاذا اضفنا لذلك نمطية اداء افراح عباس ونزار السامرائي، بقيت مجرد ملحق لا يفقد المسلسل بحذفه إلا بعض اثقاله، بدلا من ذلك كان يمكن تنمية علاقة سليمة تكشف عن دواخل شخصية ايناس وافكارها لتصبح سبيلا لتحررها من تأثير سابق لمروان ابن عمتها ولتتيح لنا ان نلتقي بحوار يليق بجامعيين اساتذة، والواقع ان صباح عطوان هنا كان على غير عادته في إنطاق شخصياته بغير كلامهم، إذ حنط معظمهم بالكلام الضروري للمشهد فحسب دونما اطلالة على مكوناتهم الفكرية ناسيا او متناسيا ان شخصياته في هذا المسلسل كانت مهيأة موضوعيا وفنيا لحوار غني بالافكار, وتلك مفارقة مؤسفة فعلا !! ومثلما لم توفق حبكة فؤاد – ايناس في خدمة شخصية ايناس، لم يوفق المسلسل في تأكيد انتهازية مروان ( قاسم محمد ) وأمه زمرد ( سليمة خضير ) بافتعال علاقة بين فرات ( غسان محمد ) ابن نواف ونسيمة ( سهير اياد ) شقيقة مروان، لأنها جاءت بطريقة شديدة الغرابة وكان ممكنا لتأكيد المعنى والواقع نفسه باتباع اي من السبل الاعتيادية لتحقيق تلك العلاقة مع التركيز على هدفها النفعي وان كنا نعتقد ان هذه الحبكة اصلا لم تضف لما تأكد لنا في علاقات مروان العامة ومفاهيمه من انتهازية وجبن لأنها تحصيل حاصل ولذا مضت الاحداث الرئيسية دون تأثر ملموس بها، اما اذا تذكرنا شخصية شهاب شقيق نسيمة الآخر ورفضه الحاسم لمسلك شقيقه وامه وبذلك الحضور المؤثر لأداء ريكاردوس يوسف فان الحكاية تبدو غير ممكنة اصلا، إلا بإلغاء شخصية شهاب. على العكس من ذلك كانت علاقة نواف نفسه ( بهجة الجبوري ) بأسرة زمرد وموقعها كأحداث رديفة قوية الصلة بالمحور الاساسي للاحداث وتخدم في الصميم هدف هذا المسلسل الذي انجزه بتبشيع وادانة واسقاط الروح النفعية التي استحكمت بمروان وامه زمرد كأسوأ ما يرثه جيلهما من واقع تتكاتف اسرة عزيز لتجاوزه بالوعي والمحبة والمثابرة فيكون بيتها الجديد رمزا لتلك المثابرة والتضامن الروحي للتقدم على شوط واقع اجمل ... وكان صباح عطوان موفقا ومؤثرا حين حشد لشخصية مروان سيلا من الكلمات الرنانة والتخريجات النادرة لتقلباتها فذاك هو سلاح امثال تلك الشخصية الثرثارة المتطفلة التي وجدت في اداء ( قاسم محمد ) ما يجعلها ادانة عميقة لنموذجها، وهو اداء يحق للفنان محمد ان يفخر به دليلا على بلاغة توصيله وجسرا آخر الى اعجاب الجمهور خاصة وهو يلخص جبن الشخصية بالانسحاب او التخلي عن مسؤولية ما جرى لشقيقته حياة ( اميرة جواد ) مما لم يكن محتملا حتى لأمه التي تصدع بتدابيره وآرائه فكانت صفعتها قمة الغضب التي لم يوفق المخرج بتنفيذها ولم تشفع الحركة البطيئة لاخفاء تردده ربما بانزال تلك الصفعة على وجه فنان استاذ، بينما كان موفقا في صفعة ايناس لاختها أنغام ( سناء عبد الرحمن ) وهي صفعة لا تنفصل عن منطق ادانة شخصية مروان وافتضاحها امام ابنتي خاله بحيث اصبح متوقعا ان تنزل عليه في مرحلة لاحقة ولكن بغير الطريق التي رأيناها. والواقع ان غضب ايناس ذاك كان تلخيصا مدويا للنفاق والبشاعة التي كان يسري بها مروان مستغلا طيبة نفوس كل اسرة خاله التي تناقضه في كل شيء رغم انها سماحة عراقية متأصلة تحتفظ بمودته كقريب له حقوقه وحقوق ذكريات عمر مضى لاسيما وهو يأتي ومروان يوغل في انتهازيته باللعب على عواطف انغام بعد محنتها بفشل خطوبتها المتكرر ذلك الفشل الذي رسمته سناء بتعبير كفوء لا يعجز عن اتهام الارث القديم ( حبيبة واشواق ) في احداثه. واذا كان اختيار المخرج لممثليه احد عوامل نجاحه الاساسية فاننا نرى انه فرط بقدرات سهير اياد وانه لم يتعامل مع شخصية عاصم ( فارس عجام ) بما يتفق وسمات مقاول وتاجر صاعد فأبقى على ملامح توحي بهشاشة هذه الشخصية وخفتها لاسيما وان اداء فارس قد اكد تلك الملامح. على العكس من ذلك كانت شخصية نواف رغم توزعها بين رغبات وواجبات عديدة ومتناقضة لحد ما، ولذا احتاجت كفاءة ممثل كبهجة الجبوري هذا الذي جسدها بتألق اعادنا الى تألقه في اكثر ادواره السابقة رغم انه لم يجد حتى الآن عملا بحجم قدرته وتعبيره الرائع، ولو لم تجد هذه الشخصية البناء المناسب لهدرت كفاءة التمثيل او لضاع جزء كبير منها. وبالمثل، فاننا نرى ان اتقان الاداء وانسيابيته المؤثرة في دوري منير وايمان قد بقي لحساب قصة على هامش المحور الاساسي، لكن ما يعوض عن ذلك انها لاتتناقض فكريا ولا وجدانيا مع سعي المسلسل لتأكيد القيم النظيفة في الحياة، الاخلاص والامانة للواجب والوفاء للمسؤولية الفردية والاجتماعية وهو ما استطاعت عذوبة وتلقائية سامي وهناء ان توصله بوضوح جعلنا نتمنى ان لو تطورت علاقتهما لتدخل صميم الاحداث وكان ذلك ممكنا لو لم نقف عند ( تابو ) الحلقات الثلاث عشرة !! وكان ذلك التطوير ادعى فنيا من تكرار حبكة عادل ( جلال كامل ) وهيفاء ( حياة حيدر ) التي بقيت كلها دون مستوى اداء هديل كامل الجميل لشخصية مها ... فلو تحررت مها من عادل لكانت تلك مكافأتها التي تليق بها !!... وما زال بالامكان قول الكثير !!..
|