هل تكون كتابتي عن رحيل قاسم عبد الامير عجام مجرد محاولة لدرء الالم الذي انتابني حالما سمعت خبر غيابه،او محاولة اخيرة لايقاظ الوطن في ذكرى من نحب ومن يذهب الى الموت كي يحمل العبء نيابة عن الاخرين ،ارسل لي الخبر صديقي خيون مصحوبا بنعي ومواساة لي انا الصديق البعيد الذي كنت اتابع اخبار صمته وعزلته مقتفيا اثر ذاكرة غابت في متاهات الايام، فمذ عرفت بتعيينه مديرا للثقافة حتى عشت في خوف مفرط من ان يحدث شيء ،وهذا الصباح الذي استيقظ فيه متأخرا ككل صباحاتي اكتشفت ان خوفي قد تأكد ولكن بعد فوات الاوان .
فشرقت في طقس الدموع ،لقد مات صديقي بعد ان اتعبته الحياة كما يموت الشجر مغدورا ولم تترك له فرصة رؤية الوميض الاخير المنبعث من شمس ظهيرة الربيع،كما لو ان الشمس لم تعد تبعث وميضها المستعر داخل روحه القلقة ، هل اغلق عينيه متألما و متحسرا على وداع كل شيء جميل رأه او لم يره خلال حياته التي عاشها في ضنك دائم وتحد خارج عن المألوف، هل حمل جثته نحو الطريق المتسعة بالنخيل والامكنة الاخرى ، هل ترك صورته المدماة على جدارية فائق حسن مثل كوكب أفل فوق مياه الفرات المخضرة ،هل عبرت روحه سياج السهوب وانتشرت بين دوائر الضوء تنتظر ان تلقي غيومها العابرة فوق مساند الريح والبرق والظلال، هنا بعد ثلاثين عاما من اول لقاء بيني وبينه وأخر لقاء لي معه حينما ودعته مسافرا واسررته خبر هجرتي احسست انه قد حمل امتعته وهاجر قبلنا جميعا بجسده الاميل الى الامتلاء والمنتصب بوقفته المهيبة كأنه يستعد للتحدي الدائم لشروط الحياة ومنافسة العاصفة التي استمرت طويلا ،رغم روحه الرومانسية الحانية وضحكته المكتومة الساخرة ولطفه الذي يشعرك دائما بانه الاخ الاكبر ،ونحن في صالة فندق مهرجان المربد قال لي انه قد غادر الوظيفة ولكنهم كانوا يتوسلون له بما يشبه التهديد ان يعيد الحياة الى الزراعة في المحافظة فليس لديهم سواه بامكانياته وعفته المشهورة ، وقال لي لاتحزن فعلي سيهتم بك في الاردن بدلا عني، لم يكن لجيلنا مجرد صديق بل كان رمزا للكثير منا ،كان في شخصيته وتحديه جاذبية قل نظيرها في عهد الظلام وكنا نلجأ اليه ايام المحنة فكان المحطة التي ترفد الآخرين بالامل والنصح والتقويم حتى انه حمّل اخيه الاصغر عبء نفس المشاعر الاميرية الصادقة .
كان مهندسا زراعيا وحاصلا على الماجستير في علوم التربة وامراضها وتلك معلومة لم نكن نعيرها التفاتا وان كانت هذه المعرفة لوحدها عارا على من قتلوه وحرموا منه بلاده ، وكان احد ثلاثة نقاد كبار في النقد السينمائي والتلفزيوني الى جانب الناقد رضا الطيار والناقد ناطق خلوصي ، لقد عرف قاسم عبد الامير عجام كيف يخاطب المواطن العادي بقلم محترف بلغته السهلة والممتعة وبقدراته في استبطان العمل الدرامي وكشف مكنوناته، والذي لايعرفه عنه الكثيرون انه كان مهتما بالقصة والرواية ونقدهما وبالتاكيد لدى عائلته ماكتبه قاسم في سنوات صمته واحتجاجه ، ولما كنت اعمل في جريدة "الجمهورية" سابقا كانت الكثير من مقالاته تحجب بحجج واهية كتأخر المادة او طولها او ضياعها ، ولم يكن هو مهتما بالاضواء فالمقابلة الوحيدة التي اجريت معه كانت في "طريق الشعب" البغدادية في السبعينات والمقالة الاخيرة التي كتبت عنه حينما تسنم منصب المدير الثقافي بعد تحرير العراق ، لن تستطيع سطوري ان تكون بحجم قامة قاسم عبد الامير عجام الذي تسلق لوحده سماءه ليكون نجما في تأريخ وطنه الذي احبه وافتداه وكما قال صديقي الشاعر حميد قاسم : لم يقتلوا الا ملاكا في صورة رجل اسمه قاسم .
*النص نشره القاص والصحافي والمترجم زعيم الطائي المقيم في اميركا بعد ايام على اغتيال قاسم عجام في موقع"كتابات". |