علي عبدالأمير عجام لا جدال حول المكانة الرفيعة المستحقة للمغني ألتون جون في مسار الموسيقى البريطانية والغربية المعاصرة عموما، مثلما لا جدال حول أن أجمل أغنيات صاحب "شمعة في الريح" هي من كتابة الشاعر الغنائي بيرني توبن. تلك الثنائية (جون- توبن) كنت توقفت عندها شخصياً منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي حين عاد ألتون جون إلى مشهد الغناء المعاصر عبر أغنية "ما أزال صامداً"، ولم تنته بأغنية "تضحية" التي قدمتها باستمتاع بالغ في البرنامج التلفزيوني عبر "تلفزيون بغداد" 1993 "موسيقى.. موسيقى"، بل امتدت إلى ترجمة نصوص بيرني توبن المغناة وغيرها التي ظلت قصائد ساحرة في عوالمها التي تسافر ضمن أقاليم البشر والطبيعة والاستعارة بين هذه وتلك.
بيرني توبن زهير الدجيلي
في بغداد بعد نشري مجموعة من تلك النصوص المترجمة 1993، سألني صديق: إذا أمكن لك ان تجد مثالا عراقيا للشاعر بيرني توبن وتأثير نصوصه الغنائية، فمن سيكون؟ وبدون تردد أجبت: زهير الدجيلي. كتبت ضمن دفتر يومياتي، حينها، ملاحظات بشأن القرابة الروحية والجمالية بين نصوص صاحب "أغنيتك" ونصوص صاحب "صار العمر محطات" ولم أكملها، حين صار موعد هجرتي من بغداد على الأبواب. قبل يومين ذكّرتني زوجتي بصندوق نجا من حطام سفننا المهاجرة بين المحيطات، واذا به يتضمن بعض الأوراق التي انتزعتها من دفاتري القديمة، ومنها ورقتان دونت فيهما ملاحظاتي الفاحصة والمقارنة لنصوص الشاعرين العراقي والبريطاني. يكتب بيرني توبن في "جنازة لصديق": "الورود في صندوق خشبي قرب النافذة/ تميل إلى جانب واحد/ كل شيء في هذا البيت ولدت كي تنمو وتموت/ كنت أعزف موسيقى الروك أند رول/ لكن غيتاري لم يستطع التعبير عن معنى فقداني لك". بينما يكتب زهير الدجيلي في أغنية "مغربين" وهي من أرّق ما غنى صاحب الصوت الجهير ياس خضر: "عاشگ يدور بضيمه/ حنيت واترجه/ اترجه دليلي وعيني/ بلچن عذاب إفراگكم/ بهداي من ياذيني". في المقطعين نعاين الحنو البالغ في التعبير عن الخسارة الروحية والهجران والفقد مع الفرق الكبير في البيئة الثقافية والاجتماعية لكل من الشاعرين. وإذا كان الدجيلي بارعا في صوغ حكاية رقيقة ومتأسية في نصوص الغناء العراقي المعاصر، فإنه وصل حدودا لم يطرقها شاعر مثله، حدود التعبيرية المرسومة بالكلمات وهي ما قاربها في رائعته "البارحة": "البارحة/ هاجت اشواك (أشواق) العمر كلهه البارحة/ البارحة/ حنيت إلك بكبر همومي البارحة/ حنيت إلك/ حنة غريب ويذكر احبابه بعد غيبة وسفر/ وشايف حنين الصيف لو جاه الشته وبلا مطر/ وردتك تعاشرني بدال نجوم جانت سارحة/ نجمة تسامرني غصب/ نجمة تكلي.. رايحة". بينما يكتب بيرني توبن في نص أغنية "أحتاجك كي أتغيّر": "أنتِ لستِ سفينة لحمل حياتي/ لقد ابتعدت عن الأكواخ ووجدت نفسي هنا/ مسمراً على حبي في ليالي الوحدة/ إنني احتاج حبك/ حبك يحميني من مخاوفي/ أريدك من ألجأ إليه عندما أتصرف كأعمى/ وأريدك من ألجأ إليه عندما أفقد السيطرة/ أنت ملاكي الحارس الذي يبعد عني البرد". في نص الدجيلي ثمة من "يذكر أحبابه بعد غيبة وسفر"، بينما في نص توبن الذي يبتعد عن مكان يتصل بحبيبته " لقد ابتعدت عن الأكواخ ووجدت نفسي هنا/ مسمراً على حبي في ليالي الوحدة/ إنني احتاج حبك/ حبك يحميني من مخاوفي". مثلما في نص الأول حب ضائع تعوضه أشواق فريدة الصورة والمعنى "ردتك تعاشرني بدال نجوم جانت سارحة" بمقابل حب ضائع مماثل ولكن بمعنى واقعي ومحسوس عند توبن "أريدك من ألجأ إليه عندما أفقد السيطرة/ أنت ملاكي الحارس الذي يبعد عني البرد".
ومثلما كتب الدجيلي في الأغنية العبقرية ذاتها "البارحة": "وصيت إلك/ ياما البحر ضيع وصايا السفن والسفانة/ وصيت إلك/ ياما الدهر غرّك احزان العاشك باحزانه/ وصيت إلك/ حتى العصافير الزغار الفرحوا دنيانه". يكتب توبن عن حبيته التي هي بمثابة "سفينة تحمل حياته" فيما هو مسمرٌ على خشب حبه في ليالي الوحدة، وبينما يوصي الدجيلي "العصافير الزغار" بحمل وصية حبه، يكتب توبن عن حبيته بوصفها "نعمة طاهرة كحمامة". ليس التقابل هنا عند الشاعرين في مجرد الألفاظ ودلالاتها المباشرة، بل بالمعنى العميق والبعيد، فثمة السفن كدلالة عن الرحيل، القسري في معظمه، بمقابل الشعور الراسخ بالود والحب لتأكيد ما لا تأخذه الأمواج في تيهها البعيد، فالدجيلي يقول "غنيت إلك/ كل الأغاني اللي تحبهه البارحه/ غنيت إلك/ وجنت أحسب العشاك (العشاق) يلتمون عندي البارحه/ ولميت إلك كل الأشعار اللعندي حتى أحجيلك" بينما يقول توبن في نص "أغنيتك": "أفضل ما يمكنني فعله/ هديتي هي أغنيتي، التي أضعها في هذه الكلمات/ كم هي رائعة هذه الحياة وأنت مركز العالم/ جلست على السطح كي أكتب هذه الأشعار/ وكانت الشمس لطيفة للغاية". وبمقابل الإحساس بالفناء الشخصي والعام الذي يجيد الدجيلي صوغه ببراعة فريدة ضمن أغنية "مغربين" كما في "ليل ايلم طاريكم/ وانتم جزيرة وهيمة" ثمة الشخصي الذي يبدو مصيرا إنسانيا عند توبن "دمك مثل الشتاء يتجمد مثل الثلج/ وهناك ضوء وحيد بارد يسطع منك/ سينتهي مثل الحطام" وهو ما تضمنته أغنية "ما أزال صامدا"، ليحيلنا الشاعران إلى نوع من الإحساس المبكر بأن المصير الإنساني يزداد لا عزلة وغموضا وحسب، بل مأساوية ويقارب الحطام حين يعلو بنيانه!
|