علي عبد الأمير عجام*
1. كان له الاثر المختلف بين رهط من زملاء اخي قاسم من العاملين في مشروع المسيب الكبير.. اقرب الى صورة كنت اتخيلها انا عن نفسي، فيما لو اكملت دراستي وبدأت التحول الى حياتي العملية، فهواعزب، انيق(حتى وان اكثر من ارتداء الجينز)، يتحدث مع الخبراء الاجانب بلغتهم، وفضلا عن مرحه كان وسيما وناجحا في عمله. لم تتوقف ملاحظات اعجابي به عنذ هذا الحد، بل ان اسمه"باسل" كان يسحر اسماعي، وهو كأنه كان يعرف اعجابي بشخصيته وان كان ذلك عن بعد، فيمتدح نزوعي الى تحقيق شخصيتي المستقلة، واسرافي في ارتداء الازياء الحديثة، واصراري على الاستماع الى الاغاني الغربية على الرغم من كون عائلتي تعيش في منطقة ريفية متحفظة بل هي اجتماعيا اقرب الى التشدد، وهو ما كان يشكو منه اخي في زياراتي لهم واقامتي في العطل الصيفية، فيجد في كلام المهندس باسل نادر ما يخفف قلقه عليّ ومخاوفه.
اسما قاسم وباسل اطلق على الشارع الرئيس في ناحية مشروع المسيب الكبير حيث عاشا وقتلا
2. باسل الذي كان الاعزب النادر في مجتمع موظفين متزوجين على الاغلب، وهو ما كان يمنحه موقعا يحسده عليه زملاؤه الاخرون، فهو كان مركز اهتمام موظفات في دائرته، فضلا عن طبيبات ومهندسات ومعلمات عازبات كن يسكن في بيوت خاصة توفرها الدولة للعاملات والعاملين في "المناطق النائية"، ولكن هذا الاهتمام لم يوقع باسل صيدا سهلا في "القفص الذهبي"، مثلما لم يتداول اسمه الا باحترام حيال سيرة من التصرف الشخصي المتفتح ولكن في مسار من احترام الاوضاع الاجتماعية الخاصة بالمنطقة واعراف اهلها. غير ان بقاء باسل نادر عصيا على الزواج، انتهى في مكان هو في صلب عمل اخي قاسم، فهو كان يدير مختبر بحوث التربة التابع لمشروع المسيب وفيه التحقت بالعمل اوائل الثمانينيات مهندسة زراعية من احدى بيوتات الحلة، ويبدو ان موقعا كان يحتله "ابو ربيع" بين الاثنين مما سهل ايجاد مشتركات، انتهت بباسل الى "القفص" الذي ظل بعيدا عن قضبانه"الذهبية"، فكان لاحقا بيتهما الحكومي القريب من بيت اخي مكانا احرص على زيارته كلما جئت الى بيت اخي في زيارة خلال ايام اجازاتي الدورية في الحرب.
3. في اليوم الاول لعودتي من المنفى، وتحديدا بعد عشرة ايام على سقوط نظام صدام حسين، كنت اعانق اخي باشواق الامل والانتظار، وفيما كان نتبادل احاديث القلوب التي اضناها الترقب والخوف والشوق، كان نسيم حديقة بيته منعشا وهي انتعاشة قادتني الى السؤال عن بيت"ابو حيدر"، فما كان لقاسم الا واخذني باتجاه باسل وزوجته الكريمة، غير ان انقطاع التيار الكهربائي قبل وصولنا جعل لقاءنا اقرب الى اللهفة المنكسرة، ومع ان احاديثنا جاءت في "ليل معتم" الا ان ضوءا متدفقا من ابي حيدر واشعاع صورته الاولى الحاضرة عندي بددا ما يمكن ان يكون حائلا دون "رؤيته"، والحديث بتدفق عن آمال كنا حالمين على ما يبدو في قدرتنا على تحقيقها بعد انتهاء فترة الطغيان. اجمل ما في ذلك اللقاء انني سألت باسل عن صورته شابا آخاذا، وفيما اذا كان ولداه تلمسا تلك السيرة وانعكس بعض منها في شخصيتهما، فهو لجأ الى ضحكة تكتم على ان يطلق لها العنان واتجه في حديثه نحو زوجته السيدة الكريمة رفلاء، وعرفت من خلال تلك الاشارة الموجزة انها كانت تسعى الى جعل ولديها اقرب الى السلوك "المنضبط" وتخشى عليهما انفتاحا قد لا يبدو مقبولا في بلاد تتجه الى المحافظة في السلوك والفكر، وهو ما كنت تلمسته في الايام الاولى لعراق ما بعد صدام، فانهيار سطوة الدولة ادى الى تراجع حضور القانون وتراجع القيم الاجتماعية والمحظورات والروادع الاخلاقية بسبب الحصار، وصعود قيم التنافس والمنفعة الفردية حيال الخطر الجدي الذي كانت تمثله تحديات الصراع من اجل البقاء، ادت جميعا الى البحث عن قيم غير التي اسقطها عراق مابعد غزو الكويت والحصار: قيم العمل الجدي اعتمادا على المعرفة العلمية والخبرة العلمية والشرف المهني والنزاهة، وبالطبع كانت القيم الدينية، ما يأمل فيه الناس ملاذا عن القيم التي توارت، وتعويضا عن غياب الروادع الاخلاقية والقانونية، وهو ما تلقفه النظام السابق وشجّعه، طالما انه يوفر مايشغل الناس عن جزهر الازمة الحقيقي، اي ما يبعد الناس عن التعاطي مع السلطة، بوصفها الجوهر الحقيقي لحصار اكل اخضر القيم الاجتماعية ويابسها ايضا، واشاع كل ما يعنيه البحث اليائس للانسان عن ما يقيه الجوع والمرض والتشرد، فاطلق ما عرف بـ"الحملة الايمانية". "ابو حيدر"، عرف قاسم وصاحبه في مباهج ومواسم فرح وان كانت شحيحة، مثلما رافقه في مواجهة "زمن التردي"، الا انه كان كريما الى حد يفوق التصور فهو "النادر" حين لم يترك صاحبه وحيدا وكان "الصديق الصدوق"، هو "الباسل" الذي مضى في شوط محبته ووفائه حد انه شارك أخي الطلقات! ايها الجميل والواثق والانيق .. حين خرجت مودعا اياي وابي ربيع اتفقنا على موعد "نشاغب" فيه قليلا حياة ناحية(جبلة) الرتيبة، لكن الموعد اجيئه اليوم راثيا أياك مثلما أنوح فيه على اخي.
* رسالة كتبتها الى المهندس باسل نادر الذي اغتيل رفقة أخي قاسم |