نص مشترك بين علي عبد الأمير عجام وعبد الخالق كيطان
لم تكن عمّان* تشبه أي عاصمة نفي بالنسبة للمثقفين العراقيين، فهي كانت المحطة الوحيدة التي تسمح للعراقيين بالعبور، لنحو عشر سنوات من عزلةٍ فرضت على البلاد بعد غزو الكويت. الجغرافيا ونهج سياسي أردني معتدل، عاملان جعلا عمّان البوابةَ الوحيدة لخروج ملايين من العراقيين، وعرفت مدينة التلال السبعة من حشود الهجرة العراقية ألواناً مختلفة، فالأردن كان بوابةَ العراق في تسعينيات القرن الماضي بامتياز. إليه جاء المرعوبون من الحروب وكوارث الحصارات، الناجون من المقابر الجماعية، أكاديميون هالهم أن يتحولوا الى كيانات مفرغة من الفاعلية العلمية والإنسانية، أطباء ومهندسون اقفلت أمامهم أبواب المستقبل، عمّال حملوا اسئلة الحاجة على راحة اليد، وراحوا يعرضون أنفسهم عمّالا بأجور أرخص من أجل توفير لقمة خبز لإجسادٍ متعبة وأرواحٍ أكثر تعباً في داخل البلاد. إلى عمّان جاء أيضا تجارٌ وقوادون بصحبتهم شابات هن من "الماجدات" اللواتي قال الرئيس السابق صدام حسين انه شن حرب الكويت من أجلهن، وإليها جاءت نسوةٌ من أقاليم الجوع والضنك، من أقاليم الفقر في بلاد كان يفترض وبحسب مواردها أن تكون من أغنى بلدان العالم، وعلى امتداد السنوات 1991-2003 كان مشهدُ النسوة العراقيات المتشحات بالسواد والمفترشات زوايا على أرصفة عمّان والمدن الأردنية الكبرى، تلخيصاً مكثفا لمشهد الكارثة العراقية. لم يقتصر مشهدُ الرحيل إلى الأردن على هامشيي العراق (هل هم هامشيون فعلا؟)، وإنما شمل وفود النظام الحاكم في بغداد، والتي كانت تمرّ من خلال الأردن إلى دول العالم المختلفة، ولم يكن غريباً أن يجتمع في مطار الملكة علياء وضمن مشهد واحد ملمحان متناقضان: عراقيون رسميون من وزارات الحكم ومخابراته، ومنفيون وجدوا رحمةً من "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" وسماواتٍ مفتوحةً للأمل في بلدان مانحة لحق اللجوء بعد أن ضاقت سماءُ البلاد وشحت على أهلها بالآمان. الوفودُ الرسميةُ لحكومة صدام كانت تتضمن عنصراً من المخابرات، يسجل على الوفد المرافق كلَّ شاردةٍ وواردة، وكان من اختصاصات " العين الساهرة" أيضاً رصدُ محاولات أعضاء الوفد الاتصال بالعراقيين المقيمين خارج العراق، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هؤلاء العراقيين كثيراً ما نظرت إليهم السطات باعتبارهم (خونة ومرتدين وعملاء يعيشون على فتات موائد الأجنبي، ومعارضي فنادق)، فان الاتصال بهم يصبح من قبيل المحرمات التي إن تمَّ تجاوزها، فابوابُ الرعبٍ مفتوحة.
سفاراتُ النظام السابق كانت صورة مناقضةً تماما للمعنى الذي قامت عليه سفارات الدنيا مثلما كانت الدولة التي أقامها "البعث" مناقضة للمفهوم الذي ثبتته التجارب الإنسانية المتقدمة، وسفارةُ العراق في عمّان كانت في تسعينيات القرن الماضي تكثيفاً لمفهوم جعل السفارة محطةً أمنية بامتياز، دبلوماسيوها هم أبرع ضباط المخابرات، وبما إن وجود العراقيين في الأردن كان يتسم بمتغيراتٍ سريعة لجهة سهولة الإتصال بالعالم والإنفتاح الكبير إذا ما قورنت الحال بالسجن الذي آل إليه الوطن، لذا كانت السفارة في عمّان نشطةً وفاعلةً لا في تقديم الخدمات لمواطنيها، وانما لتذكيرهم بان السجّان في داخل البلاد حاضرٌ هنا أيضا ( كان يحرص رجال أمن المنفذ الحدودي في طريبيل، على العناية بجدارية ضخمة لصدام وضعت في المتر الأخير لحدود البلاد وتحتها عبارة مكثفة الدلالة تقول: "أيها المواطن عليك ان تتذكر إن القائدَ سيكون معك أينما حللت". مخبرو السفارة في عمّان متعددون بتعدد الوجود العراقي، فثمة تجارٌ ورجالُ أعمال، وثمة مهندسون وأطباء وأساتذة جامعة، مثلما كانت هناك نساء مخبرات يبدأن من اللواتي يفترشن الأرض لبيع البضائع العراقية الرخيصة المهربة، ولا ينتهين بسيدات مجتمع أنيقات، وثمة أيضا كتاب وصحافيون. ومن هذا المشهد الأخير يمكن قراءةُ المنفى الثقافي العراقي في الأردن، المنفى المكتظُ بنقيضين: فسحة حرية وإلى جنبها أسئلة الرعب المتمثلة بمخبرين مخلصين لعبارة " تذكّر إن القائد سيكون معك" . وللعراقيين في عمّان، هناك مراكزُ تجمعٍ باتت معروفةً لأي قادم جديد، وهي مراكزٌ تتعلق بشكل أساس بهوية القادمين، فكما للمثقفين مراكزهم، ثمة مراكز لذوي المهن والأعمال الحرة والأمر ينطبق على مجتمعات الجامعيين والأطباء والكفاءات الهندسية والمهارات المتعددة وأبرزها معارف الكومبيوتر والمعلوماتية. أبرز الأمكنة التي كان المثقفُ العراقي الوافدُ إلى عمّان يقصدها هي : "مقهى العاصمة" قبل هدمه في العام 1996 وتحوله فندقاً، "غاليري الفينيق" الذي كان مع الوجود شبه الدائم فيه للشاعر عبد الوهاب البياتي 1991-1998 ملمحاً ثقافياً عراقياً بامتياز، "دارة الفنون"، "رابطة الكتاب الأردنيين"، "رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين"، "المركز الثقافي الملكي" بمهرجاناته وأيامه الثقافية، مكاتب الصحف العربية في عمّان وصولاً إلى " مقهى السنترال "، وهذه كانت الأمكنة العامة التي يعرفها الوجود الثقافي العراقي في الأردن، أما الأمكنة الخاصة فيبرز بينها: مقر "حركة الوفاق الوطني العراقي" المعارضة ومنزل الشاعر علي عبد الأميروقريباً منه منزل القاص علي السوداني، وقبلهما منازل الشاعر عدنان الصائغ والناقد ياسين النصير والناقد كفاح الحبيب والخبير الدولي والفنان المسرحي د. علي شبو. عيون المخبرين " الساهرة" لم تكن لتغفل عن هذه الأماكن مجتمعة.
من اليمين: عبدالستار ناصر، محمد غازي الأخرس، عبدالخالق كيطان، حازم لعيبي وعلي عبدالأمير عجام والصورة في بيته بعمّان
وجوه وأقنعة للوجود الثقافي العراقي في الأردن وجوهٌ مثلما له أقنعة، فحين نعرف إن مئاتٍ سجلوا كمثقفين "تعرضوا الى ظلم النظام في بغداد وقمعه" لدى سجلات "مفوضية اللاجئين"، فهو مؤشر على إن الثقافة كانت قناعاً يضعه كثيرون من أجل الظفر بتضامن المنظمة الإنسانية التقليدي مع المثقف. صحيح إن عددَ المشتغلين في الثقافة بالعراق يتسم بنسبةٍ كبيرة قياساً إلى سكان البلاد، إلا إن ذلك لم يكن مبرراً لـ"استخدام" الثقافة، ولاحقاً استخدام القمع الذي طاول كتّاباً وفنانين حقيقيين، في ادعاء أوصاف " الضحية" لنيل ثمن محدد من سرد قصص كاذبة أمام محامي "المفوضية السامية " وهو هنا: اللجوء. هنا غلتقى في الخديعة والإستخدام الرخيص للنتاج الثقافي العراقي، نموذجان: الأول هو الذي يمثله رهطٌ من شعراء وكتاب وفناني مديح السلطة في داخل الوطن، باستخدامهم الشعر والكتابة والرسم والموسيقى من أجل الظفر برضا الحاكم وبشيءٍ من أموال لم تكن برنين الذهب على أي حال، والثاني هو الذي كان يستخدم الثقافةَ من أجل الظهور بمظهر الضحية والظفر بتوصيف غير حقيقي لـ" المثقف المضطهد". وهو توصيف لم يكن يكلّف صاحبه غيرَ حفنةٍ من مقالات رديئة السبك والمعنى، تنشر في صحف المعارضة العراقية على وجه الخصوص، فضلاً عن صحف عربية عراقية الهوى كصحيفة "الزمان"، مقالاتٌ تختصر ذاتها وفكرتها في رصف أكبر عددٍ من الشتائم لنظام الحكم في بغداد. وضمن سياق كهذا امتدت قائمة "المثقفين المضطهدين" الهاربين إلى عمّان على نحو ناهز الألف، في مؤشر على حفلة خديعة متواصلة إلى أكثر من عقد، حفلة تنكرية استخدم فيها كذابون وأميون، مخبرون وضحايا من قاع المجتمع، الثقافة، قناعاً للظفر بملامح الضحية، وهي ملامحٌ كفيلة بنيل ما عجزت عن تأكيده الوجوه الحقيقية.
هشاشة الثقافة! السؤال لم يكن: لماذا ارتضى مثقفون حقيقيون الركوب في مركب واحد مع جموع من المخادعين، بل لماذا كانت الثقافة العراقية هشةً إلى هذا الحد بحيث يمكن وضعها قناعا مناسباً لكل عابر؟ ثمة قلةٌ بين هذه الفوضى كانت تسأل هذا السؤال، وقلةٌ من بين القلة كانت مستعدةً لمكاشفة عميقة مع استحقاقات جارحة للسؤال. ويبدو إن سطوة الشكل الأدبي على الثقافة العراقية بما فيه من "ذاتية" وغياب العمق الفكري، كانت كفيلةً عند كثيرين بان يضعوا برشاقة وسهولة قناع الثقافة على وجوههم، فالشعرُ والسردُ النثري متداولان حد الرخص، والفارقُ بين المهارة والفرادة واللمسة الأصيلة وبين السطو على تجارب عراقية وعربية واجنبية في فوضى كتابة لامراقب نقدياً لها ولا مرجعيات جدية، بات فرقاً غيرَ محدد الملامح مما جعل مركب الأدب وبالتالي الثقافة مركباً مباحاً، يمكن لكثيرين الصعود إليه دون رادع. هنا يتذكر المقيمون في عمّان من كتاب ومثقفين كيف أصبح توصيف "مثقف عراقي معارض"، وبالتالي "مضطهد" رخيصاً ومبتذلاً لفرط ما انتظم فيه من الأميين والمدّعين وأنصاف الكتاب والشعراء والرسامين، وهؤلاء كانوا "حقيقيين" في الكشف عن وجوههم التي اختفت، إلى حين، خلف قناع الثقافة، فما إن يضعوا "البطاقة الزرقاء" في جيوبهم ويصبح "اللجوء" مضموناً، حتى يتواروا عن "المشهد الثقافي"، وتصبح المسافةُ بينهم وبين انشغالات الكتابة، هي ذاتها المسافة التي ما انفكت تفصل بين نصٍ يفتك بصاحبه، وبين نصٍ لا طعم ولا لون ولا رائحة له. وقائعٌ مثيرةٌ للإمتعاض كهذه لم تفّت في عضد مثقفين كانت الحقيقةُ تشغلهم، مثلما كانت اللحظة العراقية براهن وقائعها في لب نتاجهم الذي انتظم في فكرتين جوهريتين: التعبير عن توق وطنهم الى الإنعتاق من رقبة الطغيان، والتزام البعد الفني في اشكال التعبير أدبا وفنّاً وفكراً. وبحسب ثنائية " الحرية – القمع" وهي من نسيج ثنائيات لطالما أحكمت الحياة العراقية منذ أن أنهت مرحلة "التحرر الوطني" تطوراً طبيعياً لتك الحياة، يمكن قراءةُ الوجود الثقافي العراقي في الأردن، حيث يجد المتابعُ لذلك الوجود، المعارضين علناً لسلطة الطغيان، وهم عددٌ كبيرٌ من المثقفين العراقيين الذين غادروا البلاد بعد هزيمة النظام المدوية في حرب الخليج الثانية 1991 وقمعه الدموي للإنتفاضة الشعبية، في خطوة أولى ضمن نهجٍ متصلٍ قائم على إشهار المواقف المعارضة لسلطة الطغيان في بغداد، ومع مواقف "رائدة" للشاعرين زاهر الجيزاني وصلاح حسن ثم تلاهما الناقد ياسين النصير، يمكن تتبع هذا التيار الذي تواصل فيه أحدث أجيال الأدب والفن في العراق. إعلانُ المواقف المعارضة لسلطة النظام في بغداد، أخذ أشكالاً مختلفةً تبدأ من الموقف السياسي المباشر ولاتنتهي بالنص الأدبي والعمل الفني، مروراً بندوات السجال الفكري، حين بدأ الجو السياسي الأردني الحاكم، بقبول توجيه النقد لسلطة الحكم في العراق من قبل معارضيه من المثقفين الذين باتوا يشكلون وجوداً لافتاً. اعلانُ تلك المواقف جعلَ المثقفين معرضين لخطر ملاحقة السلطات الصدامية، وهو ما جعلَ وجودهم في عمّان، وجوداً بين نارين : نار ملاحقة السلطة لمعارضيها وإن كانوا خارج البلاد، ونار الإقامة غير الرسمية في البلد . وللخروج من هذه النار أو تلك، صارالأردن بوابةً لأمكنة أخرى يقصدها المثقفون "المعارضون" أو أنهم يتخذون منه مستقراً ولو إلى حين، عبر العمل في منابر ثقافية وفكرية واكاديمية أو العمل في المؤسسة الإعلامية لحركة الوفاق الوطني العراقي المعارضة والتي كانت فتحت مقرا لها في نيسان العام 1996 وضمت مثقفين واعلاميين عراقيين. ورغم تطمينات جراء الإنتظام في العمل مع "الوفاق" عبر توفير الحماية والإقامة السنوي، إلا إن عدداً كبيراً من المثقفين آثر التقدم بطلبات اللجوء الى "المفوضية السامية لشؤون اللاجئين " التي وفّرت بدورها لنسبة غير قليلة من مثقفي العراق الهاربين من "جحيم البلاد" أمكنة آمنة في بلدانأ أوروبية: هولندا، السويد، النرويج، الدانمارك وفنلندا إلى جانب أميركا، كندا، أستراليا ونيوزلندا. وثمة من مثقفي العراق من كانوا لا يرون خيراً لا في النظام، ولا في فصائل المعارضة، وهم ممثلون بمجموعةٍ من المثقفين العراقيين ممن آثروا الصمت، ولم تكن لهم مواقفٌ سياسيةٌ معلنة. وفي خروجهم من البلاد كانوا يصرّون على إن سفرهم من أجل العمل وإن صلاتهم بالوطن ستظل فاعلةً ومؤثرة، كأن نظرائهم ممن تحدوا سلطةَ الموت، فقدوا تلك الصلات! المجموعة تلك كانت تصل الأردن في طريقها إلى فرص عمل معقولة داخله أو تسافر إلى ليبيا واليمن وبعض دول الخليج. المثقفون ممن حرصوا على مغادرة البلاد دون إثارة ضغينة النظام، كانوا يتهيبون اللقاء مع "مثقفي المعارضة"، وذلك "حرصاً على أنفسهم وعائلاتهم داخل البلاد" كأن من أعلن موقفه المعارض للسلطة لاجذر له ولا أهل يخاف عليهم! وفي عمّان كانت هناك فسحةٌ لمثقفي السلطة العراقية وشعراء مؤسساتها وهم في سفرات عمل أو "اجازات ترويحية"، فإليها كان يصل أدباء السلطة ومثقفوها في إيفاد رسمي لقضاء "أجازة نفسية" في هذه العاصمة بعد حصولهم على دعوات من إحدى المؤسسات الثقافية والفنية والأكاديمية الأردنية. ولأن هؤلاء تنتظرهم عودة سريعة إلى العراق فإن جلّ ماكان يشغلهم هو تحاشي "مثقفي المعارضة" حتى وإن كانوا ممن تجمعهم صلات شخصية بهم، عدا عدد ممن تمتعوا بولاءٍ تام للسلطة في بغداد، فهم يحضرون إلى أماكن تواجد "المعارضين" ملوحين باشارات التهديد أو السخرية في أفضل الأحوال مما ينشط فيه كتاب وفنانون . الوفودُ الثقافيةُ والفنية التي ترسلها المؤسسة الرسمية كانت أما تصل إلى عمّان للمشاركة في فعالية تقام أصلاً في العاصمة الأردنية أو أنها في طريقها للمشاركة في فعالية تقام في عاصمة أخرى. وهي كانت تشهد وجود "عنصر مخابراتي " بينها لضبط تصرفات الأعضاء ومراقبتهم، وبالتالي فثمة عوائق ومخاوف جدية تمنع اتصال كتاب ومسرحيين وموسيقيين مع اصدقاء لهم فرقتهم المواقف من سلطة الطغيان، غير إن تلك الموانعَ والعقبات كانت تسقط في "لحظات صفاء" نادرةٍ حين كان يتصل الخارجون من جحيم صاحب "أم المعارك" بتلفونات أصدقاء لهم ليلتقوا خلسةً وبعيدا عن عيون الرقيب المرافق في جلسات ليال حميمة، كانت تنتهي بأشواق تشبه الإنفاس المنهكة المتقطعة. وثمة من كان يصل إلى عمّان، من طائفة من الكتاب والفنانين الأكاديميين العاملين في جامعات ومؤسسات بحثية، فضلاً عن كتاب وصحافيين يجدون فرص عمل وإن كانت نادرة في صحف ودور نشر أردنية، وبالرغم من أن مثقفين هذه المجموعة كانوا يترددون على الأماكن العامة ذاتها التي يتردد عليها الموصوفون بمعارضة النظام، إلا أنهم كثيراً ما أبقوا حدوداً بينهم وبين زملائهم في الكلمة مخافةَ عيون الشرطة السرية وتأويلات رجال السفارة، فيما فضّل عددٌ ليس بالقليل منهم النأي بنفسه عن لقاءات وأمكنة "تجلب الشبهات"، وإن كانوا يحاولون البقاء ضمن "منطقة وسطى" فلا هم بقاطعي حبل الود مع السلطة، مثلما حاولوا إنشاء صلة في حدود مع " مثيري المشاكل"! وفي كل الأحوال، ثمة النقيض ونقيضه دائماً في ساحة العمل الثقافي العراقي شديدة التوتر والتعقيد: المثقفُ الهارب من جور السلطات والمثقفُ الذي يرتدي نظارات الرقيب فيلاحق الأول حتى في غربته. لم تكن عمّان استثناءً بل ربما كانت الأبرز في هذا المجال. ولم يكن التمييزُ صعباً بين مواقف شتى للمثقفين العراقيين في عمّان، كان ثمة دائماً "الصامت خائر القوى" و"المقاوم بالكلمة وصدق الضمير"، ثمة من يحسب وجوده (وهذا من حقه) وفق ما تدر عليه النصوص المنشورة في هذا المنبر الثقافي الأردني، أو ذاك العربي حتى وإن كان نشر النصوص يتم باستغلال صورة مهينة للعراقي بشكل عام وللمثقف بشكل خاص (صورة من يبعث الشفقة)، وثمة من يترفع عن سبل ظهور كهذه وفق قاعدة "الوطنُ جريحُ بما يكفي". ثمة بونٌ شاسع بين من يتقاسمون منزلاً مهدماً، وسقوف غرف خفيضة حتى وإن كانوا من طليعة الأدباء العراقيين (الشاعر حسب الشيخ جعفر مثالاً)، غير انهم قاوموا الضنك اليومي وجفاف الوقت وشحة الأمل، قاموا وصبروا من أجل خيارين يوصلان إلى الحرية: الوصول الى المنفى الفسيح أو العودة الى الوطن بعد انقراض ديكتاتور بغداد، وبين من قضوا وجودهم الأردني في أحاديث لاشيء فيها غير أشكال الخديعة، واستغلال الكتابة والمقالة الصحفية في تلفيق قصص "عذاب انساني" وبيعها بدنانير قليلة إلى محتاجيها من الواقفين في طابور الباحثين عن اللجوء من المواطنين العراقيين العاديين. ثمة البونُ الشاسعُ ذاته بين "حاجة" العراقي إلى نافذةٍ للخروج من سجنه وابتزازه في نشر قصص معاناته، عبر وجودهم في منابر إعلامية معارضة، و وضع لوائح بعوائد مالية لقاء نشر تلك القصص، وبين من كانت نصوصهم رسائل حرية العراقي في سجنه، وضمن أجواء السجال حول أفضل الوسائل الفنية في عرض محنة البلاد وانسانها، كان قد عمّروا نصوصهم وأعمالهم بالمحبة، وكان في عمّان مثقفون عراقيون تصل إلى بعضهم دعوات لحضور"مهرجان المربد" في بغداد، فيما تصل آخرين هواتف مجهولة تهدد بالوعيد والثبور.
*جزء من الفصل الرابع ضمن كتاب علي عبدالأمير عجام "أمة في منفى" - "دار الرافدين" 2021.
|