علي عبد الأمير*
من النادر أن تقع هذه الأيام على مصدر معرفي، يوفر أجوبة ما، لأسئلة عن المأزق الذي انتهت إليه الحداثة في العراق، دولة معاصرة وثقافة وافكاراً، غير أن كتاب الناقدة فاطمة المحسن «تمثّلات الحداثة في ثقافة العراق» يوفر مثل هذا المصدر، لا بل إنه يعيد القضية إلى مجال حيوي، هو السجال الذي ما انفك محتدماً في العراق، منذ أن أظهرت أحداث ما بعد الغزو الأميركي، حال التهرؤ التي وصلت إليه الدولة «الحديثة» ووسائلها في الحكم، لا بل حافات الانحطاط الفكري والإنساني التي قاربها المجتمع في فوضاه المطلقة. وإن كان الكتاب يتوقف فعلياً عند أعتاب سبعينات القرن الماضي، لكنه وفّر، وللمرة الأولى بحثاً متأنياً وواسعاً في آن، لما قادت إليه الصراعات الفكرية - السياسية من تفتّت لمشروع حداثي واعد كانت أربعينات القرن العشرين وخمسيناته تحمله إلى العراق، بل وتشهد على مساراته وبنائه.
فاطمة المحسن في بغداد 2003 (كاميرا علي عبدالأمير عجام)
تضعنا المحسن مبكراً في قلب المشهد الذي تعاينه في كتابها، عبر قول موجز، لكنه على جانب كبير من القوة والتكثيف، لأبي الحداثة التشكيلية العراقية، جواد سليم: «خلال هذه الأربع سنين (يقصد سنوات الحرب العالمية الثانية) التي توقفت فيها باريس وأوروبا عن العمل، لم تتوقف بغداد عن العمل، كانت تعمل ببطء وصمت. كانت فقيرة وجاهلة، لكنها كانت تشتغل خلال هذه الفترة». والإشارة البارزة هنا، من الكاتبة التي تنتمي فكرياً إلى تيار يساري، عارض بلا هوادة، «مشروع الحداثة الواعد» في العراق، الذي أنتجه النظام الملكي، كانت مهمة لجهة الكشف عن «الانفصام» الذي عاشته الثقافة العراقية، فهي ابنة مؤسسة الدولة التي تحض على الحداثة عبر «انتشار التمدن وارتفاع عدد الملتحقين بالمدارس والجامعات، والمستفيدين من المؤسسات العلمية ومناهجها وفرصها»، لكنها أيضاً المولعة بالشقاق والصدام مع الدولة التي استطاعت عبر مؤسسة التعليم من «بناء قاعدة لمنتجي الثقافة ومتلقيها»، ولاحقاً إنجاز المؤسسة الأكاديمية في رفعها قضية الحداثة الغربية إلى مستوى «موضع درس يتردد بين أجواء الجامعات العراقية». وتبرر الكاتبة المحسن، هذا الانفصام الذي ساد مثقفي العراق، وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، بقولها «كان الكثير من مؤسسي الحداثة الفنية والأدبية في العراق، يضمرون إعجاباً وتطلعاً غير مسبوقين للثقافة الغربية، بين أن خيارات نسبة كبيرة منهم، تقف ضد ما يسمى الحداثة السياسية التي جلبتها السيطرة الكولونيالية على العراق».
وفي حين تبدو المؤلفة دقيقة في توصيف حال «الحداثة» بوصفها أمراً مقتصراً على جهود نخب مرتبطة بمشروع الدولة، من دون اتصال بـ «الأكثرية الشعبية»، إلا أنها لم تتوقف، عند العناصر الاجتماعية المتنفذة التي حالت دون حداثة «الأكثرية الشعبية». فلا إشارة عند المحرمات التي أعلنتها المؤسسة الدينية، وتحديداً الشيعية، لمشروع الحداثة الذي تنبته الدولة العراقية المعاصرة منذ تأسيسها، كما غابت الإشارة إلى القيم العشائرية التي ظلت مانعاً لقيم الحداثة أو معرقلاً لها في أحسن الأحوال. وعلى هذا النحو فإن «نخبوية» مشروع الحداثة، كانت بسبب ارتباطها بـ «مشروع الدولة»، حتى وإن كان هذا المشروع هو من بنى المدارس والجامعات وأرسى الطرق للمعرفة. ومثلما وفقت المحسن كثيراً في الإشارة البارعة إلى قول الراحل جواد سليم، عن بغداد التي كانت تعمل، فيما اوروبا تتوقف عن ذلك وتغوص في الحروب، أوجزت الكثير عبر إشارتها إلى «نخبوية الحداثة» في الثقافة العراقية، مرموزاً إليها، بمشهد مقهيين وسط بغداد: كان «السويسرية» و«البرازيلية»، مقهيين يقصدهما مثقفو الطبقة المتوسطة، ويقع مبناهما في قلب العاصمة، يعزلهما زجاج عن لغط الناس وحياتهم اليومية»، لكن مثل هذه الإشارة تأتي أقرب إلى التنميط، إذ نعرف أن كثراً ممن كانوا رواداً ثابتين للمقهيين، هم من قادوا توجيه الثقافة العراقية نحو قضية العدالة التي تستحقها «الأكثرية الشعبية». هذا الكتاب الذي تستأنف فيه المحسن، كتابها السابق «تمثّلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» الذي صدر قبل أربعة أعوام، يغوص في مشروع الحداثة بغية كشف «مأزقه». فسنوات الأربعينات والخمسينات (من القرن الماضي)، «شهدت نضج مشروع الدولة العراقية، كما توضّّّحت من خلاله ملامح طبقة وسطى مؤثرة سواء بمركزها الاقتصادي أو نسبة متعلميها، أو تعدّد مواقع رعاة فكرة التمدين داخلها، إن كانوا من المنضوين تحت لواء السلطة أو المعارضين لها»، لكن «فكرة» الثقافة» نفسها غير قادرة على أن تقدم تفسيراً مقنعاً لحالة عامة، أي ما يعتقده الناس عنها، وما يسلكون من أفعال تعبّر عن تأثيراتها». وعلى رغم تأكيد المؤلفة استنتاجها الأخير وهو «عجز الثقافة عن الوصول إلى حالة عامة»، إلا أن مبحث الكتاب في فصوله ظل يتابع «الحداثة» في مساراتها الثقافية، آداباً وفنوناً، إلا أنها نظرت أيضاً إلى «البيئة التي تنتج التمدين والمثقفين ومتلّقي الثقافة ومعممي نماذجها»، متوقفة في فصل محكم وغني عند «بناء المؤسسة التعليمية وفي أهم مفصل فيها وهو النظام الأكاديمي، حيث ظهرت البحوث في ميادين مختلفة وفي مقدمتها التاريخ وعلم الاجتماع والإنثربولوجيا».
وفي متابعتها ذلك المسار البحثي، تقدم فاطمة المحسن، فضائل جمة لقارئها، من بينها الكشف بمتانة البحث الأكاديمي، عن فصول لا تعتبر من السرديات المتداولة عن الثقافة العراقية وحداثتها، ومنها «جيل مفقود»، يبدو «أصيلاً» في سؤاله الحداثي على رغم «اغترابه» عن القيم السائدة، ويضم القاص أنيس زكي حسين والمترجم الذي نقل مبكراً «اللامنتمي» لكولن ويلسون إلى العربية التي ترجم إليها أيضاً، و«السقطة» و«أسطورة سيزيف» لألبير كامو، و«الإنسان الصرصار» لديستوفسكي، وغيرها من «الترجمات التي ختم بها حياته الأدبية معتزلاً كل ما يمت بصلة إلى العراق الثقافي». ويضم الجيل ذاته، عدنان رؤوف بوصفه «مثقفاً أرستقراطياً على صلة وثيقة بالإنكليزية والأدب الأميركي»، وثمة أيضاً نهاد التكرلي، نجيب المانع ومحمود البريكان، بوصفهم جميعاً من «المغتربين عن مجتمعهم». وعلى الأرجح أنّ ما قدمته فاطمة المحسن في قراءة المسار «الأغترابي» لهؤلاء، يستحق منها أن تقدمه في كتاب على حدة، بقراءة نقدية أدبية لا تفارقها سياقات البحث السوسيولوجي.
كتاب فاطمة المحسن، الذي أنجزته في ظرف عصيب من حياتها «كان مرضي الصعب أحد أسباب انقطاعي عنه فترة من الزمن، ولكنه كان محفزّاً كي استكمل فيه حياتي الطبيعية»، يفيض بعافية المعرفة وجدية البحث وفرادة أفكاره، وهو كتاب رائد في تفكيك أربعينات القرن الماضي وخمسيناته وستيناته الفوّارة بأحداث وتأثيرات لم تقترن بها وحسب، بل طبعت عموم الحياة في البلاد، حتى يومنا هذا الذي شهد فيه «السقوط المدوي للحداثة في العراق».
*نشرت في "الحياة" 2014 وأعادت "المدى" نشر المقالة في 2019.
|