ما اكثر ما حدثني والدي عن الملك غازي وروحه الوطنية وما اكثر حماسته وهو يحدثني عن تطلعاته على الرغم من انه كان – رحمه الله – يرتعش كرها للنظام الملكي وباشواته وبكواته ! وحتى حين قامت ثورة 14 تموز المجيدة لم يجد حرجا في الجمع بين فرحه الشديد بإسقاط النظام الملكي ورموزه ومؤسساته وبين احتفاظه بصورة كبيرة للملك غازي على الرغم من انه انزلها من مكانها ! ولم يكن والدي إلا كاسبا اميا لكنه في موقفه ذاك كان يعبر عن رؤية قطاع واسع من العراقيين لموقع الملك غازي واحترامهم لتطلعاته ومحاولاته لتجاوز رموز النظام الملكي وعلاقاته وارتباطاته ببريطانيا بالذات ولذا فانهم اتهموا ومازالوا يتهمون الانكليز واتباعهم باغتيال ذلك الملك ولم يهضموا حادث اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء. وحين كبرنا لم تختلف بنا الوثائق التاريخية والكتابات السياسية عن تلك الرؤية جوهريا وان اضافت لها التفاصيل والوقائع، بل ومضت الدراسات الحديثة باتجاه الكشف عن الادلة التي تقطع الشك باليقين عن مسؤولية بريطانيا ورجالها في النظام الملكي العراقي في اغتيال غازي الاول مع وضوح القرائن التي تشير الى استفادتها المباشرة من رحيل الملك وطي صفحة مشاريعه في تقوية الجيش العراقي، والمطالبة بالكويت، ودعم القضية الفلسطينية واستقلال الاقطار العربية. على تلك الرؤية السائدة لدى العراقيين والوقائع التاريخية التي كشف عنها حتى الآن، قامت المعالجة الدرامية لشريط "الملك غازي" الذي انتجته دائرة السينما والمسرح باخراج محمد شكري جميل وسيناريو وحوار معاذ يوسف، لكن رؤية الشريط تميل او تقترب جدا من القطع بقتل الملك تدبيرا : بريطاني الاشارة سعيدي ( نسبة الى نوري السعيد ) التحريض، اميري الموافقة بعد ان وعد الامير عبد الاله بأن يكون البديل، وبذلك ينتقم من حالة الاهمال والعزل التي كان الملك قد وضعه فيها عقابا لسوء تصرفه وتنكره لاخلاقيات الاسرة الهاشمية المالكة. وبرغم ما في تلك الاحداث من عناصر الصراع إلا ان من يشاهد الشريط سيفاجأ بافتقاده البناء الدرامي الذي يستوعب تلك العناصر إذ لم يقم على خط متصاعد بل كان أقرب ما يكون الى نثر لعدة مشاهد عن وقائع سياسية او شخصية في حياة الملك لتنمو الصورة النهائية وتتكون موحية بذلك الميل الذي اشرنا اليه، فالوقائع السياسية التي تفجر الصراع بين الوزارة والقصر الملكي لم تتضح كامتداد في الحياة السياسية والاجتماعية للشعب او المجتمع العراقي بل كانت اقرب الى تآمر خفي يعده نوري السعيد رئيس الوزارة القائمة آنذاك استفزازا لبريطانيا وجهلا بمصالح الشعب والدولة العراقيين، وكان يطل على الاحداث من خلال حوارات رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي رشيد عالي الكيلاني ثم بينه وبين الملك نفسه اكثر مما كان فعلا واضح الاتجاه والشعارات. فاذا تأملنا ضعف بناء شخصية رئيس الديوان وارتباك حواره في معظمه زاد الاحساس بالجو التآمري اكثر مما يفترض انه الصراع السياسي الدائر حول التصدي لبريطانيا ومصالحها ( كتلة الملك والضباط ورئيس الديوان ) او التنسيق معها لعدم القدرة على مواجهتها ( رئيس الوزراء .. ) كما ان اختزال وجود الضباط وحركتهم الى مجرد التركيز على حضور فهمي سعيد ( جواد الشكرجي ) ولقاءاته المتكررة بالملك أسهم في تحجيم الصراع الى اضيق الحدود وغلب الكلام على الفعل.
دراما أقل..
وبدلا من حشد العناصر الدرامية القائمة في تلك التناقضات ومتابعة الناس لها، اسقط السيناريو مفردات وحماسة مراحل متأخرة من تاريخنا على لغة الملك فبدت لغته الشعارات متمردة لا فرق بينها وهي تعليقات يذيعها من اذاعة قصر الزهور وبينها وهي حوار ديبلوماسي مع سفير بريطانيا او رئيس وزراء المملكة العراقية .. بل وبدت حماستها اقرب الى المغامرة التي تفتقر الى اليقظة والحنكة. وبصرف النظر عن دقة تلك المفردات تاريخيا، فانها بقيت تفتقر لما يوازيها من حركة الملك، إذ بدت شخصيته باردة كتصرف او كلهجة، وكان تصديه للسفارة البريطانية ووزارة نوري السعيد وسخريته من اغلبيتها النيابية، قفزا في الفراغ اكثر مما هي مفردات مشروع له مؤيدوه او معارضوه في الحياة السياسية. ثم جاءت الانتقالات الى الوقائع الشخصية في حياة الملك وما رأيناه وسمعناه فيها من جو بروتوكولي محنط ومفردات لاندري مدى انسجامها مع الجو الاسري لتكرس تلك الملامح الباردة او الهشة لشخصية الملك مما ابقى الصراع في دائرة الحماسة اللفظية التي لا توازيها احداث وشخصيات متوهجة. ومما ساعد في ذلك، التفاوت الحاد في بناء الشخصيات على الرغم من انها كانت كلها في دائرة الضوء والفعل فبينما وجدت شخصية نوري السعيد (فيصل الياسري) عناية درامية لم تجد مثل ذلك شخصيات اخرى كشخصية ناجي (... ) ( غازي التكريتي ) او حتى شخصية وزير الدفاع طه الهاشمي ( سامي قفطان )، وحتى شخصية عبد الاله ( محمد طعمة ) بالرغم من انها حظيت باختيار مواقف معبرة قادرة على الايحاء وتوجهاته العامة إلا انها لم تكن كافية لرسم دوره الخطير الذي انتهى اليه. وعلى العكس من الشخصيات السياسية كان الخط الدرامي الوحيد الذي وجد عناية واضحة في البناء هو علاقة خادم الملك عيد سعيد بالراقصة مليحة ( هناء محمد ) وعلاقة هذه بالانكليز وبالتالي توريط عيد سعيد ( عزالدين طابو ) في اغتيال الملك لحساب السفارة البريطانية، فقد بدا ذلك الخط منسجما حتى النهاية .. ربما لانه يمثل اجتهاد الشريط في تفسير نهاية الملك. على العكس من البناء الدرامي العام ورسم الشخصيات، حفل الشريط بتكوينات فنية جميلة الاتقان تجعل مشاهدته متعة قائمة بذاتها، ولعل استهلال الشريط بلقطة عريضة من لندن حيث مبنى الخارجية البريطانية يؤشر الاتقان الذي توالى في اخراج الشريط وتصويره، فذلك الاستهلال يتجاوز تكوينه الصوري الى ارتباطه باحداث وفكرة الشريط الرئيسة، حيث تلعب السفارة البريطانية بتوجيه الخارجية الانكليزية لعبتها الخطيرة في حياة الملك وحياة القطر ككيان وشعب، وانجز التصوير الذي اداره المصور الفنان رفعة عبد الحميد تأليفات معبرة في التصوير الخارجي والمشاهد الداخلية على السواء بما في ذلك اتقان علاقة الضوء والظل وحسن اختيار زوايا الكاميرات، ويمكننا تعداد الكثير من الامثلة الناجحة للقطات مفعمة بالعلاقات المعبرة مما يشير بدوره الى دراسة متأنية للخطة الاخراجية بجميع تفاصيلها، تعزز ذلك العناية بالازياء والمكياج والديكورات والاكسسوارات وتوزيع الادوار على فريق التمثيل الذي نجح الى كبير إلا في استثناءات قليلة جدا ربما تعود لمحدودية بناء الشخصية اكثر مما يعود لحسن اختيار الممثلين او ادائهم كما في حالة شخصية الملكة عالية ( ميسون البياتي ) غير ان الاداء على العموم جيد لكنه متفاوت بين التميز وكثافة الحضور كما في شخصية نوري السعيد واداء فيصل الياسري الى مجرد نمطية كأداء عزالدين طابو وبين حضور ملموس لأداء محمد طعمة لشخصية عبد الاله وجواد الشكرجي لشخصية فهمي سعيد على محدودية الدور وسامي السراج لدور رشيد عالي في المواقف التي منحته فرصة الفعل .. الى اتقان اداء هناء محمد، يوسف العاني، عزيز خيون وسامي قفطان برغم ارتباك شخصية طه الهاشمي التي مثلها، يبقى اداء ستار خضير لدور الملك غازي موضع تساؤل يرتبط ببناء شخصية الملك دراميا اكثر من ارتباطه بادائه التمثيلي ... فاذا كان الملك بذلك البرود والحيرة وربما الارتباك فقد نجح ستار وإلا فالامر غير ذلك. ومع ان المونتاج ( صاحب حداد ) كان سلسا إلا انه لم ينقذ الشريط من بطء الايقاع. واذا كانت كثرة الجهات الادارية والعسكرية التي قدمت المساعدة لانجاز الشريط تدل على حجم الجهد المبذول في صناعته وسياقات عمله، ونجاح المخرج في ادارة العمل وتكوين مشاهده، إلا اننا لا نستطيع برغم اعجابنا بصناعة الشريط ان ندع الضعف البادي في تنفيذ مشهد اصطدام سيارة الملك وما مارسه من تبريد مضاف للصراع، كما كانت خاتمة الشريط بمواكب العزاء الشعبية اضعف مما تحدثت به الروايات والمصادر ناهيك عن تساؤلنا عن اغفال حادثة قتل القنصل الانكليزي في الموصل بعد مصرع الملك او اغفال نشأة الملك وارتباط مواقفه بتلك النشأة التي حرص والده على ان تتم وسط ابناء البلد وتقاليده وهذه وتلك مسؤولية السيناريو قبل ان تكون مسؤولية المخرج. غير ان ملاحظاتنا كلها لا تمنعنا من الدعوة الى مشاهدة هذا الشريط لما فيه من الدعوة الى الالتفات الى تاريخنا الحديث، ولا من الدعوة الى الاهتمام بحكايات وشخصيات اخرى من هذا التاريخ وبذلك تقدم دائرة السينما خدمة مزدوجة للفن وللتاريخ معا. |