الشعر العراقي الآن طالب عبدالعزيز و"خمس وستون حبّةَ رملٍ في شاحنةٍ كبيرة"!
علي عبدالأمير عجام
يحيلنا نص "في رثاءِ ما سيأتي" للشاعر طالب عبدالعزيز، إلى حساب عسير مع الفذلكة والاستعراض اللغوي الذي اندرجت فيه أجيال من الشعر العراقي المعاصر، ليضعنا حيال الدهشة العظيمة الآسرة البسيطة التي ما انفك الشعر يأتي منها ويدور في فلكها. صحيحٌ ان ذلك البناء (الدهشة البسيطة الآسرة) الذي يعلي فيه الشعر وجوده هو صفة غالبة على معظم ما كتبه صاحب "الخصيبي" إلا أنه يتضح هنا كل الوضوح، ويحيل الشعر إلى جوهر لحظته ولكن بسؤال وجودي عابر لتلك اللحظة الراهنة وإحالاتها. هنا نحن إنسان في "خريف" العمر يتساءل عن "ما الذي سأفعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ لي"؟ فيما الشاعر يصوغ صورة لهذا الكائن في مسارات غربته المتعددة مكانياً وزمانياً: "مدينةٍ لا أعرفها"، "ما الذي سأفعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ لي"؟ وحتى "أكتبُ قصيدةً جديدةً لنْ يحفلَ بها أحدٌ". ومن هذه المسارات يقودنا الشاعر بسلاسة، عبر أسئلة، إلى المعاني العسيرة لوجود أكثر عسراً: "أغرسُ شجرةً لن أتفياها ذاتَ يوم"؟ أو "أركبُ بحراً سأكونُ الناجيَ الوحيدَ فيه"؟ ومن ثم " أقبّل قدمَ حفيدي التي لن يعدوَ بها خلفي"؟
الشاعر طالب عبدالعزيز
ومن هنا نبدأ المفارقة الكلية التي لا تعني مجرد الخيبة من عيش كهذا، بل مراجعته ونقده بقوة المراجعة وجرّه من محطاته الصاخبة إلى نقطة الحساب العسير: "ما الذي سافعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ / وقد دارت على يدي رحى خمسٍ وستينَ قبلها"؟ وبمهارة يقطع الشاعر بنية التكرار التي تعني انتظام سلسلة لا تنتهي من الأبيات والصور لينتقل بسلاسة مرة أخرى إلى بنية الإقرار والإعتراف: "لم أكتبْ فيها القصيدةَ التي أردت / ولم أقرأ فيها الكتابَ الذي أحببت / ولم اسمع فيها الاغنيةَ التي تشوقت / ولم يأتني أحدٌ بصندوقِ النجومِ، حيثُ وعدّت ". ومن بنية السؤال وصولاً إلى بنية الإعتراف مروراً ببنية التكرار نصل إلى الكشوفات الروحية الآسرة في بساطتها واختزالها وجوهرها الإنساني: "مثلَ خمسٍ وستين موجةً غبية ارتطمت بالشاطئ / مثلَ خمسٍ وستينَ حبّةَ رملٍ / في شاحنةٍ كبيرة". لا شيء يحتاجها الشعر أكثر من عبقرية البساطة، ولا مثال جوهرياً على تلك الحاجة كما في صورة معنى الفراغ الذي تعنيه صورة "مثلَ خمسٍ وستينَ حبّةَ رملٍ / في شاحنةٍ كبيرة" .
النص: في رثاءِ ما سيأتي طالب عبد العزيز في حافظةِ الايامِ والليالي ... ما الذي سأفعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ لي ؟ أستقلُ حافلةً في مدينةٍ لا أعرفها ؟ أزورُ مُتحفاً، يُطالعني وجهي في زجاجِ مقتنياته ؟ أكتبُ قصيدةً جديدةً لنْ يحفلَ بها أحدٌ .. ؟ أقرأ فصلاً في كتابٍ عن السعادة ..؟ أحبُّ امراةً التقيتُها في عيادةِ الطبيب ..؟ أشاهدُ فيلماً مرعباً آخرَ..؟ ما الذي سأفعلهُ بالخمسِ الباقياتِ لي ياترى؟ أغرسُ شجرةً لن أتفياها ذاتَ يوم ؟ أركبُ بحراً سأكونُ الناجيَ الوحيدَ فيه ؟ أسكنُ جزيرةً مُوحشةً أخرى ؟ أُكملُ لعبةً الكترونية مات عنها أبطالُها ؟ أقبّل قدمَ حفيدي التي لن يعدوَ بها خلفي ؟ الوقتُ مغلقٌ جداً، وضيقٌ مثلَ حبّةِ فاصولياء .. ما الذي سافعلهُ بالسنواتِ الخمسِ الباقياتِ وقد دارت على يدي رحى خمسٍ وستينَ قبلها ؟ لم أعشقْ فيها المراة التي طلبت ولم أكتبْ فيها القصيدةَ التي أردت ولم أقرأ فيها الكتابَ الذي أحببت ولم اسمع فيها الاغنيةَ التي تشوقت ولم يأتني أحدٌ بصندوقِ النجومِ، حيثُ وعدّت خمسٌ وستون مضت، هكذا مثلَ خمسٍ وستين موجةً غبية ارتطمت بالشاطئ مثلَ خمسٍ وستينَ حبّةَ رملٍ في شاحنةٍ كبيرة.
|