جميل بشير وحداثة مبكرة في الإندماج "فيوزن" بوصفه شكلاً موسيقياً

تاريخ النشر       28/11/2021 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام

حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي ظل شكل موسيقى الإندماج أو Fusion في العالم محصوراً ببعض تجارب الجاز والقليل من الروك والبوب.
وإذا عرفنا أن هذا الشكل يعني اندماج شكلين موسيقيين وصولاً إلى شكل واحد يحدده على الأغلب العرض الموسيقي والهارموني المطلوب بين العازفين الممثلين لشكل أو أكثر من الموسيقى، فأنه عربياً، وحتى عقد السبعينيات، لم يكن معروفاً على نحو واسع، بل أن وجود الآت وأنغام من ثقافات أخرى كما في الحان عبد الوهاب والرحابنة لا يعني ترجمة للشكل الجديد: فيوزن، بل هو "تطويع" لقدرة تلك الآلات والأنغام ضمن الامتداد الخطي للموسيقى العربية. غير أن تجربة لافتة كالتي عنتها خطوة الموسيقار العراقي الرائد جميل بشير (1920-1977) بدت تمثيلاً جوهرياً لما كان قد بدأه موسيقيون مثل الأميركي مايلز ديفز من اتجاه في الاتصال الثقافي والنغمي لأكثر من شكل موسيقي في عرض واحد أو مقطوعة واحدة.

من أين؟ وكيف؟
كانت الدربة التي تحصل عليها الراحل بشير في العزف المتمرس على أكثر من آلة (العود، الكمان والأكورديون) قد وفّرت له فسحة نغمية واسعة، فيما كان عمله على التوزيع الموسيقي لمختلف الألحان الشرقية: العربية، الكردية والآشورية، قد عنى له أن يكون المايسترو الذي يضبط كل هذا الفيض النغمي في إطار موسيقي حديث له صلة بآخر تطورات هذه الصناعة لا سيما أن جميلاً كان قد أسس ستديو التسجيل الخاص بشركته "بشير فون".
جميل بشير .. لا تمل موسيقاه ولا رقّته وهو المبتكر للحظة عراقية نادرة. هنا أتوقف مليا عند مقطوعته "أيام زمان".. فأستعيد معها رهافة بيتنا وهي تتألق مع أنغام مقطوعته عبر المذياع، وكم كنت مفتونا بها وأنا صغير، أستعيد لحظة كنت تكثفها برقّة متناهية، لحظة انفتاح البلاد وثقافتها على المعاصرة فهو هنا كان يكتب موسيقى، وهو ملمح جديد على أنغامنا وموروثنا، فضلا عن انفتاحه على موسيقى العالم بثقة كبيرة.



لقد انغمس جميل بشير في عملي عضوي وحقيقي مفاده نقل الأنغام الشعبية العراقية من الشفاهية المجردة وخامة الموسيقى والأصوات إلى فضاء التعبير الحديث، عبر وجود الأوركسترا المحترفة واحترام فن "التوزيع الموسيقي".
هنا في صورة الأسطوانة المرفقة (اغنيتان بصوت الراحلة وحيدة خليل) وبانتاج وتوزيع من رائد الحداثة في النغم الموسيقي العراقي جميل بشير، عبر جهد أنيق لم يتكبر على المتلقي بحجة معرفته الموسيقية الغربية والشرقية العميقة.

قد يكون أعلاه جواباً على سؤال "من أين"؟ أما الجواب على سؤال "كيف" فهو حين قام الموسيقار الراحل
جميل بشير باستعادة البيئات الثقافية والاجتماعية العراقية في عمل واحد على الكمان.
وحين تقول إن في العمل المرفق أدناه للراحل الكبير جميل بشير (1921-1977) شيئاً من روحية الغناء الريفي العراقي الأصيل فأنت على حق.
ولو قلت إن فيه شيئأ من النغم الكردي فأنت على حق.
ولو قلت إن فيه شيئا من روحية المقام العراقي (المديني) فأنت محق.
بل حتى لو قلت إن فيه شيئا من "القدود الحلبية" فانت لم تجانب الصواب.
كل هذه البيئات الثقافية- الاجتماعية في عمل قديم تم تسجيله أربعينات القرن الماضي.
لكن ما بدا متصلاً وبشكل حقيقي مع شكل "الإندماج" الموسيقي هو تسجيله عملين لصالح تلفزيون بغداد في ستينيات القرن الماضي مع عازفين على الهارب (ليوناردو فيكارو) والغيتار ( جورجيو أوريدس وأمادو بيثوا) ومن ثقافات عدة (الأرجنتين واسبانيا).
العمل الأول هو "شلالات" الذي يفيض لا بقدرة تصويرية هائلة على التدفق الذي تعنيه المياه في الشلالات، بل في روح الهارموني بين الالات ألشرقية (العود) والغربية، وانتاج نغماً جديداً قائما على الاتصال الموسيقي والثقافي.



يقول الباحث الموسيقي الأستاذ الدكتور سعد الله أغا القلعة عن "شلالات" جميل بشير بوصفها "مغامرة جمعت أوتاراً من ثلاث قارات و أبرزت دفء الشرق":
في ذكرى رحيل الموسيقار العراقي جميل بشير، أحد أبرز أعلام المدرسة العراقية في العزف على العود، ومدير قسم الموسيقى في الإذاعة والتلفزيون، أتوقف عند مغامرة خاضها، عندما فكر في أن يجمع ثلاث آلات موسيقية وترية: آلة الهارب الأوربية و آلة الجيتار في صورتها الأمريكية اللاتينية مع آلة العود المشرقية في صورتها العراقية، وأن يتمكن من إبراز مواطن التميز في آلة العود، نسبة لآلات الغرب.
جاء ذلك عندما زارت فرقة موسيقية أرجنتينية العراق، في منتصف ستينات القرن الماضي، فحفزت في فكره، أن يخوض تلك المغامرة التي كانت غير مضمونة النتائج".


أما العمل الثاني الذي تتجدس فيه روح شكل "الإندماج" الموسيقي، فهو اللحن العراقي الشعبي القديم "جي ما لي والي"، وهنا كان التحدي الذي برز إليه جميل بشير وتفوق فيه أيما تفوق حين جعل المصادر الثقافية والنغمية عبر ألتي الهارب والغيتار تتصل برفق وحنو مع الجذر العراقي المحلي وبسلاسة عجيبة أنتجب لنا نغماً جديداً لكنه لا يتنكر لجوهره الأصلي.


ذلك درس من دورس الريادة في التحديث، دورس العبقري جميل بشير.
 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM