قاسم عبد الأمير عجام*
ويسألونك عن الآخرين في إبداعك، وتفضل أن تسميه عطاءك الثقافي، فتتوقف مستفهما: أعن الناس في حياتي تسألون؟ أجل.. فقد بدأ حاتم حسن، دعوته الى الكتابة عن الآخر في حياة المبدع، بكلمته قائلا: للناس في حياة المبدع " دور، وأي دور؟ ولكن كيف بالمستطاع تلخيص حياة بكاملها في موضوع لصحافة يرغمها حصار همجي على التقشف والاختصار؟! ماذا تختار منها وماذا تدع؟ انها حياة وانها عمر الوعي.
اي والله، فما حياة صاحبك هذا الذي يحدثك عزيزي القاريء، إلا تاريخ علاقته بالآخرين انفعالا بهم و- أو تفاعلا معهم. والآخرون يا صديقي ليسوا فلانا الذي علّمني كذا ولا فلانا الذي نهاني عن كذا، ولا فلانة التي هفا لها القلب فارتضت ان تقطع معي شوط الصبر راضية ان تحترف وإياي حلما دائما ... وان يكونوا في القلب منهم، انهم الذين صنعوني كلِّي، حتى لم يعد ممكنا ان اجيب دعوة "الثورة" إلا بالحديث عني فيهم وعنهم فيّ ... انهم الناس، هم العامة ممن نشأت بينهم قبل ان يكونوا الخاصة الذين لهم اياد مميزة في منعطفات تكويني، وما خاصتي، يا احبتي إلا اولئك المعلمين الذي اضاء كل منهم شمعة في عتمة أو ترك لي على الطريق علامة، أو أشار لي الى مستقبل ممكن، او اغراني بخلق رفيع اتخلّقه، او أطلق بي طاقة أحس بها، لخبرته قبل ان اعيها ميلا أو رغبة بي، وهم كثيرون في حياتي، وكثرتهم هي حسن الحظ الوحيد فيها أو الاكبر. أول المعلمين واخطرهم شأنا أبواي، وأمي منهما خاصة، فلقد علماني الديانة مبكرا، وعلماني إياها مسؤولية تمتد من اصغر الخطى وادق الافكار الى اكبرها وأهمها، وترجمتها واجبات تمتد من البيت الى السماء السابعة، للجار عليك حق، ولإخوتك حقوق ..وو.. وحتى للطريق حقوق، ولا فرق إذ تؤديها كاملة .. ويجب ان تؤديها .. أن تؤديها لقريب من رحمك أو لغريب لا تعرفه، والطريق الى الله تمر بتلك الحقوق ولا طريق سواه، كان الدين في بيتي، وفي "كتّاب" والدتي الذي يزدحم بالاولاد والبنات، شديد البساطة شديد الوضوح ... كتاب الله وسلام مع الناس، يوصل احدهما الى الثاني، وقدوتنا في ذلك محمد ( ص ) وأهل بيته، واول البدء قراءة القرآن حتى "الختمة"، وهكذا كان. علمتني خالتي رحمها الله ... وليس امي كي لا استغل عطفها – قراءة القرآن حتى ختمته وكانت والدتي تراجع حصيلتي يوما بيوم ولا وقت أو سماح باللعب قبل النجاح في المراجعة. وهكذا اسلمتني أمي الى المدرسة الابتدائية – بتحريض من احد تلاميذها الذي صار معلما مثقفا أسمه مهدي الانباري ( المحامي الآن )، صبيا يحسن القراءة، قراءة اي شيء وإن لم يفقه ما يقرأ، صبيا ثقته بالناس تلقائية عامرة، ما دام يؤدي حقوقهم فلا بد ان يحبوه، وكان ذلك مفتاح التفوق في مدرسة المسيب الابتدائية الاولى ( 1952 – 1957 ).
وإذ تعلمت الكتابة فيها، صرت امارس ما ورثته عن جدي لأمي ... جمال الخط، وإذ حفلت تلك المدرسة بادارة وهيئة تعليم متفانية، فقد احتفت بالتلميذ الواعد أيما حفاوة وكل اولئك، عوامل تفوق مدرسي عزز التفاؤل بالمستقبل، واجتذب اعجاب المعلمين وتشجيعهم ومحبة الناس – جيرانا وذوي قربى – فتحول الى مزيد من الثقة بهم.
وهكذا وجد بي الفكر السياسي، الاشتراكي تحديدا، ارضا ممهدة للايمان بقضايا الوطن والناس ككل لا يتجزأ، وبأن الثقافة سبيل واسع لخدمتهما معا، وبذلك رسخ في الذهن مبكرا ان الابداع إستلهام لأحلام الناس والثقافة سلاح ضد الظلام وعوامل الأذى في حياتهم، فيا اهلا بعالم الكتب، ومرحبا وسرورا بالدرجات الكاملة في درس الانشاء التي تعزز جدوى القراءة والمزيد منها، ويعززها ثناء المعلم الذي عرف بتشدده ودقة محاسبته، سنة بعد سنة، لكن ( سعدي عباس علوش ) مدرس اللغة العربية في متوسطة الحلة، هو الذي اكتشف ان تلك القراءة قد وفّرت ارضا مهيأة لاستقبال بذرة الكتابة الأدبية، فتولى حفز الاستعداد الذاتي لتلميذه، هذا الذي يخاطبك الآن، وكانت طريقته في تدريس الأدب وقواعد اللغة العربية وحماسه الهائل لإشاعة الاسلوب الأدبي في درس الانشاء كتجربة اولى للكتابة الادبية المبدعة، ذلك الحافز لاستثمار حصيلة القراءات الاولى، وكان اخلاصه في رعاية الوعود الغضة، تشجيعا على ممارسة التجربة بالفعل، فكانت اول ( قصة قصيرة ) يجرب كتابتها هذا القلم هي ذاتها إجابتي في مادة الانشاء بامتحان نصف السنة للثالث المتوسط عام 1960 ... وإذ كان السؤال الذي وضعه سعدي علوش: "اكتب قصة قصيرة في موضوع تختاره معتمدا القواعد الفنية في كتابتها"، وتخيل ماذا سيحدث للتلميذ حين يعرف ان استاذه قد قطع تلك "القصة القصيرة" من دفتر الامتحان ليسعى بها الى النشر !! ولكن دعك مما حدث وتخيل ما هو اكبر، حين وجد التلميذ الواعد محاولته الاولى في كتابة المقال – المقال بالذات – قد نشرت فعلا !! أجل نشرت، وأين؟ في جريدة "الرأي العام" ... جريدة الجواهري الكبير ذاته، الذي لم يجد المقالة الاولى، تلك، صالحة للنشر فينشرها فحسب، وانما نشر معها رسالة التلميذ الذي كتبها اليه وهو لا يخفي تهيبه من التقدم بمحاولته الى جريدة "الرأي العام " مثلما لا يخفي صعوبة ظروفه التي لا توفر ما يريد قراءته ... وبذلك منحه صفحة كاملة !! كان ذلك بعد سنة واحدة من درس الأدب الجديد على يد سعدي علوش !! وتوالت المقالات في صحف يومية واسبوعية – ولم يكن النشر يومها سهلا ابدا – وكاتبها الفني محاط بحب اساتذته وتشجيعهم. وكما كان هناك في المرحلة المتوسطة سعدي علوش مفجر الاستعداد الأدبي لديك ... فقد جاءك في الاعدادية، وإن تأخر قليلا، وقد دخلتها بحلم الجمع بين الطب والأدب، فاخترت فرعها العلمي. جاءك استاذ آخر يعجبه ان تجمع الى ميلك الادبي تفوقا في العلم كي تمسك بجناحي الثقافة، ولقد قدم هو المثل الجذاب في تقديم محاضرة علمية بثوب ادبي موجها لتلاميذه باستناد تخصصه العلمي في الاحياء (الحيوان – النبات ) الى خلفية واسعة من ثقافة عامة في الفلسفة والفكر والأدب الهادف، كان ذلك هو استاذنا في علم الحيوان، هشام احمد الطالب، الذي لم يكتف باحتضان قدرتك الادبية بل عمد الى تشجيعك على القراءة العلمية باللغة الانكليزية فاشترى لك، ولزميلين معك، كتابا في موضوع ( اللافقريات ) باللغة الانكليزية وصار يسألك فيه !! وهكذا كنت تقترب من حلمك في كلية الطب واستاذك هشام يحث خطاك. ولكن.. آه ، ها قد جاء واحد ممن أشار لهم ( حاتم حسن ) بانهم قد يكونون معوقا أو قيدا، والكارثة انه واحد ذو قوة !! فإذا به ينتزعك من مضمارك الذي كنت تجري فيه ليلقي بك في جب يبتلع الحلم كله فلا نجاحا ولا كلية طب(*) !! هنا كان الاختبار الاول للمتراكم من القراءة ! أيصلح لتكوين موقف صائب في مفترق طرق ؟! نعم، لقد أصاب، وكان للناس في تشكيل ذلك الموقف حصة، لا تدع ياهذا خسارتك كلية الطب تلقي بك في دائرة اليأس وابدأ من جديد، فكلية الزراعة التي دخلتها دار علم واسع ايضا، وما زال اساتذتك وأهلوك يرجون لك تفوقا، ولقد كان !!
وإذ عادت اليد التي أفقدتك كلية الطب، لتعيدك الى جب آخر وانت في سنتك الجامعية الاولى، فتذكر محبة زملائك وقد عدت اليهم فاذا بهم قد كتبوا لك كل المحاضرات التي غبت عنها، واستخلص منها درس الوفاء لثقة الآخرين ويالها من مسؤولية !! فلقد كرروها ثانية حين غُيبت عنهم في الجب مرة اخرى !! وعدت اليهم وقد قرأت نجيب محفوظ كله، حتى وقت عودتك، عدت اكثر رقة واكثر تعلقا بالناس.
قاسم عبد الأمير عجام (يسار) وأحد زملائه بعد خروجهما من السجن 1963
ولعلك دهشت ذات يوم إذ عاتبك زميل لك لأنك لم تحصل على الدرجة الاعلى في احد الامتحانات ... ولكنك خرجت من الدهشة الى الفرح إذ لا يرتضي منك زملاؤك اقل مما يرونك أهلا له، وتلك مسؤولية تكبر، فانغمرت، للوفاء بها – في تحصيل ثقافي عام الى جانب التحصيل الاكاديمي، وكانت بغداد تمر برياح الستينيات وموجتها " الصاخبة " وكانت مجلات من مصر: " الهلال، الكاتب ثم الطليعة" ومجلات من لبنان "الآداب، دراسات عربية ثم الطريق"، نافذة سمحاء تدعوك للمزيد !! وكأن كليتك تريد تعويضك عن الحلم القديم فإذا بها توفدك الى مصر !! اجل مصر العزيزة بتحولاتها الاشتراكية وقيادة جمال عبد الناصر ! فلا تدع هذه الفرصة دون اكتساب من دنياها الثقافية الى جانب خبرة التخصص التي ارسلت اليها ! ولقد اكتسبت ثقافة مكتوبة وثقافة مرئية وثقافة مسموعة في سهرات جدل ثقافي رفيع.
وإذ حاورت رئيس تحرير مجلة "الكاتب" وعددا من كتّابها المعروفين وانت ابن العشرين فقد قبلت مسؤولية الكد الثقافي !! وعدت، وتخرجت متفوقا مؤهلا للعمل في البحث العلمي وبه انغمرت، لكن كتاب الثقافة ما زال يرافقك. وصدرت مجلة "الثقافة" العام 1971، فلِم لا تعاود النشر بعد توقف طويل؟! وعاودته بنقد عددي المجلة اللذين صدرا نقدا تفصيليا لم يوفر حتى الغلاف أو شعار المجلة، فاذا بها تنشر نقدك كاملا دونما حذف كلمة واحدة، وبهذه السماحة الفكرية اجتذبك الاستاذ صلاح خالص رئيس تحريرها الى الكتابة المستمرة فيها دونما رقيب فاذا بسماحته ورضائه تعلمك اخلاقيات المثقف الراقية، واذا بحماس زوجته د. سعاد محمد خضر ( سكرتيرة تحرير المجلة ) للتجديد تنضج فيك المشروع تلو المشروع فاذا بك تغرق في سرور الكتابة الحره ودفء صداقة الفكر، وفرح الانجاز شهرا تلو شهر بدراسات ومقالات ونقاش ثري، وبذلك الانجاز عدت الى مصر ثانية ! والى جانبه خطوات على درب الانجاز العلمي ايضا، وبهما وجد مكانك في ندوة نجيب محفوظ الاسبوعية المفتوحة في "مقهى ريش"، فكنت بين نجوم الثقافة في مصر وكل منهم يحرض فيك مشروعا او يحفزك لمراجعة وو ... واصدقاؤك الاُول في القاهرة ما زالوا نهر محبة يحملك الى اعماق جديدة من الحياة الاجتماعية في مصر وفهم ميداني لتطوراتها السياسية بعد رحيل عبد الناصر.
كنت تنمو هناك بسرعة لن يمكنك ان تغفلها وانت تتحدث عن الناس في عطائك الثقافي فهناك كانت بدايتك للدراسة العلمية العليا، وإذ لم تكتمل، لبيروقراطية معرقلة، فقد عدت لتبدأ في بغداد بداية جديدة خضت فيها نهر الثقافة الزاخر في السبعينيات بحثا علميا ودرسا في الكلية، وعملا صحفيا ومتابعات ثقافية خارجها، وإذ يفرض عليك سكنك البعيد عن بغداد ان تلوذ بالتلفزيون كتسلية وحيدة وجدت نفسك تحاوره شيئا فشيئا حتى اذا نضج مشروع الكتابة عنه وكتبت بشكل موسع وتفصيلي ونشرت الكتابة على طولها وتكررت الكتابة من مسؤولية الاحساس بخطر هذا الجهاز الاتصالي.
اسعدك ان يرحب أهل الشأن بما كتبت، نعم، فهذا مدير عام المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون محمد سعيد الصحّاف، يدعوك شخصيا لزيارة المؤسسة والمشاركة في برنامج "السينما والناس"، فاذا به صدرا رحبا للنقد وطموحا بعيدا للتأصيل والتجديد !! واذا باستقباله المثمر للنقد التلفزيوني، وتطور الانتاج التلفزيوني نفسه، وتشجيع صلاح خالص على الاستمرار في الكتابة في هذا الباب لأهميته، يقنعونك جميعا بمواصلة هذا النقد ... والتجويد فيه والى اليوم، لولا الكهرباء !! وتستمر في الكتابة والدراسة العليا واذا بشرف مسؤولية اخرى يطوقك حين دفعك زملاؤك لتمثيلهم في نقابة المهندسين الزراعيين ... وبحبهم كنت تنجز كل ذلك النجاح ... وكانت العائلة تنتظرك لتعود اليها من بغداد يوما في الاسبوع او لبعض يوم، فاذا حللت فيها كنت فيها وبعيدا عنها !! كتبك معك، واوراق البحث ترافقك فتأخذ ليلك منهم، وكانت الزوجة، حبيبة ترعاك وتدعوك للرأفة بنفسك وكان الوالدان يسعدهما ان "ترتقي"، وكان النجاح المتكرر طمأنينة لهم وبهجة وللوالد كان يقول راضيا حُسْنَ عاقبة ! ولكن لماذا تجد ثمة من يغيظه تألقك ذاك ؟! دعك منه فقد حسمت الأمر بأنه لا يقبل القسمة! لا شيء غير التفوق، فأهلك واصدقاؤك أولى به فهم عونك ونبع الأمل ومشعل الحماس فيك، والحماس للمشاركة في مشروعات الوطن الجديدة أكبر من ذلك الغيظ الذي لا يفوتك في عيون البعض! ودعهم حتى لو حاولوا إعاقة تفوقك وتخيل أمك وأباك وزوجتك وانت ترتقي الى مرتبة الامتياز الجامعية واستحضر فرح اصدقائك وزملائك ! ولقد حدث ذلك، ولم تخيب ظنهم فجاءت فرحة ( الامتياز ) عيدا لهم، وهكذا كان لا بد ان توثق ذلك في إهداء اطروحتك الجامعية: " الى عائلتي ... تحية الصبر الجميل ... الى رفاقي واصدقائي ... وفاء لثقتهم ومحبتهم" ... وإليهم ما يزال القلم ينتقى خير الكلمات لتزدهر الحياة في خير الاوطان، نهرا من الحب .. كان الناس لي وليس لزورقي إلا ان يجري في مياهه، ولقد أكدت الاعاصير ان القلم الذي يمتليء بمداد ذلك النهر ... شراع عال يوفر للزورق الامان وملازمة المضي صوب شمس الوطن التي لا تغيب..
ناحية المشروع في 4/7/1999
* هنا يضمر ولا يكشف، السبب الحقيقي الذي حرمه الطب، فقد اودع السجن لاسباب سياسية وهو مقبل على اداء امتحان البكالوريا، الذي تقدم اليه وهو في المعتقل، مما ادى الى ان تكون درجته اقل من المعدل المطلوب لتحقيق حلمه. |