علي عبدالأمير عجام*
رحلت المطربة اللبنانية، عراقية الهوى والملامح الغنائية، نهاوند، وعينها ترنو الى بغداد التي أحبت وعاشت فيها اجمل ايام العاصمة العراقية، وتحديدا أواسط خمسينيات القرن الماضي، حين أدت خلالها ألحانا صاغها موسيقيون بارعون، ابرزهم الراحل رضا علي، وصارت لاحقا من علامات الغناء البغدادي والعراقي الرفيعة والعصية على النسيان. واذا كانت لارا كيروز (نهاوند) المولودة بلبنان ١٩٣٣، قد بدأت حياتها الفنية في فرقة الأذاعة ببيروت، فانها انطلقت من بغداد، إلى العالم العربي، لتتنقل بين مسارح بيروت ودمشق والقدس، ولتسجل لـ"اذاعة الشرق الأدنى"، مجموعة من القصائد المغناة، ليس اقلها ما قاربت فيه شكل "الغناء المتقن"، كما في "اين يا ليل صباباتي واحلامي وكأسي" والشائع فيها ان الراحلة نهاوند، هي من صاغت لحنها، بينما لآخرين اراء آخرى تتوزع بين تلحنيها من قبل الراحل منير بشير ولا تنتهي بالملحن يحيى حمدي.
المطربة نهاوند.. "الصوت الهاديء المثقف"
عن نحو 80 عاما رحلت، من كان يصفها الناقد العراقي الراحل عادل الهاشمي، بصاحبة "الصوت الهاديء المثقف"، وهي كذلك حقا لمعرفتها بالتدرج النغمي، مع انها لم تدرس الموسيقى ولا الغناء، لكنها تمكنت بجهد شخصي، من دمج خامة صوتها الرقيق والشجي بتلك المعرفة والخبرة.
نهاوند في بغداد: نغمة خاصة بعد وصولها مرحلة الاتقان الفني: النضج الادائي الصوتي، وشاعرية عالية في النص، وبراعة الالحان، جذبت "الاغنية البغدادية"، اصوات عربية بارزة، قد تكون اهمها، صوت السورية فائزة أحمد، التي انطلقت من بغداد الى مصر، محمولة على نجاح ما صاغه لها مبدعون عراقيون في النصوص والالحان، أول اغنية عراقية "ميكفي دمع العين"، وكانت من الحان رضا علي وكلمات الشاعر سيف الدين ولائي، ثم من الحان رضا علي ايضا، "الله وياك روح تمهل بحبك"، ثم لحّن لها اغنية ثالثة "خي لا تسد الباب". وثمة "المطربات العربيات اللواتي وفدن الى بغداد في تلك الفترة الذهبية للاغنية البغدادية"، كالمطربة راوية، التي اشتهرت بأغنية "أدير العين ما عندي حبايب"، وهي من الحان رضا علي، كما غنت قصيدة "الخمار الاسود" للشاعر مسكين الدارمي ومن الحان عربي آخر وجد في بغداد، فسحة جمالية خلاقة، هو المبدع الموسيقي والتربوي الكبير روحي الخماش، والتي مطلعها: "قل للمليحة في الخمار الاسود ماذا فعلت بزاهد متعبد". وحققت "الأغنية البغدادية"، نصيبا كبيرا من الشهرة لمطربات العربيات وفدن في العقد الخمسيني للغناء في بغداد، سواء أكان ذلك في ملاهيها او في الإذاعة العراقية، منهن ايضا، حفصة حلمي، سميرة توفيق وإنصاف منير. اما المطربة، نرجس شوقي، فشدت باغان بغدادية عدة ، وفق قالب "غناء القصيدة"، ومنها "ياجيرة البان" في مدح الرسول الكريم من شعر ابن معتوق، وهو من شعراء البصرة في القرن السابع عشر، ومن الحان الفنان القدير يحيى حمدي. وبدورها، فأن المطربة اللبنانية، لارا كيروز، حضرت في فضاء "الغناء البغدادي" في منتصف العقد الخمسيني، حين كانت العاصمة العراقية تتجه الى كونها مشغلا ثقافيا تجديدا ومدنيا، فغنت "يبا يابا شلون عيون عندك يابا" من الحان رضا علي، وشعر سيف الدين ولائي، مثلما غنت له بعذوبة صوتها "النهاوندي" والاسم مشتق من مقام "النهاوند" الرقيق، "ادلل (تدلل) عليّ إدلل"، واكراما لها، اعاد غناءها، الراحل رضا علي، وسط فيض من التأثر الغالب، فهو يستعيد لا الاغنية وصاحبتها وحسب، بل تلك الفترة الخلاقة، التي كانت تعنيها ايام بغداد في خمسينيات القرن الماضي، وموقع الموسيقى والاغنيات الرفيعة فيها. لاحقا ابتعدت نهاوند عن الغناء وهي في قمة نضوج الصوت والاداء النغمي (في الثلاثينيات من عمرها)، لتتزوّج وتهاجر إلى البرازيل. لتعود الى بلادها العام 2001، وتشارك في "مهرجان بيبلوس" وتعيد أغنياتها القديمة بتوزيع جديد، ولتمنح في العام التالي "وسام الاستحقاق اللبناني".
*نشرت في "الحياة" بعد يوم على رحيل المطربة 2014
|