موسيقى "أم هارون" لطارق الناصر.. أن تصوغ نغماً جميلا لمصير شائك
تاريخ النشر
01/06/2020 06:00 AM
علي عبدالأمير
منذ نحو ربع قرن وأنا على نوع من معرفة النسيج النغمي في عمل المؤلف الموسيقي الأردني طارق الناصر، فمن عروض المزاج المختلف مع فرقته "رم" التي صارت ورشة للنغم المعاصر وصولاً إلى موسيقاه التصويرية لأعمال درامية عربية جذبت إليه الانتباه بوصفه صانع أنغام تنتمي لروح العصر دون أن تتنكر لأصولها البيئية والاجتماعية، ناهيك عن مؤازرتها الجمالية للمسار الدرامي في الشخصيات والمصائر والمعاني، وهو جوهر ما نصطلح عليه بـ "الموسيقى التصويرية".
وموسيقى الناصر وجدت اتصالا وثيقا مع الأعمال الدرامية السورية وبالذات تلك التي حملت هي الأخرى لمسات مغايرة في الأخراج والمضمون الدرامي وعناصر الصورة، كما في موسيقاه لأعمال: " نهاية رجل شجاع "، " الجوارح "، " يوميات مدير عام" وصولاً إلى موسيقى العمل الدرامي الفذ "الملك فاروق"وغيرها من الأعمال اللافتة.
في العمل الدرامي الجديد "أم هارون"، ثمة تعقيدات ليست هينة كانت حيال الناصر، فهناك القضية الشائكة: اليهود العرب (من خلال سيدة يهودية مهاجرة من تركيا فالعراق وصولاً الى الخليج حيث تقضي نحو خمسين عاماً)، وثمة البيئة الجغرافية: الصحراء والبحر، وقبل ذلك البيئة الاجتماعية ومزاجها السائد بما يعنيه ثقافة وقيما وتراثاً.
اختار صاحب موسيقى "يا روح"، وبوعي تام، آلتين تقومان بأداء مهمتين جوهريتين: الناي (للتعبير عن حكاية الشخصية الرئيسية) والقانون (للمسارات الاجتماعية المتداخلة)، وهو اختيار على جانب كبير من الفطنة فالناي، بل "أنين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود " كما كتب جبران، يسرد حكاية "أم هارون" بالتلاقي أو بالانفصال عن الجانب الاجتماعي المتداخل وهو ما تتولاه ألة القانون المركبة البناء والنغم.
هذا لم يمنع اتصال الناصر مع موروث نغمي في البيئة الجغرافية والاجتماعية للمنطقة (الخليج) وهو ما لم يكن المؤلف الموسيقي غريباً عنه، فثمة عمله المطول القائم على الاتصال بمنطقة رم الأردنية حيث الصحراء والمكان الخالي الملهم، لكن ذلك لم يكن بعيدا عن نسيج فكري ونغمي دائما ما يشتغل عليه الناصر، فهو يسعى إلى "معرفة الأنغام الأخرى ودون تقديس الهوية الجامدة، ومن هنا تتداخل حدود ورؤى وانغام، بل ان الموسيقى كما الإنسان دائما رؤى الى المستقبل، وفكرة مفتوحة على اتساع" لذا نجد في العمل الجديد روحاً تناسب زمن الحكاية الدرامية وتنتمي للعالم المعاصر، فثمة روح الجاز في مقدمة المسلسل ونهايته، وثمة التدفق الايقاعي المعاصر، بينما تكلفت مقاطع أخرى بترجمة مزيج عجيب من المشاعر، فمن التوق إلى الخيبة ومن الشجاعة إلى التردد والانكسار.
أن الإيمان عند الناصر بفكرة كان قد ضمنها حوار سابق أجريته معه "الفوضى التي يعيشها الإنسان المعاصر تحتم وجود من يهندس هذه الحياة ويبعد عنها تأثير الفوضى"، وجد فرصة أخرى كي يتجسد في عمله الجديد حتى مع الاشكالات التي يثيرها في تلقيه الاجتماعي، لا سيما في قصة اليهود العرب المثيرة للجدل. ولكن الناصر بحسن دربة فكرية وجمالية اعتاد العمل وسط هذه القضايا المثيرة للجدل، خذ عمله النغمي في مسلسل "الملك فاروق" مثالاً، الذي بدا مغايراً لوعي سياسي واجتماعي سائد في مصر والبلدان العربية. هو في موسيقى "أم هارون" سعى إلى "هندسة" مشهد بدا في مساراته ذاهباً إلى فوضى واضحة، فمن الانكسار الفردي إلى الضجيج الجماعي، ومن تضارب انماط الإيمان الديني إلى اظهار المشترك الانساني واختباره في الحياة، ليس عبر استعارات وتاويلات نغمية خارجية بل من جوهر البيئة جغرافيا واجتماعيا، فالناصر لطالما اعتمد البيئة الثقافية للمكان في عمله بل كان أمينا لهذه المعنى ومخلصاً له.
وإذا كان هناك تحد دائم مفاده قدرة الموسيقى التصويرية على ان ترقى إلى مستوى النغم المنفرد الناجح، لجهة قدرته على أن يكون مسموعاً ومؤثراً كعمل صوتي دون اقترانه بالصورة ودلالاتها، فالمستوى التعبيري الذي جاءت عليه موسيقى الناصر يجعلها حقا قادرة على ان تكون عملا نغميا قائما بحد ذاته، يمكن للسامع أن يأنس إليه وقتما شاء، فهو نشيد انساني مرهف حتى مع قوة احالاته الاجتماعية والبيئية الخاصة.