صوت مي فاروق : رقة الأنثى العاشقة في قوالب الطرب المتقنة

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM



في مسابقة مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الذي تنظمه سنويا " دار الأوبرا المصرية "  ولدورته في العام 2000 ، كانت الأصوات من مصر وعدد من البلدان العربية تتنافس لإظهار قدراتها على اداء احد اصعب الوان الغناء العربي : غناء القصيدة . ومن شهد الجولة الأولى  في المسابقة ، توقف مليا عند صوت مشبع بالروحية في الإداء ، والقدرة على استحضار قوالب الطرب بحسب الأصول التي رسختها اصوات الغناء العربي الأصيل .
هذا المزيج من اتقان القوالب كما عند ام كلثوم ومرونة  صوتها وسعته ، الى جانب رقة صوت فائزة احمد ، امكن الوصول اليه في صوت الشابة فاروق التي اجتازت المتنافسين بثقة لتظفر بالجائزة الأولى بين الأصوات المتبارية في قالب " القصيدة المغناة" .
وفي ليلة ختام المهرجان كانت مي فاروق تواجه اختبارا حقيقيا ، فهاهي تغني امام محفل موسيقي هو الأبرز ، لجهة الفنانين والباحثين الموسيقيين  المصريين والعرب  المشاركين . ومع تدفق صوتها ونبرات العذوبة فيه تركت المطربة الشابة رنينا سيصبح ملاصقا لإسمها.
واسمها عاد وبثقة  ضمن فقرة خاصة في برنامج المهرجان في دورته للعام 2001 ، وكان ظهورها بحسب  لمسة مؤزارة قوية من مديرة المهرجان الفنانة د.رتيبة الحفني التي وجدت ان صوت مي فاروق الذي كان وفر للمطربة الشابة الجائزة الأولى في مهرجان الأغنية الذي تنظمه وزارة السياحة المصرية ، قادر على ان يحضر بثقة المطربات المتمرسات ، وهو ماتحقق حين غنت فاروق " خاف الله" بحسب اداء شخصي لم يقع في اسر تقليد الصوت الأصلي للأغنية ، صوت المطربة الراحلة فائزة احمد.
مي فاروق ، صارت في غضون فترة بسيطة من " نجمات دار الأوبرا " الى جانب ريهام عبد الحكيم ( ادت وغنت باقتدار في مسلسل ام كلثوم ) وآمال ماهر . وصار اسمها قرينا بحفلات تستعيد ما بات يعرف في مصر " زمن الغناء الجميل ". وفضاءات  كهذه وفرت لصاحبة الصوت المتدفق عذوبة ومهارة في التطريب ، ان تجعلها قريبة من الينابيع الصافية للغناء ، مثلما ابعدتها شيئا فشيئا عن الغناء العابر السائد ، وكان لذلك الإبتعاد ثمنه: انها لم تجد الطريق سالكة الى اغنيات خاصة بها !
صحيح ان مي فاروق في مقتبل عمرها ( في الثانية والعشرين  حين كتبت هذه المقالة) ، ولكنها لاتخفى احساسا بالجزع وهي تجد نفسها ابعد ما تكون عن الغناء السائد اليوم ، وان كانت لاتتردد من سماع كل الوان مايغنى هذه الأيام ، وتجد في ما تغنيه المصرية انغام ، والسورية اصالة و التونسي صابر الرباعي ، متعة ترتاح اليها ، كالمتعة التي تجد نفسها مشدودة اليها وهي تغني ام كلثوم وعبد الحليم ، في امكنة عدة وازمنة متباينة : " اغني دائما وفي امكنة لاتخطر على بال ، حتى انني اجد والدتي التي تصاحبني في الإمكنة العامة ، تتركني وحيدة ، حين ابدأ  الغناء بين الناس دون ان ادري "!
وما فاقم ابتعاد مي فاروق عن العابر من الغناء ، هو انها باتت تقيم صلات فنية جادة مع موسيقيين يؤسسون من خلال دار الأوبرا ، اشكالا واساليب ليست عادية ، كما هي حال المؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي المقتدر نصير شمّه الذي اسس وادار " بيت العود العربي " وتمكن من خلاله ، ان ينظم عددا من الأمسيات الموسيقية النادرة ، كان من بينها غير امسية للغناء الصوفي والروحي العميق قدمها صاحب " قصة حب شرقية "  في ليال رمضانية ب " امسيات العشق الإلهي".

مي فاروق: حين غنت شعر أدونيس بحسب موسيقى نصير شمه
 
مي فاروق وجدت نفسها في انماط لحنية محكمة تناسب ما في صوتها من سعة ، مثلما وجت انها تؤدي ما يمنح روحها عمقا واكتشافا لمعارف " ما كنت سأجد نفسي وقد اقتربت من ينابيع الفكر والشعر والألحان الأصيلة لولا معرفتي التي تتعمق بفن نصير شمه".
صوت سكب فيه الخالق ، نعومة المخمل وطراوته ، مثلما سكب فيه سعة العواطف وتنوع المشاعر ، هو صوت مي فاروق التي لم تضع حدا لمغامرة " الغناء المختلف " ، الغناء المنفتح على المعرفة والفنون العالية ، على الشعر العربي المعاصر وبحسب واحد من ابرز رموزه: ادونيس ، فالمطربة الشابة التي تتمتع بثقة الكبار وبراعة اساطين النغم وتجلياتهم ، ادت بحسب الحان برع شمه في صناعتها ، نصوصا من شعر صاحب " اغاني مهيار الدمشقي"، وضمن قوالب اقل ما يقال عنها انها قوالب الطرب العربي .
هي مجموعة من التحديات خاضتها المطربة الشابة وعبرتها بنجاح : فهم القالب اللحني ، معايشة المعنى في نصوص شعرية  لاتتميز بغنائية معلنة ، والأهم هو في تقديم تلك النصوص ضمن " ميلودي " يجعلها قريبة الى النفس والذاكرة كأغنية عاطفية رقيقة.
تلك كانت تجربة ظهرت فيها مطربتنا الشابة حين احيا الموسيقار العراقي " ليلة استثنائية " في دار الأوبرا ، ليلة قدم فيها ادونيس شعره ، بحضور هو مزيج من حكمة الشاعر المخضب بالألم ، مثلما قدم فيها صاحب موسيقى " مقامات زرياب" تنويعات من فنون عزفه على العود ، واشكاله في التأليف الموسيقي .
مي فاروق غنت في تلك  الليلة الإستثنائية  " لانعرف  الحب الذي قالوه "عبر لحن منسوج من كلاسيكية متقنة ، كأنك تسمع لحنا من اشراقات عبد الوهاب ، او لحنا من البناء المحكم للسنباطي في عملهما على القصائد، غير ان حساسية شمة وبراعة لحنه هما الحاضرتان وسط عذوبة من صوت فاروق حين تصور الكلام وتضفي عليه طراوة نادرة.
وهكذا جاء صوتا المطربة المصرية الشابة مي فاروق والفلسطينية التي شاركت في الأمسية عبير صنصور، متوافقين رغم اختلاف مساريهما . في صوت الأولى عمق وطرب وسعة في الوان الغناء العربي المتقن، في ما صوت الثانية مجروح ومرهف ورقيق ومبتكر، كأن الميزتين تقاربان ما تنتظم من عوالم في شعر ادونيس .
امل مجروح  تستشفه من المطربة مي فاروق  التي تواصل دراستها الموسيقية الأكاديمية ، وهي تقول : "لم ازل في اول الطريق ، وان يكون لي غنائي الخاص ليس بالأمل الصعب على الرغم من احساس بسوء الحظ بات ينتابني ، فلم يطرق عليّ احد بابي مقترحا مشروع لحن اكتشف فيه ساحة  الغناء المعاصر".

نشرت في عدد من المجلات والصحف العربية 2002.    



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM