علي عبدالأمير عجام
ما انفك عازف البيانو والمؤلف الموسيقي العراقي المهاجر الى كندا منذ نحو 25 عاما، ترافليان ساكو، مشغولا بضخ روح بلاده الاولى ورموزها التاريخية والانسانية في مؤلفاته، بل حتى في مقطوعات البيانو التي يستعيد فيها انغاما شعبية من نينوى، فهو يرفع من سوية الذكريات الشخصية والتاريخية الى مصاف العمل الموسيقي الرصين. ففي عمله " نغم من نينوى"، يعيد تقديم لحن اغنية شعبية هي من نوادر النغم في المنطقة التي عنت له، ليس مجرد البيئة الجغرافية والاجتماعية للكلدان والاشوريين العراقيين، بل اتصالا تاريخيا مع عمق "بلاد ما بين النهرين"، ليكتب لها مؤلفا موسيقيا مميزا، لا لكونه نادرا وحسب ، لاسيما ان التأليف الموسيقي الالي ( الموسيقى الصرفة او المجردة) يبدو صعبا ولا احد يقاربه بسهولة، بل لما تضمنه من اشارات تدل على رؤية جمالية عبر النغم لحلم طويل يمتد من اثر البلاد المتعبة في يومياتها الراهنة الى صورتها يوم كانت مهدا حضاريا اسمه "ميسوبوتاميا" وهو الذي حضر عنوانا لعمله " رابسودي ما بين النهرين" الذي جاء تعريفا غنيا بموهبة ساكو مؤلفا لعمل موسيقي يستحق الدرس وليس مجرد الاصغاء وحسب، فـ"الرابسودي" هو بالاصل "مصطلح إغريقى الأصل يعنى قصيدة شعرية تلقي بشكل غنائي ملحمي بواسطة الشعراء الجوالين فى اليونان القديمة" لكنه صار لاحقا شكلا موسيقيا اليا من حركة واحدة طويلة.
و "الكلدوآشوريين" هم السكان الأصليون لبلاد ما بين النهرين "ميسوبوتاميا" ولها تاريخ يمتد على مدى 6700 سنة، واقاموا الإمبراطورية الآشورية القديمة كواحدة من أقدم الحضارات الانسانية، و على الرغم من أنها انتهت قبل ستة قرون من الميلاد، الا ان سجلها التاريخي مليء بتفاصيل وثقت حكاية حضارة وسمت الشرق الأدنى بأكمله، وعلى الأخص منطقة "الهلال الخصيب"، والعمل الموسيقي لابن هذه الحضارة، بدا نشيدا انسانيا للتذكير بامجادها. وجاء اختيار "الرابسودي" من قبل ترافليان ساكو، مهما لجهة انه يوفر جوا من العفوية والارتجال بما يجعله أكثر حرية من الاشكال الموسيقية الاخرى، وهذه "الطواعية" جعلته يقارب برشاقة لحنية، معالم القوة الابدية، عظمة الخلق، والارث الرافديني العميق، عبرسرد حكائي سريع تتولى ضربات البيانو ترجمته كأنه الراوي لتلك السيرة المصيرية المنتقلة من الفرح النادر الى التراجيديا الطويلة، ، فيما الكمانات تصور بعض التراجع ولكنه ليس الانكسار. وعبر دقائق قليلة يستغرقها وقت العمل الذي يفتتح عبر الابواق الصادحة ومن ثم تدخل الكمانات والبيانو وخلفية صوتية لكورال من هتاف بل نشيد للفرح وللامل، امكن للمستمع، الوقوف بتمهل عن انتقالات عاصفة بين القوة، الجمال، والسمو الانساني من رحلة عبر التاريخ. ترافليان ساكو الذي عرف شخصيا، مسارات حياتية صعبة، عبر دراسته الموسيقى في بغداد في اجواء من التضييق السياسي على عائلته، ثم العيش في ظروف ليست سارة اثتاء اقامته سنوات طويلة في العاصمة الاردنية والعمل في الموسيقى، عزفا وتدريسا، لم يتوقف في مؤلفاته عند حكاية الارث التاريخي الحي لبلاده الاولى، وراح يتصل باشارات واقعية كما جسدها في مؤلفه للبيانو " خلف القضبان"، فبين الفرح والتحليق على اجنحته والانكسار، تتتابع الانغام لتجسد " البرىء" المتطلع الى حريته، ففضلا عن لحظات غضب تصل الى حد تخبط الروح فتنكسر الى وحدتها ووحشتها، يظل هناك موضع للاحلام وهي تداعب المنكسر الوحيد، فتعيد له نبض حلم بالحرية، نبضا ايقاعا بهيا حيويا يجسده ساكو عزفا لا اعذب ولا اصفى على مفاتيح البيانو التي لا تهدأ الا حين تلتمس روح الوحيد في سجنه بعض الهدوء لتعاين محنتها وصبرها وما تبقى لها من امال. ولا يتوقف عمل ساكو عند التأليف وحسب، بل ان عزفه على البيانو هو من النوع الخاص، والذي يحيل الى فكرة مفادها: ما العازف، ان لم يكن روحا قبل ان يكون مهارة تقنية وبراعة اسلوب؟ انه يكسب روحيته في طريقة عزفه ومقاربته على البيانو حتى لاعمال اساطين الموسيقى الغربية الكلاسكية، لكن هذه "الروحية" تتضح كثيرا في عزفه لاعمال معاصرة، تحتمل الحرية واضفاء التنويعات " فاريشينز" على اللحن الاصلي، وهو ما انجزه بعزف شخصي على البيانو، يستعيد فيه النغم الاساسي (ثيم) للفيلم الاميركي الشهير " قصة حب"، حد انه اضفى شخصيته الموسيقية على اللحن الاصلي بما يجعل المتلقي وكأنه يسمع اللحن بنسخة اكثر صفاء وعذوبة . ترافليان ساكو ( 55 عاما)، يوثق خلال اقامته الكندية، قصة نجاح اخرى لموسيقيين عراقيين ضاقت بهم بلادهم، وتوزعوا، منذ عقود، ارجاء المعمورة في نشيد متصل بحثا عن "ميسوبوتاميا" اقرب الى الضائعة.
|