علي عبدالأمير عجام منذ العام 1988 وديوانه "بطولة الأشياء" وأنا أتمعن في الدروس الجمالية التي يقترحها الفلسطيني غسان زقطان شعراً ونثرا. هي دروس في جوهر الشعر حتى وإن أخذت مديات تعبيرية أبعد من الشكل الكتابي، هي دورس في الإنصات العميق لعناصر الحياة ورفع أبهى علاماتها كمقترحات جمالية، هي وصاياه، إن شئت، للظفر بالمعنى الإنساني وإن بدا شديد العسر. ضمن هذا يطلّ زقطان على المشهد الذي ينتظم فيه ومنه على العالم والأشياء، انه يبعد صفة "البطولة" عن هذه الوقفة حتى في احتدام المواجهة، بل انه في نتاجه قرأ "الصخب" الاجتماعي حسب وثائق ثقافية يؤكد فيعا ان البطولة كحدود توصيف لم تعد تستحقها المعاني الكبيرة التي "أشبعت تضخيما وأشبعت المنشغلين فيها وهما" و "البطولة" تظل مقترنة بموصوفات أخرى ظلت في زحمة هذا الانشغال شبه غائبة، فالبطولة هي للاشياء الصغيرة، المنسية – الحاضرة كتفاصيل تتواجد في أركان الحياة في مشهد قسوتها وبالذات حين تقترن انسانيا بالغياب المجحف للروح وتصغيرها من أجل إعلاء شأن القضية الكبرى. الشاعر غسان زقطان هذه الانشغالات توجها غسان زقطان بأن منحها كتسمية، عنواناً "بطولة الاشياء"، ولم تتوقف القضية عند حدود التسمية ولا في انعكاساتها عبر النصوص، بل حاول نشرها في نسيجه الحياتي الخاص، فبدأ متماسكا مع نفسه حين صحا على انهيارات كانت شاهدا ذات يوم على مسار واختيار فكري. صخب الإنهيارات الكبرى عن هذا كله، عن توتر ظل يحكم الكتابة الشعرية العربية بالاخص، والكتابة بشكل عام ومنذ أكثر من نصف قرن، كونها بدرجة أو بأخرى، استجابة لعناصر الاضطراب الاجتماعي – السياسي ومساجلة مباشرة، بل خطاباً مثقفاً لها، سألت غساناً ذات مرة: حين أصبحنا في مرحلة وعي مناقض للسيرة الأولى، وعي ابتدأ من انهيار "القضايا الكبرى": أين ستكون كتابتنا التي شهدت تلك الاشتغالات، وهل ترانا سنظل نتعامل مع نتاج ثقافي لم يعطنا سوى لافتات، إن كنا بحق نخلص لقيمة اننا ننتمي للمعرفة وللمثاقفة الحية؟  الجواب جاء عميقاً من غسان زقطان في نصوص من شعره ونثره الجميل، وخرجت الكتابة  من أزمتها المميتة، حين توقفت عن معاطاة "الايديولوجيا" وتقديسها، بعد أن أبصر عيمقاً في المشهد القديم وبدأ، بعد وعي شاق، الانشغال الكلي بالحياة وبالمعرفة أيضا ولكن دون ولاءات عمياء لإعلانات كبرى: "قصيدتي مثلا، تكاد تشبهني أو هي كذلك، انشغالات الحاضر فيها ممتدة إلى بقاع قديمة في داخلي، مناطق لم تزل ناشطة ومؤثرة، وبالنسبة لما قدم من مشاريع كتابية ومناهج وعي، لا بد من مواجهتها، فنحن قرأناها، ولا بد من الكشف نقدياً عن عيوبها، هي لم تحقق الاستجابات التي تفترضها البواعث الأساسية لها، هي متشابهة على الرغم من ورودها من مناطق مختلفة ويظل الشاهد الأكبر على تشابهها، كونها فشلت تماماً في إيصالنا إلى مستويات معقولة تمكننا من وعي كل ما يحصل". ما برز في مساره الكتابي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أنه ما كان داعية لعزلة اجتماعية وفكرية كنوع من دفع الجحيم اليومي المستعر بل ردع الموت المبتذل والفناء الرخيص انتصاراً لعناصر الحياة بوصفها جوهر الوجود الانساني. ومثلما تكرّس هذا النزوع في نصه المفتوح "وصف الماضي" الذي اختار له الناشر والأديب الراحل ألياس فركوح وصف (رواية)، نجده أكثر صفاءً وغنى في جديده الشعري ومنه ديوان "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي" إذ بدا وكأنها احتفال بكل ما يغذي الحياة ويمنحها معنى وجودياً مناهضاً للغياب والموت. الصور المدهشة المتوارية عن الأنظار؟ في نصه المفتوح "وصف الماضي" ابتعدت اللغة عن السرد البطيء والإمعان في المتن الحكائي بل انشغلت في الشواهد الصغيرة ووصفها، وتحولت عبر قدرة التكثيف في لغة الشاعر إلى دلالات جمالية متكاملة: "تحايا ويد مجاورة بخمسة أصابع طيبة تحط على ركبتك فتصدق الكلام الذي في الهواء"، "طيور ترسلها للآخرين حمام وبلابل وصقور ودوريات"، أو "كان الفراغ يتزايد وكان ميتا". وفي جديده الشعري نجد العناية الأنيقة بالصور المتوارية عادة عن الأنظار: "الولدُ الذي يُحضِرُ الكرةَ عندما تطيرُ بعيدًا/ الذي يضعُ حجرًا على ملابسِ اللاعبين وكُتبهم لئلّا يُطيّرَها الهواءُ القادمُ من النهر". ثمة الهواء في الموضعين، ثمة ما يجعله يمرّ وكأنه لمسة على خدّ الحياة، وأقاليمها الأرضية. أيّ نبرة خافتة في لغة زقطان؟ أيّ رقّة وأيّ صفاء حين يتعقب الهواء " الخفيفُ لأنّه مرَّ على أحواضِ النعناعِ"؟ هي الشعر بعد أن خرج من كل أردية الحماسة والمهام الثقيلة وصار منقّباً روحياً عن احتفالات التراب والعناصر فهو "يحفظُ تفاصيلَ صغيرةً لترميم ثغراتِ رواةٍ أخذتهم الحماسة". شعر غسان زقطان في عمقه الدلالي، له علاقة بعالم البوح، بالجوانيات المنسية لابطال هامشيين، ولحكايات تبدو في نضارة لا تنتهي، حكايات مرئية بعين ولد تبتهج في خطواته الحياة فهو "يقطفُ زهورا لبناتِ الجيران / حيثُ يطوفُ آباءٌ حذرون/ وأمّهاتٌ يُبصِرن في العتمة" لكنه لا يخلق من ذلك (الولد) صورة نمطية تجعله مستغرقاً في غموضه السحري وحسب، بل هو ابن الحياة الأرضية وعوالمها البسيطة " يقرأُ درسَ اللغةِ العربيّةِ بمشقة/ ويُخطئ في جدولِ الضربِ/ ورموزِ العناصرِ/ وغزوةِ الخندقِ".  هو كائن شعري بل "ولد شعري" ينهض بالحواس والتأملات ويقفز نحوها القناطر عابراً الرجال البدينين وزوجاتهم المشغولات بالطحين "تذبلُ الأوراقُ فوقَ قميصهِ المشجّرِ/ وتميلُ رقبتُه الطويلةُ على كتفه/ مثلَ طيورِ الماءِ". هنا يقودنا غسان زقطان إلى جوهر الأشياء الأولى بسحرها وغموضها، بمشاهدها الواقعية ولكن بصورها الباعثة على دهشة روحية. لنلاحظ "تذبلُ الأوراقُ فوقَ قميصهِ المشجّرِ"، فالقميص المشجر لولد مشهد يومي، بينما الازاحة الشعرية له تتكون حين تذبل تلك الأوراق، وهذا جوهري في صوغ بيان يتولاه الشاعر ويدفع به كثيراً من نصوصه نحو نقاء صورة وتكثيف لغة " ثمّةَ ولدٌ بساقين من قصبٍ ورُكبةٍ مجرَّحة/ الولدُ الذي وضعَ تفّاحةً على قبرِ شقيقتهِ/ وشريطًا ملوّنًا لتربطَ شعرَها". خسارات الإنسان لا التراب تبدو ثيمة الثناء على الخسارة والخاسرين حاضرة بقوة في شعر صاحب "بطولة الأشياء"، ولكنها الخسارة التي تعني هشاشة الانسان حيال الوقائع الفجة القاتلة، فهو حين يرثي القتلى " الذين يملأون البيتَ بغبارِ أحذيتهم ودخانِ جراحِهم وأسئلتِهم المتكرّرةِ عن الناجين، والغرقى، الغرقى على وجه الخصوصِ، الذين يتركون بركًا صغيرةً من الماءِ في كلِّ مكان" يجعلنا حيال مشهد يجعل الخاسرين في عمق السؤال الكوني عن جدوى العيش حتى في مساره اليومي "غبار أحذيتهم"  ليعلو مثيراً الأسئلة "دخان جراحهم".  هي ليست مجرد ثيمة متخيلة يعاد نسقها في كل نص بل هي ابنة الوقائع المريرة وكوارثها اليومية " ضجَره من تفاؤلِ جارهِ اليساريّ/ وضِيقِه الشديدِ من «قائدِ المسيرةِ» الذي يتعثّرُ في الأخبار". لنتوقف عند الضجر من تفاؤل جاره اليساري، وهي دلالة مهمة لخسارة الانسان في رهانه على أفكار باتت مثيرة للضجر حقاً، زادها مسار "القائد" وقد صار يتعثر لا في سقوطه كرمز بل حتى في السرد الإخباري اليومي.. يالها من نهاية مرحلة فكرية وياله من سقوط مدوٍ لقادة لم يورثوا انسان أوطانهم غير أن يكونوا "قتلى يملأون البيتَ بغبارِ أحذيتهم ودخانِ جراحِهم"، فيما يتولى الشاعر رسم مصير سيزيفي لإنسان وحيد في مواجهة القتل "القنّاصُ يواصلُ إطلاقَ النارِ على المرأةِ الميتةِ على الإسفلتِ./ المرأةُ ميتةٌ/ الكلبُ ينبحُ على القنّاصِ الفتى القتيلُ يُنصتُ للنباحِ بامتنانٍ غريبٍ". لعمري هي ليست مجرد هجاء للقتل- الحروب، بل هي ثيمة معنية بوصم الحياة الآن بوصفها حفلاً صاخباً للموت الماجن مثلما هي رؤية تقرأ الأفق البليد الذي ينتظر الإنسان " الحربِ التي قُتل فيها كثيرون قبل أن تغطّيَها حروبٌ أخرى أشدُّ طيشًا". *جزء من ورقة بحث مطولة.