الشعر والمناهج النقدية الحديثة
صديق القاريء ودليله إلى الإبداع والثقافة
نظرات في علاقة النقد بالقاريء العام (1)*
قاسم عبد الأمير عجام
ما أوسع المسافة التي يمكن أن يتحرك خلالها باحث يتأمل في العلاقة بين النقد والقاريء العام! فما أكثر العوامل التي تؤثر في طبيعة العلاقة أو العلاقات بينهما! وما أكثر التفرعات التي يجب على الباحث أن يتوقف عندها، منفردة أو مجتمعة، بصيغة تساؤلات تارة أو بصيغة تعريفات أقرب للإفتراضات تارة أخرى قبل أن يستخلص مساراً أو رؤية لعلاقة بين النقد والقرّاء! برغم تلك التحفظات أو الضوابط – كِدت أقول المحاذير – التي لا مناص من النظر فيها فإننا ننطلق من إعتقاد، له ما يبرره، بأن النقد – ونحن هنا بصدد النقد الأدبي - : •له جمهوره من غير المختصين أو المتلقين الطبيعيين أي من غير الأدباء و أهل النقد الأكاديميين. •وإن هذا الجمهور شهد توسعاً بتوسع المساحة التي تحرّك عليها النقد، وبتعدد القنوات التي بثّ خلالها رسائله، ثم تنوّع وإزداد إتساعاً بتنوع مصادر الثقافة وإتساع قاعدة التعليم والحياة الجامعية والقراءة الثقافية بعامة. •وإن هذا الجمهور ينظر للنقد نظرة إحترام ويمنحه دَوراً مهماً في العملية الأدبية خاصة والثقافية عامة، ولذلك فإنه ينتظره ويتابعه وينتظر كلمته في الأعمال الأدبية وفي الأحداث والظواهر الأدبية والثقافية عموماُ. •وعلى ذلك فللنقد دوره وعليه مسؤوليات بسعة ذلك الجمهور بل أكثر سعة، وأنها من العمق بحيث تضرب في أرض الإبداع وتمتد في عروق وآفاق التوجيه. •وإن بالنقد من الإمكانيات ما يستطيع بها أن ينهض بتلك المسؤوليات وأن يلف جمهوره حوله، وأن يؤثر فيه ... بل ويقود، ناهيك عن تأثيره في جمهوره المختص ... في ظل إشتراطات معينة.
الناقد والكاتب الراحل قاسم عبدالأمير عجام
تلك قناعتنا ومنها ننطلق للنظر في علاقات وتفاعلات النقد والقاريء العام وقبل النظر فيها لا بد من كلمة في:
محاور الحلقة الدراسية وموضوعها يشعر المتأمل في الموضوعات العريضة التي دعت حلقتنا الدراسية إليها والقول فيها، أنها متداخلة الى حد التكامل تقريباً، وعلى ذلك فإن تساؤلات المحور الأول مثلاً لا يمكن أن تكتمل ما لم ينطلق الدارس من فهم محدد لوظيفة النقد وهكذا سيجد دارس الموضوع (ما وظيفة النقد / المحور ثانياً – ب) إنه معني بإنجازات المناهج النقدية ليدرس في ضوئها ما يراه من وظيفة أو وظائف للنقد، وإذا درسنا منجزات النقد العربي (المحور ثالثاً) فإن من منجزاته إجابته عن التواصل أو التفاعل بين محور النَص والمتلقي من ناحية وعلاقة النقد والقاريء العام من ناحية أخرى. هذه نقطة نظام لا بد من تسجيلها، ومنها نتوقع تقاطعات أو تلاقيات عديدة بين موضوعات البحث قد تُغري بالقول بتجاوز الباحث محوره أو موضوعه ... غير أننا نرى أن التداخل ووحدة جذر الموضوعات هما الأساس الطبيعي لما قد يُعتبر عبوراً من موضوع الى موضوع آخر. أما موضوعات المحور الذي نتحرك فيه (النقد ووظيفته) فحدِّث عن تداخلها ولا حرج، بل لا يمكن الحديث في أي منها دون المرور بضروريات موضوعي المحور الآخرين.
القسم الأول: مكونات العلاقة بين النقد والقاريء وعواملها
لا يمكن تجاهل حقيقة أن النقد الأدبي اليوم ليس كائناً خارج الحياة الثقافية، غير أنه ليس كائناً ثقافياً ثابت الملامح محدد السِمات، بل إن مناهجه، وقد تعددت،قد أضفت عليه من سِماتها وأهدافها ما يجعلها إزاء ألوانٍ من النقد لكل منها آلياتها ومنطلقاتها، ولغتها وبالتالي جمهورها، وهكذا تتقاطع وتشتبك خطوط الإتصال بين تلك الألوان وبين كل منها والقاريء، أو بينه وبينها مجتمعة بحيث يصعب الحديث عن نقد أدبي محدد، أو عن قاريء عام معيّن. وعليه نجد ضرورياً تحديد من العوامل/ المنطلقات الخاصة بهذا البحث للتحرك منها وبضوئها لدرس جوانبه ... بإعتبارها عوامل تحكم علاقة القاريء بالنقد، وعلاقة النقد بالنَص والقاريء معاً.
أولاً – عوامل النقد: أ – نحن مع القول بأن النقد عملية أدبية، وإنه ليس مجرد عملية بحث لغوي أو أسلوبي في النصوص الأدبية، بل إنه إضافة لمهمته في الكشف عن جوانب إبداع النصوص التي يدرسها ... عمل أدبي يهتم باللغة وبالإنسان وعالمه لا من خلال تجسدهما في النصوص التي يقولاها في البحث فقط وإنما له، بل وعليه، أن ينظر في المحيط الإنساني من خلال علاقته بالعملية الأدبية ذاتها، وهذا مدخل النقد الطبيعي للإهتمام بالشأن الثقافي كله في المجتمع الذي ينشط فيه ... ظواهره، تياراته الأدبية، رموزه وأعلامه الثقافية ... يدرسها، يستخرج عواملها الفاعلة ... ينظر في تفاعلاتها مع النَص ومع الإبداع الأدبي كله، بذلك وعبر ساحة حركته تلك يتواصل مع القاريء العام والخاص ويؤثر فيهما، تأسيساً على ذلك نقول: 1- من الطبيعي أن يتخذ النقد مناهجَ متعددة لممارسة دوره ذاك مثلما يتخذ الأدب بعامة أساليب متنوعة. 2- وكالأدب بعامة، يرتبط النقد بالمجتمع الذي يفرزه ويعايشه وينظر في نصوصه الأدبية، يتأثر بتياراته ويؤثر فيها ولكن بطريقته وبآلياته ومن زاوية إهتماماته لا من خلال الخوض فيها بشكل مباشر، ومن خلال تلك الإهتمامات يبث رسالته. 3- وما دام كذلك فهو مرتبط بمرحلته مستوعب لمكوناتها مستشرف لآفاق تطورها ويمكن أن يكون في مواقع قيادة تطورها الثقافي، وإنه ليس كائناً صلداً خارج التاريخ بل هو في صميم المرحلة التاريخية يأخذ منها ويمنحها وعلى ذلك فهو متغير الملامح وتبعاً لتغير مهامه وأولوياته حتى لَيَرى بعض أساتذة النقد عدم إمكانية تعريفه تعريفاً محدداً لتعدد أغراضه وتغيُّرها وإن إحتفظ بآليات وثوابت تصلح لأكثر من مرحلة. 4- وبمستوى كل ذلك من الأهمية نرى في النقد إبداعاً، عليه ما على الإبداع من مسؤوليات الإبتكار وإقتحام الجديد والتعمُّق في جوانب إبداعه وإن كان إبداعه يكمن في النظر في نصوص أدبية متحققة عليه خلق (فضاء جمالي يكون في مستوى الفضاء الشعري للنص الأدبي) فليس النقد مجرد رؤية متفحصة واصفة بل هو منتج لمعرفة حتى لو كانت معرفة بالنصوص التي يدرسها، ويتطلّب إنتاج المعرفة الكثير بدءاً من إبداع لغة خاصة الإبتكارات وإضافات شتى تحقق للمتلقي الفائدة إضافة لما فيها من متعة. ب – النصوص الأدبية ساحة عمل لمناهج النقد: تقدم خارطة المناهج النقدية التي إنتهت إليها مسيرة النقد الأدبي عبر تاريخه الطويل، فيما تقدِّمه، برهاناً تطبيقياً على صلة النقد بالحياة الثقافية وتطوراتها التي يصنعها التطور الإجتماعي نفسه، إذا إرتبطت المناهج بمراحل ذلك التطور ... فسادَ منهج في فترة ما وأخلي سبيله الى منهج آخر أو فسح له مجاوراً في فترة أخرى، وصنع هذا ما صنع الأول وهو يستقبل منهجاً آخراً، وصار لكل منها مؤيدون وأنصار ومجندون وخصوم أيضاً، فإزدادت مكاسب النصوص الأدبية أو يُفترض أن تزداد ما دامت آليات التعامل معها قد تعددت وتنوعت وإمتدت، وتعمّقت المنطلقات وزوايا النظر فإتسعت وتعددت الرسائل النقدية المبثوثة الى القاريء، لكننا لم نعدم التعصب والجمود في ساحة هذا المنهج أو ذاك، فصرنا نرى نقّاداً يسوقون النَص سوقاً الى ما يتطابق ومنهجهم، وتكررت مساعي القولبة في أكثر من منهج، وتعطلت كثير من النصوص تحت وطأة ذلك عن أن تكون ميداناً لتفعيل وتفجير المناهج بينما إرتفعت شكواها من إتخاذها مطية لهذا الناقد أو ذاك يسوقها عسفاً نحو حقله الذي يراه الأفضل، بينما يقوم مبرر نشوء المناهج ذاتها، كما أشرنا، على التفاعل مع حاجة حقيقية أو تطور في الحياة الثقافية وهو ما لا يستقيم مع المساطر المسبقة، والتلويح بقول فلان وإجتهاد فلتان وكأنها القول الفصل الذي لا مفر من السير عليه! هنا لا نرى علاقة طبيعية للنقد بقارئه إلا بالنظر في النصوص ميداناً لأعمال آليات المنهج في طبقات النصوص للكشف عنها وإعادة ترتيبها بما يكشف عن رسالة النَص وبما يحقق للعمل النقدي إبلاغ رسالته الى أبعد مدى، وعلى ذلك: 1- قد لا تصلح كل المناهج للعمل في كل النصوص، وما أحكم الناقد الذي يتقن التواصل مع النصوص التي يستوعبها منهجه ويستطيع تجاوزه أو أن يطوِّع منهجه لإستيعابها. 2- وقد تصلح كثير من النصوص لما فيها من طبقات وكثافة إبداعية، للعديد من المناهج النقدية، وعندها فإن حصيلة منهج معين لا تعني ضلالاً لمنهج آخر ... فالمسألة هي إستطاعة المنهج إستيعاب النَص لا أن يتعسّفه سوقاً، فالمسألة هي كيف عمل المنهج في دراسة النَص وماذا أنجز ... وهي وغيرها مسائل تفتح للحوار أكثر من باب لا أن تفتح شهية المصادرات المتبادلة. 3- تختلف المناهج في رؤيتها أو تحديدها لوظيفة النقد وبالتالي رؤيتها للناقد نفسه, وتبعاً لذلك تختلف فيما على النقد أن يتناوله وما لا يتناول من قضايا (4) هنا تبقى النصوص محطات إنطلاق للمزيد من الحوار بين المبدع والناقد وبينهما كل على إنفراد وبين القاريء وبينه وبين النَص نفسه، وسيُعيد ذلك القاريء الذي يغادر محطة الناقد فلان للبحث في ثنايا النَص عمّا أثاره أو سبق أن درسه الناقد علان من زاوية أخرى. ج – الدراسات الأدبية يدخل في العلاقة بين النقد والقاريء العام تلك المواد الأدبية التي تقع بين النقد الأدبي البحت، كدراسة لعمل أدبي معين، والكتابة الأدبية بألوانها المتعددة بما فيها الكتابة عن الكتب والظواهر الأدبية ولا سيما تلك التي تسمّى الدراسات الأدبية أو المقالات الأدبية بكافة منطلقاتها وأهدافها ومستوياتها، ومن الطبيعي أن يكون لهذه الدراسات آلياتها وأهدافها التي قد تلتقي أو قد لا تلتقي مع النقد المحض، وأن يكون لها جمهورها ... وما أكثر مَن يعتبرها نقداً أدبياً ويحاكمها على أساس ذلك!(5) قد ترتاد تلك الدراسات مساحات لا يرتادها النقد المحض فتكون لها علاقاتها بقطاعات من القرّاء تستجيب لها وتؤثر من خلال رسائلها بطريقة تتفق أو تختلف مع رسالة نَص نقدي منهجي، من أمثلة تلك الدراسات ... تلك التي تتناول جانباً محدداً أو جوانباً محددة من العمل الأدبي تراه هو الأبرز فيه كالتشكيلي في الشعر بتجربة شاعر ما، أو التقنيات السينمائية في رواية معينة، أو العنصر السردي في قصيدة محددة أو قصائد شاعر معين ... وهكذا. إننا نعتقد أن هذه الدراسات ساحات جذب وتلاق لألوان من القرّاء ومن شأنها دفع المعرفة بالجوانب الثقافية وتفاعلاتها وآليات تحققها خطوات الى الأمام بل إنها في وجه النقد الأبرز بالنسبة للقاريء بصرف النظر عن حجمها (مقال في صفحة ثقافية أو دراسة في مجلة ثقافية كبيرة) ويستطيع النقد أن يتقدّم خلالها داخل جمهور من القرّاء.
*الجزء الأول من ورقة الناقد قاسم عبدالأمير عجام ضمن الحلقة الدراسية لـ "مهرجان المربد الشعري الثالث عشر" 24-11 إلى 1-12-1997
|