علي عبدالأمير عجام
في العام 1993 تلقيت دعوةً من قسم الموسيقى في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد لإلقاء محاضرة عن شغفي الشخصي حينها بالتيارات الموسيقية المجردة الأحدث في العالم متمثلةً بـ "موسيقى العصر الحديث". توجست من تلك الدعوة وتوقعتها ستكون مناسبة للسخرية من تلك الأنغام، التي كنت أكتب عنها بجدية وانتظام، لا سيما أن أساتذة القسم بل رئيسه وهو أحد أعلام الموسيقى الكلاسيكية في العراق الأستاذ الدكتور طارق حسون فريد سيكون حاضراً، بل أن الدعوة التي نقلها أحد الأصدقاء كانت من الأستاذ فريد شخصياً، صاحب المؤلفات المهمة في مجال الموسيقى لعدد من أبرز العروض المسرحية العراقية فضلاً عن كونه صاحب الدرس الموسيقي الأكاديمي الصارم. هذا الاحساس الارتيابي جعلني أتزود بالكثير من المعلومات، فضلاً عن التي أعرف وأثق بمصدرها، عن موسيقى العصر الحديث " نيو أيج ميوزيك"، فثمة دراسات عن هذا اللون الذي عرف اصطلاحاً بكونه "الموسيقى الأليكترونية" من المصري القدير فؤاد زكريا والعراقي البارع علي الشوك والكثير من الدراسات بالأنجليزية التي عنيت بهذا النوع من الانتاج النغمي. عرضت بنود محاضرتي نظرياً وترجمت لفقراتها عبر مقاطع تؤكد أسباب دفاعي عن تلك الأنغام، بعد تقديمي من (ابن الاكاديمية) الشاعر والمسرحي كاظم النصّار. وجاءت أجهزتي الموسيقية الشخصية التي استخدمتها في المحاضرة تطبيقاً عملياً لمسارها النظري، فهي أجهزة رقمية على الأغلب لم تكن معروفة على نحو واسع في العراق الذي أكلته الحروب وبدأ الحصار ينهش مرافقة المادية والروحية. كل مشاعري الارتيابية تبخرت بعد نهاية المحاضرة ليقف الأستاذ الدكتور طارق حسون فريد محييا مع طالباته وطلبته صاحب السطور وجهده في التعريف بمسار نغمي بات مؤثراً في الذائقة المعاصرة ومتداخلاً بقوة مع فنون أخرى وتحديداً الفنون المشهدية: السينما، المسرح والتلفزيون وغيره من الوسائط الإعلامية.
الأستاذ الدكتور طارق حسون فريد بين زمنين
نزلت من منصة تقديم المحاضرة وذهبت نحو الأستاذ فريد مع انحناءة مستحقة حين أصبحت أمامه، شاكراً له هذه الفرصة النادرة في تقديم بعض معارفي الموسيقية إلى جمهور أكاديمي عرف النغم من كبار موسيقيي البلاد وأعلامها. بعد سنوات فجعت حقاً بالطريقة التي انتهت بها حياة الباحث والمؤلف والاستاذ فريد، فالكربلائي المولود بالعام 1934، والذي أنهى دراسته في دار المعلمين الابتدائية، وتعلم العزف على الكمان على يدي الفنان المربي أكرم رؤوف بابان وواصل ذلك في معهد الفنون الجميلة على يد الروماني ساندو ألبو ثم عمّق موهبته وعلومه بالدراسة في جمهورية سلوفاكيا (يوم كانت جزءاً من دولة موحدة مع جمهورية التشيك)، فجعت بالعالم والموسيقار الكبير وقد وافته المنية إثر انفجار قنينة لغاز الطبخ في منزله ببغداد أواخر العام 2018. صاحب البرنامج الإذاعي والتلفزيوني "من ألحان الشعوب" ونحو 15 أغنیة ومعزوفة فضلاً عن تأليف موسيقى مسرحیات عدّة من أبرزها "المفتاح" و"الخرابة" و14 كتاباً في تاريخ الموسيقى أبرزها "مع الموسيقى العالمية" و"مبادئ الموسیقى" و" العود العربي – العود من بابل إلى بغداد"، انتهى بطريقة فاجعة هي متصلة كما ارى بفجيعة مصير أهل المعرفة في بلاد تصرّ دائماً على تكريم ورفعة أهل التخلف والبذاءة الانسانية والفكرية بمقابل اهمالها الرهيب حد الموت لكل صاحب روح مبدعة وفكرة خلّاقة.
|