علي عبدالأمير عجام*
نمط آخر من الغناء حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، كان هناك في العراق نمطٌ آخر من الغناء، هو غير العاطفي التقليدي القائم على بث أشواق العاشق/ العاشقة، وهو أيضا غير ذلك الغناء "الوطني" الذي تعتمده الأناشيد المدرسية ووسائل الإعلام الحكومية وحتى السياسية الحزبية. كان ذلك هو الغناء المعني بنقل العاطفة من مستوى علاقة الرجل بالمرأة إلى مستوى تعبيري آخر يتسع لجماليات غير تقليدية، كجماليات المكان العراقي على امتداد تضاريس البلاد. وقد تكون أغنية "على شواطي دجلة" مثالاً نموذجياً ومبكراً على النمط الغنائي الآخر الذي أشرنا إليه، فقد حملت الأنغام، قديمها وجديدها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد و رمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة. لكن قلة منها عنت بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لذلك الرمز، بعيدا عن الإحالات المناسباتية "وطنية" كانت أم تربوية موجهة، بل إن من بين تلك القلة مابدا مخلصا لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة حوله ومنه. وأغنية "على شواطي دجلة.. مر" هي تمثيل فذ لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره كما مويجات النهر وشواطئه. الأغنية هي من إبداع ذلك الثنائي الذي لو نظرنا إليه بشيء من الإنصاف، لكان من أوائل الذي وضع الأساس لهوية وطنية روحية وثقافية عراقية، فقد صاغ كلماتها الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلاف، و وضع لحنها المطواع، الأب الحقيقي للموسيقى العراقية المعاصرة، صالح الكويتي، وغنتها أول مرة سليمة مراد. النص مقام على قراءة شعرية لملامح بيئية و إنسانية تتعلق بالإمتداد الجغرافي الذي يعنيه مروره النهر ببغداد حيث يتجه أهلها في أيام الصيف صوب شاطيء دجلة الممتدة من الباب الشرقي حتى الكرادة الشرقية، ويقيمون فيها بيوتا صيفية من الحصران والخشب معروفة باسم "الجراديغ". تطل واجهاتها الامامية على النهر وتحف بواجهاتها الأخرى الخضر والأزهار ويمضون فيها حياة هانئة حيث الحرية المطلقة والجو اللطيف فيتسامرون في لياليهم على ضوء القمر. نحن هنا حيال احتفال انساني بالطبيعة وجغرافية المكان وملمحه الأبرز، أي النهر وهو ما عبّر عنه الشاعر العلاف بروح آخاذة تجمع التصوير والتلقائية الشديدة: " شوف الطبيعـة/ تزهـي بديعة، إبليلة ربيعة/ يضوي البدر". ففي تلك المسرات البسيطة المتشكلة من "المصايف"، والتعايش الأنيس مع الأوقات الليلية "يشعر الأنسان بالبهجة والسعادة وهو مستلق على سريره وينظر إلى ما حوله من المناظر الخلابة، وقد ارتدت الطبيعة حلتها الزاهية في الليالي المقمرة فتحلو في مياه دجلة السباحة وركوب القوارب، ولقد كانت تلك تموج بآلاف المصطافين مع غروب الشمس وبعده، فمنهم من يقضي الساعات الطوال في الماء ومنهم من يتحول بين الخضرة والأزهار. بينما اعتاد فريق آخر أن يستقل الزوارق للتنقل من جزرة الى جزرة ومن شاطئ إلى شاطئ بمصاحبة الغناء والموسيقى. وتلك الحياة عند البغداديين كانت أحلى ايام حياتهم حيث المتعة واللذة".
هذه الملامح من النشاط الإنساني المتصلة بهبة المكان يترجمها الشاعر الذي كتب كلمات أغلب الأغنيات التي تشكل اليوم الذاكرة الشعبية العراقية: " لفـرش ابرملــه/ على شاطي دجلة، والماي دهله/ هل المنحدر". وكان هذا الملمح المعني بالتصوير البيئي والبشري لمكان محدد، شكل ريادة كبيرة، فهو غيّر الصورة الثابتة عن الغناء بوصفه أشواق محبين وشكواهم، مع إن النص لم يخل من هذا الجانب العاطفي المهم، لكنه جاء متوافقا مع النسيج التصويري للمكان، حد إن عبارات الحب والوله جاء متأثرة بما يفيض به المكان وجغرافيته: "لكَعـد ابـفيـك/ لو سطـع ضيـك، وأمشي على حيك/ صبح وعصر"، بل ثمة تعبير ينتمي إلى حداثة تعبيرية حقيقية، كما في قول الشاعر: "واكتب ابوصفك/ نظـم و نثـر"، قبل أن يذهب في مناجاة المعشوق الهاجر بعبارات صريحة " كَلبك الكاصي/ كطع انفاسي، لاتظن نـاسي/ يـوم الهـجـر"، وحتى في هذا لنلاحظ العبارة الدالة على الإنتظار واللهفة حد "الأنفاس المتقطعة"، وهو لعمري تعبير ذو منظور حداثي لا سيما اذا راعينا زمن النص الغنائي (إربعينات القرن الماضي).
هنا لسنا بصدد بحث توثيقي "يؤرشف" تلك الألحان والأغنيات، بل نحن حيال التنويه بملمح جميل اختفى أو يكاد في الغناء العراقي لاسيما منذ سيطرة المناحات والبكائيات العاطفية الثقيلة في أغنية السبعينيات من القرن الماضي، ثم مرحلة التوحش الغنائي التي مثلتها أغنية الحرب وغناء تمجيد "القائد الفذ" الذي تواصل على نحو عقدين أو أكثر. ولو واصلنا البحث في ذلك المنحى الجمالي الآخر والمختلف، سنجد أغنية "دجلة والفرات" بصوت السيدة مائدة نزهت، اعتماداً على نص كتبه حسين علي ولحن بارع وضعه المقتدر أحمد الخليل، في متابعة للرافدين حتى نقطة التقاء بعضهما البعض عند مدينة القرنة ليتكون شط العرب بعد ذلك.
اللحن يبدأ سريعاً هادراً كأنه يحاكي سرعة تدفق النهرين حتى وصولهما نقطة اللقاء ليبدأ بمنحى متمهل يعمقه صوت المغنية بما يمهد لفضاء أوسع بسعة الشط الفسيح. الجميل في الأغنية هو الاستعارة الموفقة لذلك اللقاء بين دجلة (البنت) والفرات (الولد) وبالتالي ثمة عرس تشهده البصرة "الليلة حنتهم وبالبصرة زفّتهم" التي "غدت جنة". لنلاحظ الأبعاد الجمالية في المكان: أمتداد دجلة النازل من العمارة وأهوارها وامتداد الفرات النازل من الناصرية وأهوارها واللقاء في القرنة (جنة آدم) كما تقول السرديات التاريخية والدينية. ومن القرنة حيث بساتين النخيل على ضفتيه شط العرب نزولاً إلى البصرة و(الخورة) التي هي "جنة زاهية وصورة". ونظل في السياق ذاته لنتوقف عند أغنية أخرى للسيدة مائدة نزهت وهي "بغداد يا بغداد" التي صاغ كلماتها الشاعر الغنائي حسن نعمة العبيدي وأبدع لحنها سمير بغدادي، ونتمعن بـ "بغداد يا نسمة برياض أوطاني/ إنتِ لحن حبي وانشادي" ومع الإيقاع الراقص البهيج تأتي بغداد "يا مبعث إلهامي/ ويامنية أحلامي" وثغرها "البسام على الوادي"، وهنا وعي مكاني دقيق فبغداد تتوسط خصراً حين يقترب نهرا دجلة والفرات من بعضهما ومن ثم ينفتح وادٍ يمتد جنوباً باتجاه الكوت شرقا وبابل غربا.
وفي لمسة مماثلة نتعرف من بين أفانين النغم الغنائي العراقي الذي بدا متمثلا لمرحلة الخمسينيات النادرة وأفكارها التحديثية، على أغنية بعنوان بدا غريبا، لكنه يعني قدرة الثقافة الاجتماعية البغدادية الذاهبة الى التمدن، والإتصال بالآخر، فعنوان مثل "نسمات رومبا وسامبا بغداد"، يعني إتصالا مع أنغام لاتينية كانت حققت شيوعا كبيرا في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، مثل "رومبا" و"سامبا"، ناهيك عن رهافة تصويرية لم تكن الأغنية العراقية، وتحديدا في نصها الشعري، قد وصلت اليها، فالنص الذي كتبه حسن نعمة العبيدي، يبدأ: نسمات من عطر الفجر مرت على شفاف الورد واتمايل الياسمين على الأغصان والروض مليان بسحر نسمه تجي، ونسمه ترد وتطير حياها وشدا الألحان
وهذا التمهيد التصويري المتمثل لأثر الرومانسية في الأدب والفنون، يذهب تلقائيا وبعذوبة الى جانب تعبيري، ينفتح على صلة وجدانية بالوطن، فثمة النداء الجميل: ما أجملك يا كون بسمات الشمس تزهي بروابي بلادنا والنور على الوادي بدى محلاه وكحل عُيون أورادنا وفي هذا تقارب الكلمات مستوى جماليا من التعبير عن المشاعر الوطنية، دون تلك الحماسة الجوفاء من الغثاثة "الثورية" التي ستنقض على كل ما هو وطني أنيق، والحضور القسري للزعيم السياسي والعسكري ملازما للحرب والسيوف والرايات والمشاعر القومية الكريهة، في الأغنية ثمة غنى جمالي تعنيه الأوطان: نسمات من عطر الفجر هبت علينا من بعدها بشاير خير على الأوطان تلك الأغنية النادرة المعبرة عن رومانسية أكثر ندرة في الحياة العراقية المعاصرة، لحنها وفق ذلك المفهوم الإتصالي مع النغم اللاتيني، سمير بغداد (وديع خوندة)، لصوت زوجته المطربة مائدة نزهت، التي تفننت، لا في القدرة على تجسيد تلك الصور المحلقة في افق جمالي واسع، بل في اناقة الاداء، حد انها تبدو وكأنها أتقنت من قبل، أشكال الغناء الغربي، واللاتيني منه على وجه الخصوص. نظل في بغداد وأشواقها الوجدانية كما صاغها شعراً ولحنا، الراحل خزعل مهدي. خذ في هذا الشأن لحنه البارع "صباح الخير" بصوت هناء، نسيج نغمي مطواع، نابض بالرشاقة، في تعبيرية عالية عن ايحاءات الصباح بما فيه من انفتاح على الأمل والتجدد، وبكلام هو من لهجة بغدادية دارجة، لم تحطم ( يوم ابدعها في ستينيات القرن الماضي) دلعها وغنجها فظاظة الهجرات الريفية والبدوية، بعد. النسق اللحني هذا المأخوذ بروح بغداد كمدينة وفكرة ثقافية اساسها الانفتاح على العصر دونما انسلاخ عن الهوية الوطنية، تجده حاضرا في عشرات من الحان الرائد الراحل، بل ان كونه "فنانا فطريا" يؤكد ان اللحظة التي رسخته صاحب اعمال تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالسينما التسجيلية مرورا بالتلفزيون والمسرح، هي لحظة ثقافية رصينة في تاريخ بغداد المعاصر، قائمة على تقدير عال للموهبة بوصفها جوهر العمل الفني، حد ان الفرق الموسيقية التي كانت تسجل الحانه، والأصوات المتمرسة التي كانت تغني تلك الالحان لم تعترض على كون منتجها فناناً فطريا، بل كان الفنانون والمؤسسة والذائقة جميعا تتعاطى مع نتاجه باحترام وتقدير عاليين. تلك لحظة استثنائية، توافرت على أرواح استثنائية أيضا، فابن احدى أكثر المحلات البغدادية (الفضل) صخبا وتلاقحا اجتماعيا، اختصر في قدرته على الابتكار الفني في أكثر من نوع وشكل ومضمار، لحظة كانت تتوق فيها أجيال عراقية للخروج من عتمتها الثقافية والاجتماعية الى فضاءات العصر، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا ثقافة مدينية كانت تتعزز في بغداد وتترسخ، فالى جانب البناء المعماري في المدينة، كانت تقوم شواهد الابداع الفكري والفني الراقي في الموسيقى والتشكيل والمسرح وفي القادم الجديد حينها: التلفزيون.
*الجزء الثاني من بحث مطوّل
|