اولا - مقدمة في تأثير التلفزيون
ثانيا - في غيبة النقد التلفزيوني
ثالثا - مقتربات أو مداخل دراسة النقد التلفزيوني 1 – الموقف من النقد التلفزيوني أ – موقف الادباء ونقّاد الأدب ب – موقف التلفزيون كمؤسسة ج – موقف الجمهور 2 – من يكتب النقد التلفزيوني 3 – توجهات أو محاور النقد التلفزيوني 4 – مهام النقد التلفزيوني
رابعا - وسائل تطوير النقد التلفزيوني 1 – موضوعيا أ – موقف جديد ب – تطوير المادة التلفزيونية ج – اقلام نقدية جديدة د – منابر النشر ه – التأليف 2 – ذاتيا ثقافة الناقد أولا" ... وثقافته آخرا"
خصوصية النقد التلفزيوني في المشهد النقدي العام اولا ... مقدمة في تأثير التلفزيون اذا كان قرننا هذا قد امتاز باتساع وفعالية وسائل الاتصال الجماهيري والعلاقات الثقافية، فليس مبالغة القول بأن التلفزيون قد امتاز بدوره على تلك الوسائل بسرعة انتشاره وعمق تأثيره حتى ليصعب ان نجد مجالا من مجالات الحياة لم يمارس التلفزيون دوره فيه،مثلما استوعب أغلب النشاطات الانسانية لتكون من مفردات برامجه ولغته في الوقت نفسه. وفي الحالتين يمكن اعتبار التلفزيون (حادي العصر ) دون منازع،بل انه كوسيلة اتصال جماهيري من اكثرها تعبيرا عن ايقاع عصرنا المتسارع وحيويته،فمع ان التاريخ الحقيقي للتلفزيون يرجع الى منتصف الاربعينيات لكن الخمسينيات من قرننا هذا لم تنته إلا وقد جلس امام الشاشة الصغيرة (95) مليون انسان في جميع انحاء العالم واستمر العدد يتصاعد،فاذا كان تداول الصحف في العشرين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية قد ازداد بنسبة 20% وعدد اجهزة الراديو بنسبة 60% فان عدد اجهزة التلفزيون قد ازداد بنسبة 300% (1). وهكذا راح تأثير التلفزيون يتسع ويتعمق حتى اصبح من اكبر عوامل تكوين الرأي العام نفسه،ويراه أوستن راني مؤثرا أساسيا في السياسة الامريكية نفسها كأسلوب وكرجال وكثقافة (2)،ولاعجب اذا علمنا ان شبكات التلفزيون الامريكية الثلاث،وثلاث وكالات انباء واربع شركات اذاعية هي التي تكوِّن الرأي العام الامريكي المتمثل في 200 مليون انسان (3)، ولذا تتسابق الاحزاب الامريكية في استثمار تأثير التلفزيون في الانتخابات فتدفع بسخاء لبرامج الحملات الانتخابية التلفزيونية كما يدل على ذلك الجدول التالي -4- :
السنة المبالغ المصروفة على الدعاية التلفزيونية (مليون دولار) 1952 6 1956 10 1960 19.9 1964 22 ومبعث ذلك التأثير واتساعه في آن واحد يعود الى حقيقة حيوية تتمثل في ان الانسان يحصل على 98% من معرفته من حاستي البصر والسمع ... إذ يحصل على 90% منها عن طريق البصر و 8% عن طريق السمع (5) ،ولذا يعتبر التلفزيون من هذه الناحية أتقن وسائل الاتصال الجماهيري لأن الوقائع تقدم الى المشاهد بشكل أحداث ترافقها كل المؤثرات الصوتية من تصفيق أو احتجاج أو هي هدير عواصف او اصوات مكائن (6) , وبذلك يتحدث الى أوسع القطاعات البشرية متجاوزا أهم الحواجز ... حاجز اللغة من خلال الصورة التي تكاد أن تكون لغة عالمية. وبناء على ذلك أصبح التلفزيون وسيلة لمعظم النشاطات الانسانية لإبلاغ رسالتها الى الجمهور، ففي مجال التعليم والتربية : * أصبح مدرس واحد بامكانه ان يخاطب آلاف بل وملايين المشاهدين في آن واحد، وثمة من يعتبر التلفزيون"مدرسة يلقي فيها كل من المربي وعالم الاجتماع والصحفي ورجل الاختراع شيئا من تجاربه وفِكَره عن الحياة" (7 )ولذا يصفه احد المشرفين على التلفزيون البريطاني بـ "المعلم العظيم للشعب" لأن "ما يقوم به اكثر عمقا وأبعد أثرا مما كانت تقوم به الصحافة بداية القرن العشرين" (8). *وأصبح التلفزيون التربوي عونا للمدرسة حتى ليعوض عنها في بعض البلدان التي تعاني من أزمة مدرسين وقاعات (9). * وفي الاتحاد السوفياتي يستخدم التلفزيون في دورات تحسين الكفاءة ويزود المختص بآخر المعلومات المتوفرة في حقول اختصاصهم، ويسد الثغرة بين التعليم القديم واحدث الانجازات (9). وفي أوقات الفراغ .... *صار التلفزيون من ابرز وسائل أو عوامل تنظيمها وإغنائها بالبرامج الترفيهية أو التوجيهية،بل انه يكاد يكون الوسيلة الوحيدة لقضائها بالنسبة لآلاف العوائل. وفي مجال الفنون .... * يمكن اعتبار التلفزيون محطة جذب هائل لأحدث ما فيها، وبثها،والاسهام في تطويرها من خلال التفاعل معها مرة والتنافس معها مرة اخرى ... إذ تستطيع لغة التلفزيون من خلال تعدد الكاميرات وامكانية القطع ( المونتاج ) المُعَد مسبقا أن تُظهر المشهد الواحد بأشكال مختلفة تزيد من تأثيره بينما المسرح يظهر المشهد نفسه بشكل واحد هو الذي يراه جمهوره. *بل ان اعمالا أدبية عدة وجدت فرصتها الحقيقية للإنتشار عن طريق الشاشة الصغيرة بعد تحويلها الى أعمال درامية،وليس مبالغة أن نقول اليوم ان التلفزيون قد أصبح كتاب الآلاف من العوائل بل ويكاد ان يكون كتابها الوحيد،وربما نافذتها الوحيدة الى السينما والمسرح والغناء واحداث العلم والسياسة. *ومن خلال ذلك كله،وبرامج عديدة متعددة المضامين والاشكال، أصبح التلفزيون عاملا أساسيا في بناء ذوق الجمهور والاسهام في توجيهه تبعا لمستوى وتوجه تلك البرامج،ولكنه على العموم يمكن ان يسهم بفعالية في تحسين ذوق الجمهور.
*** يساعد على ذلك كله ويعمق تأثيره،ظروف مشاهدة التلفزيون نفسها،إذ ان الاسترخاء في البيت أمام المادة المعروضة،وحجم الشاشة الصغير( سيبقى الى حين صغيرا) وما يتطلبه من لقطات متوسطة وقريبة أساسا،يجعل الصلة بين المشاهد والمادة التلفزيونية اكثر حميمية، ومع المتحدث أكثر ألفة. وإدراكا لتلك الحقائق وخطورتها،أصبحت البرامج التلفزيونية سلعة استراتيجية،تنتجها الدول المتقدمة للتأثير في الدول الاخرى بل وتعتمدها كقروض لبعض الدول(النامية). ولا شك ان الدراسات التي ستتناول التأثيرات الحضارية والاجتماعية المتعددة للتلفزيون ستتوقف عند أبعاد ما أوجزناه هنا من مؤشرات،ولذا لن نمضي أبعد من ذلك في بيان تلك الآثار بل ننطلق من حقيقة خطورتها لنتساءل : هل يعقل أن تمارس تلك الطاقة التوجيهية والاعلامية فعلها دونما فحص لمادتها ومناقشتها؟ وهل يعقل أن تمضي مادة إعلامية وتربوية وفنية بتلك السعة وبذلك التنوع دونما تعريف بجماليات تكوينها وبلغة توصيلها فنيا؟ ليس معقولا بالطبع مثلما لم يكن معقولا ولا ممكنا أن تمر الاعمال الابداعية في الادب والرسم أو المسرح والسينما دونما نقد لها يواكبها أو يتأخر عنها ... أو حتى يتقدمها في بعض الاحيان،غير ان الواقع ليس كذلك – لسوء الحظ – إذ لا مجال للمقارنة بين صلة الأدب بالنقد الأدبي أو بين صلة الفنون الاخرى بنقدها،وبين الانتاج التلفزيوني ونقده. فاذا كانت صلة الأدب بنقده على ما نعرف من تلازم وإذا كانت الفنون الاخرى تفرز نقدها بصورة ملموسة على الأقل فان الانتاج التلفزيوني يمضي أو يكاد،بلا نقد !.. رغم أنه صار يجمع كل تلك الفنون ويستفيد منها في ترسيخ لغته الخاصة،وتلك مفارقة كبرى.
ثانيا ... في غيبة النقد التلفزيوني
أجل ... هي مفارقة أن تبقى وسيلة اتصال جماهيرية بتلك السعة وذلك العمق من التأثير دون حركة نقدية موازية، بينما يشهد الابداع الأدبي مثلا حركة متجددة باستمرار حتى ليمكن رصد التأثير بينهما وتفاعلهما باتجاه الاثراء المتبادل وحتى ليمكن اليوم الإشارة الى تخصص في نقد الشعر أو في نقد الرواية وهكذا،وهي مفارقة ان تحظى السينما وان يحظى المسرح بنقد متواصل ولا يحظى التلفزيون بأكثر من مقالات متباعدة مع أن الانتاج التلفزيوني والبث التلفزيوني يتفوق على الأدب غزارة وانتشارا وعليه وعلى السينما والمسرح جمهورا وتأثيرا !... وليس الأمر مقصورا علينا في العراق فقط،بل أشار لمثل ذلك الناقد السينمائي المصري سامي السلاموني في مقال له بمجلة "الاذاعة والتلفزيون"المصرية عام 1985 حين لاحظ غيبة أي تراث نقدي للتلفزيون،أو جيل من نقّاده رغم مرور اكثر من ربع قرن على تدشين التلفزيون المصري على العكس مما هي الحال في المسرح والسينما، ولاحظ مرور أعمال تلفزيونية مهمة دون متابعة – سلبا أو ايجابا – وحذر من خطورة ذلك،وخطورة الاكتفاء بتعليقات المحررين السريعة (10). ومبعث تلك الخطورة في رأينا،يرتبط بظروف أو خصوصية مشاهدة التلفزيون التي أشرنا اليها من قبل، فان تلك المشاهدة أصبحت بالنسبة لأغلب المشاهدين عادة لافكاك منها،خاصة اولئك الذين لا يجدون عنها بديلا،أي انها صارت،وهي كذلك دائما،تختلف جذريا عن قراءة الكتاب ومتابعة الأدب،وتختلف عن مشاهدة المسرح أو السينما ... ففي القراءة والذهاب الى المسرح والسينما،قرار مسبق بالتوجه الى كل منها،وكثيرا ما يقوم ذلك القرار على مؤشرات نقدية سبق نشرها أو سماعها مما وفر فرصة للإختيار امام القاريء أو المشاهد يستطيع استنادا اليها ان يختار المادة التي يقرأها أو يشاهدها وربما ان يحكم عليها بتأثير ما قرأه أو سمعه عنها مسبقا مما يوفر للمشاهد بالتالي امكانية للإحتفاظ بمسافة بينه وبين تلك المواد،وقد يقرر العودة اليها بعد اطلاعه عليها اعجابا أو فحصا ... ناهيك عن انه حر من تأثيرها طالما لم يطلع عليها،أما في التلفزيون فالأمر مختلف كليا،فهذا ضيف يومي،بل هو الزائر المقيم إن صحّت التسمية، إن لم يعجبك التعاطي معه ففي بيتك من ينتظره وعليك ان تلتقي به بهذه الصورة او تلك ... وكل يوم يأتيك بجديد،ولذا فأنت بحاجة للنقاش في هذا السيل من المعلومات والمواد التوجيهية والحكايات والالحان والصور والأصوات ... بحاجة لنظرة ثانية قد يقال من خلالها ما لم يتهيأ لك أن تجده أو تجد فيها ما كان لك سبق اكتشافه !... اما ان كان الجمهور،وهو الأغلب ممن يتلقى العرض ويمضي ويعود لاستقبال ما تأتي به شاشة الغد فان الحديث فيما شاهده يصبح ضرورة لا تقل أهمية عن ضرورة العرض نفسه. ولو حاولنا تفحص اسباب ذلك فسنجد بينها حقيقة تاريخية ما تزال تفعل فعلها،وهي رسوخ الابداع الأدبي وخطاب الكلمات في التراث الانساني بينما لم يكمل التلفزيون نصف قرن من عمره بعد !.. نعم.. فذلك العمر ليس كافيا لترسيخ قواعد وجماليات أساسية للانتاج التلفزيوني خاصة، وان ما يكاد يستقر منها لا يلبث ان يتحول الى صيغ واساليب جديدة بتحول المجتمعات التي تنتجه أو تتسابق في افساح المجال للتلفزيون لا تأثير فيها، وكذا لأن تطور الفن التلفزيوني يرتبط بالتقدم التقني في الالكترونيات نفسها،وحتى حين ينتج التلفزيون الوانا فنية لها قواعدها،كالدراما،فلا بد له ان يضفي على ذلك الانتاج من خصوصياته ،خصوصيات تقنياته،ما يجعلها دراما خاصة به حتى وإن احتفظت بصلتها بفن الدراما واساسياته وأهدافه،وذلك ما يضع ناقد الدراما التلفزيونية أمام صعوبة ( عدم وجود قواعد متفق عليها حتى الآن كما هو الحال في المسرح والسينما،ولا يستطيع الناقد في الوقت الحاضر إلا الاعتماد على تصوره الخاص ) كما يقول بارتليت (11) . ومع ذلك،وقد يكون ذلك بدافع الاحساس بالمسؤولية الاجتماعية، فإن ادباء وأساتذة معروفين في النقد الأدبي والمسرحي قد كتبوا متابعين لعدد من المواد التلفزيونية،إلا ان اسهاماتهم تلك لم ولا تشكل حركة نقدية موازية للإنتاج التلفزيوني (12) . واذا كانت المادة التلفزيونية نفسها ما تزال في تحول وتطور مستمرين دون قواعد راسخة فان من الطبيعي ان يفتقر النقد التلفزيوني نفسه لقواعد محددة وتلك احدى صعوبات الناقد التلفزيوني،لكن ذلك لا يمنع التحرك باتجاه بلورة ملامح نقد تلفزيوني يستوعب جوهر الانتاج التلفزيوني في عصرنا،وذلك التحرك بدوره يحتاج الى تفاعل سبق أن أشرنا اليه في مقال لنا في جريدة الثورة (13) لكن اشارتنا تلك بقيت صرخة في واد. على ان الانتاج التلفزيوني رغم حداثته،نجح في اجتذاب العديد من الاقلام للكتابة عنه ودراسته في أوروبا، اميركا والاتحاد السوفياتي،وهي الدول التي سبقتنا في ذلك كما ونوعا مما يعزز ملاحظتنا عن قصر التجربة التلفزيونية لدينا عن ان تكفي لإفراز حركة نقدية كما فعلت فنون الأدب أو حتى فنون المسرح والرسم والسينما التي استطاعت تكوين ملامح نقدها وتقاليدها،وتعززها ايضا حقيقة استمرار مقالات النقد التلفزيوني مع استمرار وتصاعد الانتاج التلفزيوني والدرامي منه خاصة،وهنا نعود لتأشير ملمح آخر له صلة بالنقد الأدبي وهو تركيزنا على الدراما التلفزيونية اكثر مما على سواها من مواد تلفزيونية وما ذلك إلا نتيجة صلتها بالعمل الأدبي من ناحية،وبالدراما عموما – وهي فن له قواعده – من ناحية ثانية مما يسمح بالاستفادة من انجازات النقد الأدبي والمسرحي. غير ان غيبة حركة نقدية للتلفزيون لا تعني التجاهل التام لإنتاجه،بل لا بد لنا من الاشارة الى مقالات،منها مقالات جيدة في النقد التلفزيوني والى دراسات اجتماعية اكاديمية في التأثيرات التلفزيونية تعتمد الاستبيانات والاحصائيات الميدانية ودراسات وبحوث المشاهدين التي تنشرها مجلة "البحوث" أو كدراسة تأثيره على الاطفال (14)وتأثيراته التربوية (5)،بل ولا بد ان نذكر لكلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، اقامتها في منتصف كانون اول 1988 لندوة عن الدراما التلفزيونية والنقد التلفزيوني التي كان اسهامنا فيها وتفاعل المستمعين معها حافزا لنا لتأشير مداخل او مقتربات لدراسة وتطوير النقد التلفزيوني في محاضرة لنا في كلية الفنون الجميلة في جامعة الكوفة في مايس 1989 ( تابعة حالية لجامعة بابل وما تزال في موقعها في الحلة ). كما لا بد لنا من ان نشير، ان ذلك الاهتمام الاكاديمي بالتلفزيون قد أسفر عددا من الرسائل الجامعية عن التلفزيون وعن الدراما التلفزيونية بل والنقد التلفزيوني بالذات وإن لم يتح لنا الاطلاع عليها ... مما يشجعنا على المضي في الاهتمام بالموضوع وسنرى في دراستنا هذه ان النقد التلفزيوني إذ يمتلك خصوصيته فانه ليس منقطعا عن المشهد النقدي العام كما تدلنا المداخل التالية.
ثالثا ... مداخل دراسة النقد التلفزيوني الموقف من النقد التلفزيوني يمثل هذا الموقف وتفحصه بداية عملية لدراسة واقع نقدنا التلفزيوني وبعض سبل تطويره ولذا نبدأ به عرضنا لتلك المداخل معتقدين ان عرضه في مثل هذا الملتقى خطوة اخرى مهمة لإنضاجه او على الاقل للخروج به من حصار التجاهل او اللامبالاة الذي يسجل على الوسط الثقافي كموقف سلبي غريب من رأي أو آراء تتعلق بأخطر جهاز اعلامي وتوجيهي، واذا كان ذلك من سلبيات الوسط الثقافي،والفني منه بشكل خاص،فانه موقف يمثل معاناة للناقد التلفزيوني حين يكتب ويعاود الكتابة دون تواصل ،وهي معاناة قد تؤثر على سعيه لتطوير أدواته إن لم تؤثر على استمراره أصلا،ولرؤية جوانب الموقف من النقد التلفزيوني سنتأمّل الوجوه التالية : موقف الأدباء ونقّاد الأدب هو موقف أقرب لتجاهل النقد التلفزيوني او النظر اليه بشيء من الاستصغار وان لم يقل ذلك أحد منهم،لكن من يتابع حواراتهم واهتماماتهم لن يصعب عليه ادراك ذلك، بل ان مجلة "ألف باء"– في عدد لم استطع معرفة تاريخه او رقمه لأني اطلعت عليه ممزقا في احد مواضعنا العسكرية في خطوط القتال عام 1986 – نشرت تحقيقا عما يقرأه النقّاد في الصفحات الثقافية في جرائدنا ورؤية رئيسَيْ تحرير جريدتي "الثورة" و "الجمهورية"لتلك الصفحات وفيه اجماع على تجاهل مادة النقد التلفزيوني،قبولا أو رفضا،باستثناء رأي الاستاذ سامي مهدي الذي عبر عن ضرورتها حتى لو نشرت بعد اسبوعين من عرض المادة المنقودة .كما أشار،كرئيس لتحرير جريدة "الجمهورية"،الى قلة من يكتب في هذا المجال،( ونزعم ان ذلك الاستصغار نفسه ليس إلا نتيجة لترفع غير صائب عن المادة التلفزيونية ) (13)إذ ليس غريبا أن تلتقي أدباء أو نقّادا يتباهون بعدم متابعتهم للتلفزيون أصلا ! ( بل ان بعضهم يشفق عليك وانت تحدثه عن هذا العمل التلفزيوني أو ذاك – متعجبا – أو حتى لائما كيف تضيع وقتك في تلك المتابعة )(13) , وبالتالي فالنقد التلفزيوني بالنسبة لهم "حوار في دائرة لا يعنون بها أساسا"(13)، ولكن العجب ان موقفهم من النقد السينمائي – على قربه الشديد من النقد التلفزيوني – ليس كذلك رغم ان جمهور التلفزيون هو الأوسع ! ورغم ان فرصة الاختيار المتاحة في مشاهدة السينما قد تنقذ جمهورها من كثير من الأعمال الهابطة أو الضارة في حين ان انتفاء تلك الفرصة امام جمهور التلفزيون يوجب النقد التلفزيوني ويدعوه أن يأخذ أقصى ما يستطيع من فعالية. على ان الأمانة تقتضي التفريق بين موقف الأدباء او المثقفين الذين اصبحت الثقافة لديهم إغراق في القراءة وتجاهل لبعدها الاجتماعي بهذا الشكل أو ذاك،وبين اولئك الذين يحرصون على إتاحة الفن الرفيع والمادة الاعلامية الراقية لأوسع جمهور ممن لا يتابع الفن او الثقافة إلا ما يأتيه منها من خلال الشاشة الصغيرة فهم يدركون انها قد تكون وسيلة لتوسيع صلة الناس بالأعمال الأدبية والفنية الجادة. ونزعم ان تجاهل الادباء،أو كثير منهم، للتلفزيون ونقده،تفريط بمتابعة مكون أساسي من مكونات الرأي العام كما رأينا،ناهيك عن أنه لا يتفق مع مستجدات النقد الأدبي التي تهتم بشكل خاص بلغة الأدب وبالدال والمدلول وبالصورة الفنية وكل ما في حرفيات التلفزيون إشارات وكنايات صورية ومؤثرات تعيد بناء الخطاب بأساليب غير التي كُتب بها. وقد نضيف الى ذلك ما في ذلك التجاهل من تفريط في متابعة تجليات اخرى للأعمال الأدبية لاسيما تلك التي تُحوّل الى دراما تلفزيونية،مع ان الدراما المسرحية ونقدها لا تتعرض لشيء من ذلك حتى وهي تقوم على نصوص قصصية أو روائية،متناسين بذلك ان الدراما التلفزيونية ليست إلا الدراما نفسها مدفوعة الى جمهور أعرض بأشكال أشد تأثيرا وأدعى للتأمل،وان الاختلافات التقنية والجمالية بين المجالات الدرامية- المسرح،السينما،التلفزيون والاذاعة - لا تخرج في آخر المطاف عن نطاق الدراما، كما يقول مارتن اسلن (15) بل ويضيف اليه قوله "ان هذا التمازج بين وسائل الايصال الدرامية سيستمر في المستقبل ايضا "(15). نعم، قد يكون موقف ادبائنا الذي نحن بصدده ردا على تواضع أو حتى تهافت المادة التلفزيونية المحلية والعربية، أو معظمها بكلمة أدق،غير ان الموقف من المستوى ليس له ان ينسحب على النوع الفني نفسه لاسيما وان اعمالا فنية وفكرية محترمة بكل مقياس قد قدمت تلفزيونيا مكتوبة للتلفزيون مباشرة أو معدّة عن اعمال مسرحية او روائية،وهي اعمال كانت جديرة باحتفاء النقد وصبره على بيان جمالياتها ... وهي من باب اولى دعوة لهم للاهتمام بهذه الوسيلة التعبيرية. على اننا ونحن نذكر بذلك لا بد لنا ان نستعيد ما ذكره آرثر سوينسن في كتابه "التأليف للتلفزيون" من جدال مماثل لما نحن بصدده مشيرا الى ان اعمالا تلفزيونية قد اُلفت خصيصا لهذه الوسيلة الفنية وفيها من الافكار ما لا يمكن التعبير عنه بمثل القوة التي جاءت بها بتلك الوسيلة،وان الاعمال الادبية والمسرحية الحساسة لا يمكنها ان تحيا في الوسيلة التلفزيونية فقط بل وان تكتسب منها اهمية جديدة كما حدث لمسرحية "الاخوات الثلاث " لـتشيخوف،ثم يؤكد ان الكثير من الاعمال ستزدهر بالتلفزيون (16) اما نحن فنذكر بـ "ميرامار" ،"الراية البيضا"،"ليالي الحلمية"،"الذئب والنسر في عيون المدينة" وكثير كثير،مما يشجعنا على ان نقول ان إحجام الكتّاب عن الكتابة للتلفزيون او الاهتمام الضروري بمتابعته يحرمه من اسهامات جادة ويبقى لنا ان نذكر بالكثير من نجاحاته في دعوتنا لذلك الاهتمام.
موقف أو تعامل الفنانين مع النقد التلفزيوني يكاد موقفهم – أو أغلبهم بكلمة أدق – ان يتسم بالذاتية،فهو نقد مرضيٌ عنه، أو فعّال بقدر ما يرضيهم هم،ومكروه أو ثقيل الدم بقدر مالا يفعل ذلك ولذا يسهل على هذا أو ذاك ان يقول بعجز النقد، او بعدم استيعابه لأعمالهم،أو بعدم موضوعيته او حتى نفيه أصلا،ونادرا ما تجد من يقول انه أصغى لمقالة نقدية بعقل مفتوح،ودع عنك من يقول انه استفاد منها !.. والحق اننا نستطيع تأشير هذا التعامل بالنسبة لعموم النقد ودوائر اختصاصاته كتعبير عن امراض مزمنة في الواقع الثقافي ترتبط بالتطور الاجتماعي والمستوى الذي بلغته التقاليد الثقافية،غيران الحقيقة تقتضي الاستدراك بالقول ان ذلك التعامل يرتبط بمستوى النقد نفسه أيضا ... إذ تستطيع الاسهامات النقدية العميقة ان تحفز طريقها في علاقات الواقع الثقافي وذلك واجبها،ويستطيع النقّاد – وذلك واجبهم – ان يتجاوزوا المماحكات بالاصرار على التجويد والامانة واليقظة الفنية والمبادرة الى القول فيؤثروا في دائرة ما ينقدون،غير ان استمرار ذلك التعامل مع النقد – والنقد التلفزيوني هنا نموذجا لما نريد – رغم عشرات المقالات المتأنية المنصفة لن يجعله إلا تعاملا مزاجيا مع قضية تتطلب منهم التفاعل الايجابي مفرطين بذلك بدورهم هم في إغنائها وتطويرها لصالحهم. وبرأينا ان ادامة الحوار بين فنانينا وفنيي التلفزيون من جهة ونقّاد التلفزيون من جهة اخرى أمر ضروري للتفاعل بين الموقف النقدي والانجاز الفني وبينهما معا ومستوى تأثير العمل الفني في جمهوره. موقف الجمهور ليس من الممكن الجزم بحقيقة موقف الجمهور من النقد التلفزيوني لعدم توفر دراسات دقيقة تناولت هذه المسألة ( أو هذا هو الحال بالنسبة لي ) لكن من الممكن الاشارة الى العديد من حالات التفاعل بين الجمهور والنقد التلفزيوني لاسيما حين يتناول اعمالا لها اثرها في الجمهور،او تلك التي تثير ردود فعل سلبية شديدة حتى ان صحفنا تنشر العديد من التعليقات التي يكتبها القرّاء،شكوى من سوء تلك المواد او احساسا بضررها الاجتماعي او النفسي لاسيما الدرامية منها. وهذا كما نرى مؤشر واضح على حاجة الجمهور للحوار بشأن الانتاج التلفزيوني،وهو ايضا ميزة للنقد التلفزيوني تؤكد الحاجة اليه من ناحية،وتمنحه مسؤولية الوفاء لتلك الحاجة من ناحية ثانية. على ان موقف الجمهور يرتبط بثقافة القطاعات المتلقية،وعوامل تكوين ذائقتها،ولذا ليس غريبا ان نجد ردودا تتراوح بين الاختلاف التام والاتفاق التام حول الرأي الواحد مما يرتب على النقد التلفزيوني مسؤولية النجاح في مخاطبة تدرج واسع بل ومتناقض من الاذواق والأفهام ... وهي كما نعتقد مسؤولية ليست يسيره أبدا خاصة اذا كان الناقد – وهو ما يجب عليه – يريد ان يناقش العمل فنيا وفكريا لما تنطوي عليه من الحاجة الى مفردات واساليب قادرة على تلك المخاطبة،اي ان الثقافي والجماهيري مطلوبان هنا كضرورة لا يجدها النقد الأدبي مثلا بنفس الحدة. وهنا نحن إزاء تساؤل يفرض نفسه بصدد مخاطبة الجمهور وهو هل يتقاطع النقد التلفزيوني مع جمهور التلفزيون؟ ورأينا ان ذلك التقاطع أمر وارد باستمرار لاسيما في مرحلتنا الاجتماعية القائمة حيث ترتبط اذواق الجمهور بمؤثرات اجتماعية شتى وبمستويات فنية محدودة شكلت الملامح الاساسية لذوق قطاعات عريضة من الجمهور بحيث كان على العديد من الاعمال التلفزيونية التي انتجتها ظروف التحولات الاجتماعية وتوجهاتها أن تتقاطع ذاتها مع تلك الاذواق كجزء من مسؤوليات بناء وعي فني واجتماعي جديدين،ولذا فان النقد التلفزيوني الذي يحتفي بالاعمال المتقدمة على حساب الاعمال السقيمة او التقليدية لا يتقاطع مع الركود المتوارث في قياس الاعمال التلفزيونية فقط بل ويهمه نسف ذلك الركود والاسهام في بناء ذوق جديد.
غير ان حلقات "الناس والتلفزيون" التي ناقشت البرامج التلفزيونية كشفت عن استجابة جمهورنا لأبرز ومعظم تشخيصات نقدنا التلفزيوني،بل ان ما عرض في تلك الحلقات من آراء قطاع عريض تزكية لاشارات كان نقدنا – ومقالات كاتب هذه السطور بالذات – قد شخصها مبكرا جدا ( أواسط السبعينيات ونهاياتها ) كالأغاني التلفزيونية وما يفترض بها،وضعف او اهتزاز صلة الدراما العراقية بالواقع وتطوراته والقضايا الملحة فيه ! كما ان ملاحظات الجمهور تلك حين يتولى التلفزيون نفسه عرضها تعبير ايجابي عن تفاعل التلفزيون مع النقد او على الاقل مقدمة لذلك التفاعل مما يدعونا للوقوف عند هذا الموضوع.
موقف التلفزيون من النقد التلفزيوني اذا اعتبرنا مبادرة التلفزيون لعرض ملاحظات الجمهور النقدية على برامجه،مقدمة مشجعة لتفاعله مع النقد ايجابيا، فيحسن بنا ان نشير الى ملامح ايجابية اخرى يجسدها التحسن المطرد في مستوى المواد المعروضة لاسيما نسبة الاعمال الدرامية الجيدة قياسا الى العروض التي كانت تسود الشاشة قبل سنوات وكذا الافلام السينمائية والعديد من التغيرات البرامجية،كما يسجلها اشراك عدد من المثقفين والنقاد في لجان الفحص واتاحته الفرصة لعدد من الصحفيين لمتابعة أعماله الجادة. ونحن إذ نسجل تلك الايجابيات في موقف التلفزيون من النقد بارتياح كبير فان تلك الايجابيات ذاتها تسمح لنا بالاشارة الى تجاهل التلفزيون للكثير مما يلمسه النقد ويؤشره من سلبيات في تنسيق المواد المعروضة وتقاطعها مع بعضها أو في مستوى بعض مواده وبرامجه التوجيهية والترفيهية إعدادا وإخراجا. وفي الحالتين نطمح لإيجابية اكبر تسمح للنقد التلفزيوني بدور مباشر في مناقشة المواد التلفزيونية المنتجة أو المستوردة قبل عرضها سواء في عروض خاصة أو من خلال لجان الفحص والاختيار،وبدعوة النقّاد للندوات والاجتماعات المتعلقة بالبرامج التلفزيونية،وحبذا لو اشرك التلفزيون،النقّاد في دوراته التدريبية عن السيناريو والاخراج وغيرها كي يوفر للنقد معرفة تقنية بالموضوعات التي يتناولها فيجنبه مزالق الاحتكام للذوق وحده،وحبذا لو يتم تنسيق ذلك مع شركة بابل وغيرها من شركات الانتاج التلفزيوني ايضا.
من يكتب النقد التلفزيوني
اغلب ما نشر من نقد تلفزيوني كتبه هواة او متابعون يحركهم ايمانهم بأهمية المادة التلفزيونية وقدرتها على التأثير في الناس،وأهمية الحوار معهم في تلك المادة وأبعادها،وهكذا غلب ويغلب التوجه الثقافي العام على ما يكتبونه من نقد على حساب الاشارات الفنية المتخصصة،بل ان سامي السلاموني يذكر ان افضل المتابعات التلفزيونية كتبها سياسيون كبار ! أي ان المضمون يحظى باهتمام اكبر مما تحظى به الادوات الفنية، فقلما كتب المختصون بالتلفزيون او الفنانون نقدا للتلفزيون ! ولكن الغريب ان ذلك التوجه يتكرر حتى في الحالات القليلة التي كتب فيها اهل الاختصاص مع ان من المتوقع ان تجمع مقالات المختصين الى بعدها الثقافي العام،خبرة الاختصاص لتنمية القدرة على الربط بين الادوات الفنية والمضامين الاجتماعية لمختلف المواد المنقودة خاصة الدراما التلفزيونية،بل ان النقد التلفزيوني يمكن ان يغتني بإسهامات الفنانين : ممثلين او مخرجين،ناهيك عن المختصين في قسم الفنون السمعية والبصرية وطلاب الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة ،فالناقد يجب ان يكون قادرا على ان يحس أثر العمل الفني بكل ما فيه من تركيب وقوة, ولكي يفعل هذا يجب ان يكون هو نفسه رجل تركيب وقوة كما يقول الدكتور علي شلش (18). ولأن المادة التلفزيونية شديدة الاتساع،شديدة التنوع فانها تستوعب جهد العديد من المختصين بالنقد والتعليق من الموسيقى الصرفة الى الندوة المتخصصة ... ومن السينما والتمثيلية التلفزيونية الى برامج المنوعات والاغنيات والتحقيقات المصورة والمسرحيات المصورة للشاشة الصغيرة،وكل تلك الألوان الفنية موضوعات يستطيع المختصون الكتابة فيها وتأشير سبل تطويرها أو تطوير عرضها تلفزيونيا. غير ان ذلك لم يحدث بعد بل واغرب من ذلك ان هناك اكثر من طالب دراسات عليا وبعضهم أتمها في موضوع الدراما التلفزيونية وحتى في النقد التلفزيوني حصرا لكنهم لم يسهموا في النقد التلفزيوني إلا فيما ندر ! على العكس من ذلك تغتني فنون الأدب والرسم والسينما باسهامات نقدية تستثمر مستجدات العديد من مدارس النقد وتطورات علوم اللغة والاجتماع وعلم النفس وفنون التصوير،ولم يعد نادرا ان تجد من يكتب في علاقة الموسيقى والأدب او تأثير الادب في السينما او انعكاسات تشكيلية في الأدب إلا ان النادر – إن لم يكن ذلك معدوما – ان تجد من يكتب في علاقات تلك الفنون بالتلفزيون او تأثيره فيها مع ان التلفزيون يقوم عليها في تشكيل اية مادة تلفزيونية بصرف النظر عن نسب تلك الفنون في تشكيل هذه المادة او هذا البرنامج التلفزيوني او ذاك. ونرى ان اهتمام تلك الفنون او اهلها بالانتاج التلفزيوني لن يكشف عن عمق الصلة بينها وبين المادة التلفزيونية فحسب وانما سيعمق من اسهامها في تركيب الانتاج التلفزيوني من ناحية ويفتح لها من نوافذه ما يوسع صلاتها بجمهور واسع من ناحية ثانية.
توجهات أو محاور النقد التلفزيوني
ليس صعبا على أي متابع لما ينشر من نقد تلفزيوني ان يقرر بثقة بأن الدراما التلفزيونية تحظى بالإهتمام الاكبر من كل الذين كتبوا ذلك النقد،وهذا الأمر مفهوم لاكثر من سبب ... فالدراما التلفزيونية : * تستقطب جمهورا أوسع مما تستطيعه اكثر المواد التلفزيونية، ويذكر محمد الشربيني ان عدد مشاهدي التمثيلية التلفزيونية الواحدة اذا كانت محبوبة يساوي عدد مشاهدي المسرحية لو استمر عرضها اكثر من ثلاثين عاما ! (19). *تتسع للتوجهات الفكرية والاجتماعية مما يجعلها تلتقي او تختلف مع الجمهور نفسه ناهيك عن النقّاد. *تمتاز بما للحكاية من تأثير معروف على المتلقي مما يسهل وصولها اليه. *تتسع لكل او لمعظم مفردات اللغة التلفزيونية إعدادا وتصويرا واخراجا, وكذا لكل مفردات الفنون المساعدة كالمكياج والموسيقى وغيرها ... ناهيك عن فن التمثيل مما يجعل الحديث فيها ينطوي على دعوة قائمة للحديث في صميم الفن التلفزيوني. *تنطوي على جانب أدبي يجتذب بشكل خاص العديد من الأدباء والمثقفين لتسجيل ملاحظاتهم النقدية التي تؤهلهم لها ثقافتهم الأدبية او الفنية. *وعندنا،اضافة لذلك كله،فان الدراما التلفزيونية تكاد أن تكون هي الكتاب القصصي او الروائي الوحيد،بالنسبة لكثير من البيوت مما يجعل نقدها مواصلة ضرورية مع تلك البيوت باتجاه التأثير فيها ايجابيا نحو ذوق فني اكثر رفعة ونحو تنمية القدرة على الفرز والانحياز نحو الأجمل في الفكر والحياة،ومع أهمية ذلك التركيز ومشروعيته كما رأينا ... لكننا لا نرى النقد موفقا حين يقتصر او يكاد على الدراما التلفزيونية خاصة وانه يكتفي،أو يكاد،بنقد الدراما العربية(بما فيها العراقية)فقط،إذ قلما بل نادرا ما يتناول مسلسلا اجنبيا وحتى ان أثار ذلك انتباه أحد ... جاء رد الفعل اقرب للتعليق السريع منه الى النقد، نقول هذا رغم ان لنا مقالات مبكرة في نقد مسلسلات اجنبية شهيرة كمسلسل"دخان البنادق" الامريكي و"الغرف" الانكليزي ،لكن نقدنا يلتفت بين الحين والآخر،كما يفعل ناطق خلوصي،الى عدد من المواد الاخرى التي يجمعها تحت عنوان هوامش تلفزيونية وكما سبق لنا ان كتبنا عن برامج المنوعات،الاغنيات التلفزيونية، برامج الحوارات واللقاءات،وبرامج عدسة الفن،العلم للجميع،ومجلة العلوم والتكنولوجيا وغيرها،وذلك في الواقع لا يعدو كونه محاولات متواضعة لما يجب ان ينجز في ساحة النقد التلفزيوني حيث القاعدة ان كل المادة التلفزيونية هي موضوع النقد ومسؤولياته مثلما ان كل الروايات والاعمال الابداعية موضوعا للنقد الادبي وكل الافلام واللوحات موضوعا للنقد السينمي والتشكيلي،بل ان استهلاك المادة التلفزيونية في عرض واحد قلما يتكرر – وإن تكرر فبعد مدة طويلة – يوجب النقد التلفزيوني اكثر مما توجبه المواد الفنية الاخرى التي يمكن لمتلقيها ان يعود اليها اكثر من مرة, وتلك القاعدة – الحقيقة على وضوحها تنطوي على جملة من المسؤوليات والاشتراطات منها : * الحاجة لعدد كبير من النقّاد لتغطية ما يستحق النقد من تلك المادة الهائلة. * الحاجة الى التخصص في الوان او انواع معينة منها، كأن يتناول ناقد او نقّاد الدراما الاجنبية باستمرار،ويهتم غيرهم ببرامج المنوعات ويهتم آخرون ببرامج الاطفال التي ما تزال لسوء الحظ هي الاقل حظوة بالنقد رغم اهميتها وشدة خطورتها. * الاهمية الخاصة لتوسيع الناقد التلفزيوني لثقافته العامة والفنية ليكون اهل للتفاعل مع ذلك الكم الهائل الذي ارتضى ان يكون ساحة فعله،بل ان تنوع ذلك الكم وتباين اشكاله وحرفياته ووسائل تأثيره او لغته الفنية يمثل تحديا لن يقدم نفسه ناقدا تلفزيونيا يحترم دوره،واذا كانت ثقافة الناقد مسألة اساسية في كافة انواع النقد فان ثقافة الناقد التلفزيوني لا بد لها ان تستوعب خصوصيات التلفزيون وآليات وسائل الاتصال الى جانب الثقافة الأدبية والسياسية والفكرية لأن المادة التي ينقدها لن تكون – مهما كان شكلها – إلا مؤثرا فكريا اجتماعيا،ولأهمية تلك الثقافة فسنتوقف عندها ثانية ونحن نرى وسائل تطوير النقد التلفزيوني. * الحاجة لساحات كافية للنشر بما يؤمن تلك المتابعة التي لا نشك بأهميتها،فقد حدثني استاذ عاش الحياة الثقافية في فرنسا ... ان هناك صفحة اسبوعية للتلفزيون في واحدة من صحف فرنسا المهمة يتناول فيها أساتذة وفنانون مختلف انواع المادة التلفزيونية،بينما يلاحظ عندنا ان مادة النقد التلفزيوني تكاد تكون ثانوية بالنسبة لصفحاتنا الثقافية،إذ هي المعرّضة للتأجيل او الحذف عند أية مناسبة تستدعي تغييرا في مواد الصفحة وهذا وجه آخر لتجاهل النقّاد الذين تحدثوا في استفتاء" ألف باء" الذي أشرنا اليه يقرأون في الصفحات الثقافية. * كما ان الحاجة للنقد التلفزيوني النظري الذي يؤصل للتقاليد الفنية وحرفية العرض التلفزيوني تستدعي هي الاخرى دخول الأساتذة المختصين ميدان النشر ... وتستدعي وجود منبر يتسع لذلك النقد مما يجعلنا نتطلع الى مجلة متخصصة للفنون السمعية والبصرية،تفسح مجالا يغري اعدادا متزايدة من فنانينا وأساتذتنا بممارسة النقد التلفزيوني وتطويره،وهنا نشير الى ان مجلة "البحوث" الفصلية اقل كثيرا من ان تتسع لما يجب ان يقال وينشر في المادة التلفزيونية،سواء في عدد مرات صدورها او حجمها.
أسلوب النقد التلفزيوني كما أشرت،يركز نقدنا – خاصة في الدراما – على المضمون،وكثيرا ما جاءت مقالاته عرضا للقصة التي قام عليها المسلسل او التمثيلية حتى ان هناك من رآه مجرد " نبش" في الحكاية الدرامية (20) ،وفي ظني ان توسيع مساحة النشر امام النقد سيضعه امام مسؤولياته في دراسة الجوانب الفنية ايضا،وكيفية انعكاسها في تجسيد الافكار والمضامين الاجتماعية،كما ان تناول مواد اخرى غير الدراما سيجعل الحديث في فن العرض التلفزيوني امرا لا مناص منه مما يزيد من تنمية ذوق المتلقي وخبرته الفنية وهما من ابرز أهداف النقد التلفزيوني. وكما يحدث على الساحة الأدبية،تطرح قضية عرض العمل خلال نقده أم الاكتفاء بالكتابة عنه كوحدة فنية،ونسارع الى القول ان إعادة سرد العمل والتعليق السريع على محصلته العامة او على بعض منعطفاته كما في بعض المتابعات الصحفية ليس هو النقد التلفزيوني الذي نتحدث عنه وندعو النقّاد والادباء للاهتمام به وممارسته ... بل هو ذلك الفحص الشامل لفكرة العمل وطموحها النهائي وتقويمها على ضوء ما أنجزه حقيقة من خلال البناء ونسيج مفرداتها وحرفيات التعبير عن ذلك البناء كصور وتكوين مشاهد، وتقطيع وتتابع ومؤثرات وتمثيل اذا كان العمل تمثيليا،ومهم ايضا ان نقول ان اسلوبا او منهجا ثابتا ليس ممكنا في النقد التلفزيوني، لفحص كل المواد بل لا بد من اختيار المنهج الذي يبدو اكثر كفاءة من غيره لدراسة العمل موضوع النقد،فقد يكون عرضه ومناقشته او قد يكون الانطلاق من جماليات العمل لفهم أهدافه. وفي كل حال فان الوقوف عند ابرز مضامين المادة التلفزيونية وادارة النقد حولها باتخاذها كأدلة وحجج تدعم رأي النقد أو لتفتح نوافذا على فهم العمل وابعاده،ضرورة لا بد منها لا لبناء مقالة نقدية محكمة فقط وانما لإعادة المادة المنقودة الى طاولة النقاش امام الجمهور الذي شاهدها ولإشراك اولئك الذين لم يشاهدوها ... ولتكون المقالة عونا لفهم اعمال اخرى.
مهام النقد التلفزيوني وآثاره لعل اشاراتنا السابقة قد ألمحت الى هذه المهام ضمنا ولكن ذلك لا يمنع من التركيز على مهام محددة وما يتوقع لها من انعكاسات تعتمد بدورها – عمقا وسعة – على حجم ومستوى انجاز النقد لمهامه. وكمنطلق عام نرى ان الأثر الاجتماعي للتلفزيون هو القاعدة العريضة التي ترتب المهام التفصيلية للنقد التلفزيوني ملخصة فيما يلي : *توسيع سبل التفاعل بين الجمهور المتلقي والمادة التلفزيونية،فالنقد التلفزيوني بهذا المعنى يعيد الانتاج او العرض الذي يتناوله الى مائدة النقاش متيحا له فرصة اضافية للتأثير بطريقة اخرى لاسيما اذا نجح في تشخيص مفاتيح العمل الذي تناوله او جوهر مكوناته وأبعاده،او قد يحد من بعض تأثيراته اذا كان النقد يتقاطع معها،وفي هذا خدمة للتلفزيون بتوسيع وتعميق عملية التلقي وللجمهور بفتح نوافذ أوسع لتلقي المادة المعروضة والاستفادة منها والاستمتاع بها او محاورتها. *المثابرة على متابعة اكثر ما يُستطاع من المادة التلفزيونية لأن المتابعة النقدية المستمرة لها تحفز على البحث المستمر في سبل فعالة لتطوير الانتاج وشحذ عوامل الابتكار فيه كلما كان النقد عميقا رحب الآفاق،وتساعد على تجاوز نقاط الضعف في الانتاج شكلا او مضمونا،وبقدر ما تتعدد زوايا الرؤية وتشمل اكثر المواد المعروضة يصبح ذلك التجاوز سمة كل المواد المنتجة. * الاحتفاء بالاعمال المتميزة بما يوازي ما تستحقه لأنها فرصة النقد لتأكيد جملة مفاهيم ثقافية وفنية، فهي فرصة النقد ووسيلته مثلا لـتأكيد العلاقة الحميمة بين جماليات الفن وتقدم الفكر،ففي "الذئب" و "النسر وعيون المدينة" مثلا كنا نتابع نضج الشخصية الانسانية وامتلائها بعافية روحية وبايولوجية كلما تحررت من الخوف وكلما امتلكت الوعي بقيمتها وحقوقها البشرية كما حصل لرحومي ورجب ومرزوق، وفي "الشهد والدموع" كانت تتأكد وتتصاعد حقيقة التفاعل الحتمي بين الخاص والعام في إنضاج الوعي الانساني وتأكيد او نفي حرية الفرد،وفي "الراية البيضا" تبدو تلك الصلة على أشدها. * الاحتفاء بفنانينا،وذلك حقهم الأكيد،وتكثيف حضورهم في وجدان جمهورهم، وبذلك نوسع من دائرة تأثيرهم فيه. * زيادة خبرة النقد نفسه بالنظر لما تقدمه هذه الاعمال من ابتكارات او اضافات توجب على النقد ان يضيفها الى معاييره ومفردات منهجه في التعامل مع المواد المعروضة. *وخلال ذلك يسعى النقد لتطويق ما قد يكون لبعض الاعمال من آثار سلبية على ذوق المتلقي او على ما نريده له من روح ايجابية متفتحة على آفاق المسؤولية الاجتماعية، هنا قد يتقاطع النقد والجمهور،فليس خافيا ان قطاعات عريضة من الجمهور كونتها عوامل شتى بما فيها من تقاليد ومفاهيم خاطئة وربما متخلفة تتعلق بالفن ورسالته ومعايير الحكم عليه،وبالترفيه او التسلية ... الخ،وعندها لن يستطيع النقد التلفزيوني ان يدعي نهوضا بمسؤولياته إن لم يحسم الأمر بمواجهة جمهور تلك العوامل ونقد تلك( القناعات) والدعوة لتجاوزها ... خاصة وان هناك من يرى ان ليس من حق الناقد تحدي الجمهور في ذوقه !! نعم ... فقد تساءلت فتاة جامعية في رسالة ترد فيها على مقالة لي عما اذا كنت قد اخذت رأي الجمهور فيما كتبت عن تمثيلية "التلفون" في العدد 301 من مجلة فنون (21)،وعلى ذلك، ليس للنقد التلفزيوني ان يقبل او يبرر انتاج اعمال عادية حتى لو تذرع منتجوها باتساع جمهور تلك الاعمال كما حدث مع مسلسل "غاوي مشاكل" مثلا واعمال اخرى مشابهة، لأنه ( أي النقد ) يرى ان مهام التلفزيون الأساسية تغيير اذواق الجمهور نحو الأرقى وبناء صلته عضويا مع الأعمال الفنية المتقدمة وتلك دائما طريق تعاونه مع النقد وتفاعلهما لانجاز تلك المهمة بمختلف الاشكال ووسائل التعبير البرامجية،إن استفتاءات الجمهور يجب ان تكون،كما نعتقد، للتلفزيون مثلما هي للنقد ليست اكثر من مؤشرات على اتجاهات تجاوز الذوق السائد نحو الأرقى لأن هيكل الذوق السائد حصيلة واقع اجتماعي غير الواقع الذي نطمح اليه. فيما سبق،استعرضنا ابرز ما يصح تسميته مهام رد الفعل النقدي، إذ هي استجابة لما يقدمه التلفزيون،لكن تلك المهام لا تمنع النقد التلفزيوني من المبادرة الى مشروعات او الى الدعوة الى صيغ وافكار اخرى كبرامج او اساليب عرض لكي يؤسس لنفسه دورا استشاريا يمكنه ان يغتني وان يتعمق تبعا لتعدد وجهات النظر المطروحة في الساحة النقدية،وتبعا لنضج المبادرة وروافدها الفنية والثقافية مما يعيدنا الى الحاجة لمزيد من النقّاد ... لمزيد من الخبرة المتخصصة ... ولمزيد من الثقافة العامة للناقد والفنان،ان مبادرات النقد بمثل تلك الاتجاهات تعزيز لعلاقته الفعالة مع التلفزيون وتعزيز لعلاقته بجمهوره وبالوسط الفني والوسط الثقافي عموما وكل ذلك خدمة لعملية الانتاج الفني ونضج الاستجابة له،ومثلما افرز التطور الثقافي العام وتزايد سبل الاتصال الثقافي مدارس ومناهج شتى في النقد الأدبي،والفني حتى اصبح للعمارة نفسها نقّادها ودارسيها،فان كثافة حضور المادة التلفزيونية وسعة انتشارها لا بد ان يفرضان تفاعلا مع ذلك التطور الثقافي باتجاه بلورة رؤية نقدية اكثر عمقا وشمولا بالاستفادة من مستجدات مدارس النقد ومداخله الحديثة،ولعل حضور النقد التلفزيوني في هذا الملتقى الأدبي احدى وجوه ما نعنيه من اساليب جديدة لإدامة وتوثيق الصلة بين المادة التلفزيونية وعموم الحركة الثقافية.
رابعا ... وسائل تطوير النقد التلفزيوني كأية فعالية ثقافية،لا يمكن للنقد التلفزيوني ان ينهض بمهامه التي أشرنا اليها دون أن ينال قسطا من التطور يعينه على الوفاء للمسؤولية وتطور النقد التلفزيوني في الحقيقة ليس إلا عملية تطوير منتظم تتقاسمه عوامل موضوعية واخرى ذاتية،ولعل العوامل الاولى من الأهمية بحيث لا تنجز قسطها من التطوير فحسب وانما تتجاوزه لتمكن العوامل الثانية من العمل كما سنرى فيما يلي : ... موضوعيا *تطوير الموقف من النقد التلفزيوني لعلكم معي،وقد أشرنا الى سلبية أو فتور الموقف من النقد التلفزيوني في الوسط الثقافي في كونها من مثبطاته المهمة،ولعل تلك السلبية احدى اهم الأسباب التي اعاقت أو تعيق العديد من فنانينا وأساتذتنا عن ولوج هذا الميدان،اضافة الى الأسباب المتعلقة بعدم تبلور حركة نقدية موازية لحداثة الانتاج التلفزيوني بالمقارنة مع الفنون الاخرى التي افرزت نقدها،وحين ندعو لتجاوز ذلك الموقف بالتخلي عن اوهام التعالي على المادة التلفزيونية،فانما ننطلق من حقيقة شديدة الوضوح لخصناها بالقول ان التلفزيون اليوم يكاد يكون كتاب العائلة الوحيد بالنسبة لآلاف البيوت وليس مبررا ولا معقولا أصلا ان يبقى ذلك الكتاب مفتوحا بهذا الاستمرار وناميا بهذه المثابرة وجمهوره يتسع بتلك المعدلات المتصاعدة دون رؤية اخرى او دون عملية نقد،حقا اننا لا نجد قواعدا محددة لنقد هذه الوسيلة الفنية،الثقافية،الاعلامية الترفيهية لكننا لا نرى ذلك إلا مزيدا من الحاجة لبناء تلك القواعد دونما تفريط بمستوى المادة النقدية ( وقد اتفق عشرون من كتّاب ومخرجي هذا الفن في حلقة للنقاش حوله على ان اساس العملية الفنية هو الصدق،وهذا الصدق يمكن تحديده بوضوح ولكنك ستخرج بنتيجة واحدة هي امكانية تطور هذا الفن بغير حدود(22)، فلنتجاوز ذلك الموقف الفاتر ليتقدم نقدنا التلفزيوني بثقة اكبر نحو مهامه،وأرى ان موقف التلفزيون وموقف الفنانين منه يكتسبان اهمية استثنائية :فبالنسبة للأول نرى من الضروري ادامة الحوار مع النقد بكل السبل،وبكل مناسبة بالتكليف او الاستشارة،وبالأخذ بالآراء النقدية العملية وبتطوير الانتاج بالاستفادة من عوامله المتاحة وذاك الحوار احدها بالتأكيد،كما ان تنظيم عروض خاصة للانتاج المعد للعرض ومناقشته بحضور النقّاد والفنانين امر يخدم ذلك في الصميم،اما بالنسبة ... للفنانين ... فباستطاعتهم وهم يحاورون النقد بالاعتراض او التعقيب،ان يضيئوا كثيرا مما قد يغفله النقد او يخطيء في تقويمه،وباستطاعتهم ايضا ان يجدوا في النقد مرآة تعكس لهم رد الرسالة التي أوصلوها لجمهورهم،وان يجدوا فيه الوسيلة المثابرة لتعميق حضورهم،ونرى ان دخول نقّاد جدد وأساتذة معروفين،هذا الميدان سيحفز على المزيد من الحوار بين الفنانين ونقّادهم لبناء وتطوير لغة نقدية راقية. * اقلام نقدية جديدة كما رأينا،تنتظر ساحة النقد المزيد من اسهامات اولئك الذين يشعرون بأهمية المادة التلفزيونية ودورها،وتحتاج بشكل خاص خبرة فنية تدعوا الفنانين واساتذة الدراما والسيناريو والموسيقى وغيرهم للكتابة في شؤون التلفزيون وشجونه بما يؤمن متابعة مثمرة لأغلب او على الاقل لأهم مفردات المادة التلفزيونية ولكي تجد المادة النقدية نفسها حوارها الداخلي،على ان الأمل المنوط بذلك التعدد لن يثمر إلا حين يمارس النقّاد فحصا مستمرا للمادة النقدية المنشورة كي يتجنبوا التكرار ويضمنوا التنوع وينطلقوا الى الإضافة لا إلى الامتداد. * تطوير المادة التلفزيونية لن يضمن للنقد التلفزيوني ان يتطور بوتيرة عميقة كالتي يضمنها تطور او تطوير المادة المعروضة،بل ان ارتفاع مستوى الانتاج او المعروض التلفزيوني لن يؤثر ايجابيا على النقد التلفزيوني وحده وانما يمتد أثره الى كل النقد الفني ناهيك عن الحركة الفنية عموما وذلك لإعتماد المادة التلفزيونية على كل الفنون،وهكذا نرى في تطوير مستوى المواد المعروضة : 1 إغناء للنقد بخبرات ابداعية جديدة. 2دعوة للتحاور على صعيد مواد اكثر تنوعا وغنى. 3اجتذابا للمزيد من الاقلام, متنوعة الاهتمام متنوعة الاختصاص. 4حضورا اكبر في الوسط الثقافي حيث يسود احساس بتناقض المادة التلفزيونية والجدية اللازمة للنمو الثقافي. وكل اولئك عوامل تفاعل مع الواقع الثقافي،تحفز بدورها على دخول الانجازات الثقافية ميدان الانتاج التلفزيوني ونقده،اما ملامح ذلك التطوير فهي وحدها موضوعا قائما بذاته لكنه في كل حال لن يخرج عن دائرة تعميق الصلة بين المادة التلفزيونية والانجاز الثقافي في كل مفرداته،فكلما سرت في اوصال المادة التلفزيونية روح الفن وجدية الثقافة استطاعت اجتذاب المزيد من الجمهور والمزيد من تفاعل الوسط الثقافي،وكما ان تطور الابداع الأدبي يسهم في تطوير النقد الأدبي وكما تحفز الانجازات التشكيلية وانجازات العمارة والسينما على تجديد وإغناء نقدها ستفعل الابداعات التلفزيونية على ساحة نقدها. * منابر النشر من البديهي وقد أشرنا الى تلك المهام ان يكون النقد التلفزيوني بحاجة ماسة لمساحة أوسع مما يتاح له حاليا وبدون ذلك لا يستطيع احد وليس من حقه ان يطالبه بغير ما يقدمه الآن،ففي المساحة المتاحة الآن،وبالحيز الزمني المتاح ليس امام الناقد إلا الكتابة بحيز محدود عن عمل واحد اسبوعيا أو خلال اكثر من ذلك تبعا لمواد الجريدة !! واذا كانت جريدة عريقة كجريدة "الجمهورية" تخصص صفحات اسبوعية للمسرح والتشكيل والسينما فما احوجنا ان تبادر بتخصيص صفحة للتلفزيون اضافة الى ما تسمح به الصفحة الثقافية اليومية،ولو تكرر هذا في اكثر من جريدة فلا شك ان المساحة ستكون اكثر تشجيعا على تناول مواد اكثر عددا واكثر تنوعا،كما ان صدور مجلة للفنون السمعية والبصرية سيزيد من تلك المساحة ويستدعي ويشجع – وهذا مهم جدا – على المزيد من النقد النظري والدراسات الاساسية في مختلف جوانب المادة التلفزيونية كالدراسات التي نشرها عبد الكريم السوداني في مجلة "الثقافة" (23). * التأليف في فن التلفزيون للكتابة في فن التلفزيون والترجمة فيه دور أساسي في تحفيز النظر اليه نظرة متفحصة،خاصة اذا اتقنت تلك المؤلفات الربط بين النظرية والتطبيق،ومثلما قام التأليف في فن السينما والدراما على جهود أعلامه البارزين يمكن ان يبادر أعلام الفن التلفزيوني للتأليف فيه تنظيرا وتطبيقا وترجمة،وفي هذا المجال يمكن ان تكون الدراسات الاكاديمية المنجزة في كلية الفنون الجميلة وابحاث مركز بحوث المشاهدين والمستمعين قاعدة جيدة لتطوير التأليف اذا أمكن نشرها بشكل واسع. * نادي التلفزيون افرز الاهتمام بالسينما،والسينما المتطورة بالذات،فكرة تأسيس نوادي السينما التي ترسخت فراحت تصدر مجلات متخصصة،ونرى ان من الممكن بل والمطلوب تأسيس نواد للتلفزيون خاصة وان ظهور وانتشار ( الفيديو كاسيت ) قد جعل التلفزيون خارج مواعيده ونظم البث المحددة،ونعتقد ان تأسيس ناد للتلفزيون يحتفي بأفضل ابداعات هذا الميدان ويناقشها ويعيد عرضها ويفتح نوافذ على الانتاج العالمي والعربي سيقود الى مثل ما قادت اليه نوادي السينما مع توقع ان نادي التلفزيون سيكون اكثر صلة بالجمهور لأن محوره اكثر صلة بهم بالاساس.
ذاتيا ثقافة الناقد أولا ... وثقافته آخرا: نعم فذلك تستدعيه سعة المادة التلفزيونية وتنوع صلاتها بالمجتمع تربويا،ترفيهيا واعلاميا ان يتوفر الناقد التلفزيوني على ثقافة تمكنه من التعامل مع كل تلك الابعاد وكشف جوانب التأثير فيها وسبل زيادة فعاليتها بالاستناد الى حرفيات الانتاج التلفزيوني التي لا بد ان تكون من أساسيات ثقافة الناقد،فبتلك الموازنة يمكن تقديم رؤية نقدية متوازنة لا تعني بجانب على حساب الآخر إذ ان اللغة الفنية ليست إلا وسيلة لتقديم مضمون،فكما ان تقدمها الفني أمر مطلوب،لا بد لنا ان نوازيه بتقدم مضمونها،وبتلك الرؤية يستطيع الناقد أن : 1يحسن اختيار زاوية التناول. 2يكتشف مفتاح العمل وأبعاده. 3يبلور منهجا يميزه. على ان ما يجب ان يكون مشروعا دائما لأي ناقد هو التوفر على فن المقالة وتطوير لغة كتابة فعالة تجمع بين الإحاطة بالمادة المنقودة وحرفياتها وبين جمال التعبير وقوة المحبة والاقناع،ويدون مقال جميل سلس متزن منتظم اللغة لن يكون النقد إلا تهميشا لا ينجح في اجتذاب أحد أو اقناعه برأي،ولنتذكر جميعا اننا ونحن نكتب النقد التلفزيوني فانما : 1نخاطب جمهورا عريضا متفاوت المستوى مختلف الاهتمامات. 2وانه يبحث عن رأي محدد يستند الى حيثيات. 3وان العمل المنقود حصيلة جهود بشرية كبيرة تجعل من إهدارها باحكام سريعة او متسرعة مسؤولية ليست يسيرة أبدا. 4وان احكاما نقدية دقيقة تُرفض وتُقبل بعد ان تُقارن وتُناقش هي الطريق لإيفاء المسؤولية النقدية حقها،وليس العرض او وصف العمل ( المنقود )،وان كان لا بد من وصفه او استعراضه فلكي نعزز احكامنا النقدية بالرفض او القبول وبذا يكون العمل النقدي نظرية وتطبيقا.
**********
تلك كما نرى مداخل للنظر في النقد التلفزيوني وتطويره إسهاما في الانتاج التلفزيوني نفسه وتوثيق صلته بجمهوره وتعميق أثره الطيب فيه وهي مداخل تشير بوضوح الى صلة عضوية للنقد التلفزيوني بالممارسة النقدية عامة ولا يمكن ان نأمل بتطويره دون رسوخ الممارسات النقدية في الأدب والفن لأن النقد التلفزيوني يضم انجازاتها الى خصوصيته. على ان اكثر ما يمد النقد التلفزيوني بالقوة هو احترام المادة التلفزيونية لعقل المشاهد وبالتالي دعوته لمناقشتها والبحث في جمالياتها عن أسرارها السحرية وهذا شأن الاعمال الابداعية الكبيرة في كل ميادين الابداع. ولو عدنا الى تلك المداخل لرأينا فيها موضوعات ومهام مطروحة في عموم ساحة النقد موضوعيا وذاتيا مما يخلص بنا الى تأكيد صلة النقد التلفزيوني عضويا بالمشهد النقدي العام مع كل ماله من خصوصية, ولعل مناقشاتكم ستفتح للموضوع مداخل اخرى وتنير زواياه بأضواء اكثر سطوعا.
الهوامش والمصادر (1) بورتيسكي، ر.م و يوروفسكي، م.- الصحافة التلفزيونية، ترجمة ابتسام عباس علوان،وزارة الثقافة والفنون / بغداد 1978 ص 12. (2) أوستن راني – قنوات السلطة أو تأثير التلفزيون في السياسة الامريكية،ترجمة – موسى جعفر / وزارة الاعلام – دار الشؤون الثقافية،سلسلة المائة كتاب – بغداد 1986، وانظر مقالنا عنه في مجلة "آفاق عربية"العدد 5 – مايس 1987 ص 166-167 وقد ظهر ناقصا. (3) بورتيسكي ويوروفسكي – مصدر سابق ص 9. (4) المصدر نفسه ص 27-28. (5) مظفر مندوب – التلفزيون ودوره التربوي في حياة الطفل العراقي،وزارة الثقافة والاعلام – بغداد / 1983 ص 12. (6) بورتيسكي ويوروفسكي – مصدر سابق ص 28. (7) مظفر مندوب – مصدر سابق ص 9-10. (8) مظفر مندوب – مصدر سابق ص 9-10. (9) بورتيسكي ويوروفسكي – مصدر سابق ص 30. (10) محمد الشربيني / الدراما التلفزيونية في مصر – مجلة "القاهرة" العدد 90 – 15/12/1988 ص 92-98. (11) قاسم عبد الأمير عجام – النقد التلفزيوني، صوت بلا صدى أم ماذا؟ جريدة "الثورة" ملحق المربد السابع 26/11/1986. (12) المصدر اعلاه. (13) اضافة للمصدر (5) .. انظر : قاسم حسين صالح – التلفزيون والاطفال – سلسلة مكتبتنا،دار ثقافة الطفل – بغداد 1981. (14) مارتن اسلن – تشريح الدراما، ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت،ط2 مكتبة النهضة – بغداد /1984 ص86. (15) آرثر سوينسن – التأليف للتلفزيون – ترجمة اسماعيل رسلان – الدار المصرية للتأليف والترجمة – القاهرة 1966 ص 20-21. (16) محمد الشربيني – مصدر سابق ص93. (17) د. علي شلش – تعريف النقد السينمائي – المكتبة الثقافية عدد 258 – الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ص60. (18) محمد الشربيني – مصدر سابق ص93. (19) نازك الاعرجي – نبش الدراما – جريدة "الجمهورية" 24/10/1987. (20) فتاة جامعية مجلة "فنون" – العدد 304 تشرين اول 1986- وردِّي عليها في العدد 307. (21) محمد الشربيني – مصدر سابق. (22) عبد الكريم حسين السوداني – أزمة الدراما التلفزيونية – مجلة "الثقافة" العدد 1 السنة 1987 واعداد اخرى تناول فيها موضوعات تلفزيونية اخرى.
* هذه ورقة بحث شارك فيها قاسم عبد الامير عجام في "ملتقى السياب الأدبي الثاني" المخصص لموضوع (الأدب والسينمــا) اوائل العام 1990. والبحث بعنوان "خصوصية النقد التلفزيوني في المشهد النقدي العام " كمساهمة في محور (وسائل الاتصال والتلقي بين الادب والسينما والشاشة الصغيرة – تأثير الشاشة الصغيرة العلمي والاجتماعي والحضاري).
|