نحو تأسيس ثقافة وطنية ديمقراطية بجماليات ادبية جديدة
في بلد كالعراق حيث كان للكلمة والفكر والعمل الثقافي أبلغ الأثر في تكوين الوجدان العام لشعبه الى جانب المؤثرات الروحانية،تبقى للمنابر الثقافية مساحة مفتوحة للتأثير تبعا لفعالية هذا المنبر أو ذاك وعمق خطابه وعقلانيته. وإذ تدهور الخطاب الثقافي تحت مؤثرات وهيمنة السلطة الفاشية الى مستوى الدعاية المتملقة لسلطة الحاكم المستبد فإن منبرا للثقافة التي تنشغل بقضايا العقل والمعرفة وقضايا الانسان الكبيرة،أصبح حاجة حقيقية بل وأصبح حلما حين بلغ انحطاط الخطاب المدائحي المنافق مستوياته القصوى من عنف المصادرة. وعلى ذلك فإن صدور مطبوع متخصص بالشأن الثقافي كأسبوعية"الأديب"يمتلك كامل المشروعية وإستجابة لضرورة طرحتها تلك المصادرة والحرب اليومية على الثقافة والانسان،ولأن الساحة الثقافية في العراق حافلة بالعديد من التيارات الفكرية وألوان الخطاب الثقافي شكلا ومضمونا،فانها تستدعي منابر شتّى وتتسع لها وهو ما يعزز ضرورة "الاديب". وأقول المنابر .. لأنني لا أرى للمطبوع الثقافي دورا إن لم يتوجه الى قضية يحملها ويبث خطابها وينشر مفرداتها حتى تكون تيارا أو عامل تأثير ! ولا يهم ان تكون قضيته فنية او سياسية أو محض مفهوم ثقافي .. طالما كان يتوسل بالوسائل الثقافية. واستراتيجية جريدة "الاديب" المعلنة في مقال رئيس تحريرها الاستاذ عباس عبد جاسم بعددها الاول 17/12/2003 تؤكد ضرورة اصدارها،وسنفسح لها بالتعمق في حياتنا الثقافية كلما ابدعت في خدمة مبادئها التي اعلنتها سياسة لها .. "احترام حقوق الكاتب،حق الاختلاف،حوار الثقافات،حرية التعبيروحرية المعتقد" فتلك مباديء سياسة ثقافية يجتمع حولها المثقفون الذين يخلصون لأخلاقيات الثقافة ورسالتها. وستتأكد تلك الضرورة لصدور"الاديب"ومثيلاتها أو ما اختلف معها من مطبوعات ثقافية بقدر تفاعل المثقفين معها وترجمة طموحها لخدمة تلك المباديء. وإذ نطمح جميعا مع "الاديب"لما اعتبرته تأسيسا "لثقافة وطنية ديمقراطية بجماليات ادبية جديدة"وإذ يمتد الطموح الى اعمق ما في وجدان المثقف الذي تحمّل عسف الفاشية، فلابد ان تتفاعل الجريدة ،التي تخدم ذلك الطموح، معه بإحتضان كل مفردات العمل الثقافي وهو ما رأيناه مبثوثا عبر الاعداد التي أتيح لي الاطلاع عليها من أعداد "الاديب "الغرّاء بدرجات متفاوتة ماضية في الطريق الذي رسمته لنفسها والذي سيتسع كما نرى ويجتذب سائرين جدد. غير أني وانا اتحدث عن ضرورة صدور جريدة للثقافة كالأديب،لا أكاد استوعب ما اراه حساسية غير معلنة تسري بين سطور استراتيجيتها أو خلال دعوتها الكريمة للمساهمة في عددها الاحتفالي هذا وهو ما تشير اليه بالاستقلالية فيما يشبه مواجهة الاتهام بالانتماء ! فـ"الأديب" .. جريدة اسبوعية تعنى بشؤون الثقافة والفنون المعاصرة .. حسنا ومرحبا،فهي إذن وهذا ما تعلنه حضن مفتوح لمفردات تلك الشؤون بل هي منتمية لها بالضرورة،وعليه فهل ستدير ظهرها لفن ينتمي لقضية،أو فكر سياسي يدعو لإعلاء شأن الانسان ما داما يتوسلان بلغة الثقافة وبلغتها ينطقان؟ لا أحسبها تفعل وإلا لأخلّت بثوابتها !.. اما إن كان الاستقلال الذي تعلنه هو التحرر من هيمنة الرأي الاوحد أو التوجيه المسبق فنحن معها،إذ لم تطأ القدم الأميركية الثقيلة تراب العراق إلا بسبب كوارث هيمنة الرأي الواحد ودمويته.
***
ولكن هل اختلفت"الاديب"عن"الخطابات الثقافية في الصحافة العراقية والعربية بخطابها أو ما تطمح ان تؤسس له؟ من المبكر ان نجيب عن هذا التساؤل استنادا لما صدر من اعدادها الاثني عشر، فليست المغايرة مجرد إعلان أو طموح تكرر اعلانه في كل عدد بهذا الاسلوب أو ذاك .. وليس الاختلاف مجرد التخصص بالشأن الثقافي .. حتى وان ميزها هذا التخصص عراقيا .. فثمة على الصعيد العربي مطبوعات تتخصص بالثقافة وشؤونها وحتى اسبوعيا،غير اننا نتفاءل بأن تكون لها شخصيتها التي تنضجها الممارسة المتفاعلة مع الآخر المحلي والعربي والعالمي .. وبدون ذلك التفاعل واستخلاص ثمراته باستمرار وإضافته لتفاعل جديد هو الذي سيكشف عما تختلف به عن غيرها. اما ان "الاديب"تختلف عن الصفحات الثقافية في صحفنا فنعم ولابد لها ان تختلف وإلا فلماذا هي جريدة متخصصة بالثقافة والفنون .. ومن هنا سعة الدراسات المنشورة فيها، غير انها لم تذهب بعيدا نحو "تأسيس ثقافة وطنية ديمقراطية بجماليات ادبية جديدة "كما وضعته لنفسها بل وأزعم أنها لم تبدأه بعد، اذا اعتبرنا مع سيد عويس،عالم الاجتماع المعروف،ان الثقافة لابد أن تكون مغيرة والمثقف لابد ان يكون ناقدا مغيرا لمحيطه. إذ لم تمنح "الاديب"امراض الحياة الثقافية بعد عقود من الاستبداد والقمع الاجتماعي الشامل ما يجب ان تمنح من اهتمام،بل انها نشرت وما تزال تهتم بذات الموضوعات التي كانت تنشرها صحافة الحكم المنهار المهتمة بالثقافة التي كانت تهدف الى تحييد المثقف وحصيلته. رغم انها نشرت دراسات، قليلة العدد، لم يكن ممكنا نشرها لأنها تتناول أعمالا كان القمع موضوعا لها .. ولكن حجم الخراب الذي تركته الفاشية يستدعي تمحيصا دقيقا يشمل كل مفردات ذلك الخراب والتقليب في آثارها وعواملها وتفاعلاتها مع كل مفردات الحقبة الدموية،وإذ ينشغل أي منبر ثقافي بتلك المفردات عرضا ونقدا واقتراحا للبدائل فانه يمارس عملا ثقافيا من طراز رفيع إذ سيستدعي اكثر من تخصص معرفي لدراسة الاشكاليات وليس الأدب وقضاياه كما هو السائد الآن في ما صدر من اعداد "الأديب" .. لقد اسهمت مؤسسات البحث العلمي او مراكزه في عسكرة مجتمعنا بدلا من توفير الصحة والغذاء الوفير ،ونحت الدراسات التاريخية المسموح بها منحى عنصريا شوفينيا في انتهاك سافر لأخلاقيات البحث العلمي التطبيقي أو التاريخي،فأين مسؤولية المثقف وأين الحصيلة الثقافية التي تثري الحياة في تلك الدراسات والابحاث؟ إن اثارة هذه القضية وحدها،كمثال،سيستدعي مشاركة متخصصين في فروع معرفية عديدة تثري الحوار الثقافي وتحفز تبادل الرؤى وتعدد البدائل. اقول ان الخوض في صراعات الواقع من منظور معرفي يتسع لآليات جمالية ابداعية وآليات درس وحوار،هو الطريق الذي نراه مُفضيا للمغايرة والاختلاف عما تكرره المنابر الادبية التي تدعي انها ثقافية ! لقد كنت اتمنى على "الاديب" وما زلت اتمناه عليها ان تبدأ اختلافها بالخروج على إدعاء الثقافة تحت عباءة الأدب والفن واخبارهما ونظرياتهما .. فالثقافة ليس ذلك فقط وانما هي ذلك والتاريخ ومستجدات العلوم وآثارها الاجتماعية والاقتصاد والجغرافيا والسياسة والديانات والمأثور الاجتماعي .. غير أن "الاديب"تطوق نفسها بمخاوف تداخل السياسي والثقافي ،وهي مخاوف لا تستند الى اساس متين بل ان الثقافي المغير الاصيل يمارس فعلا سياسيا اجتماعيا وإن لم يعلن ذلك أو يستهدفه مثلما يمارس السياسي أثره الثقافي دائما أعلن ذلك ام لم يعلنه .. غير ان ذلك موضوعا آخر........
ناحية المشروع 20 / 2 / 2004 *المقالة تبدو وكأنها مساهمة في استبيان لجريدة"الاديب" الثقافية الاسبوعية حول دلالات صدورها وحاجة الحياة الثقافية العراقية اليها. المقالة مستلة من مجموعة كتابات في واحد من دفاتر قاسم عبد الامير عجام ويتضمن مسودات ومقالات بخط اليد.
|