اسلوبه في النقد التلفازي كان مميزا يمتلك منهجا واضحا ورؤية ذات مرجعية ايديولوجية ومعرفية تنتهي الى تمجيد الجمال وقيم الخير وابراز المبادئ النبيلة في الافكار والمعايشة الحياتية والنبذ والتنديد بكل القوى التي تحاول تكبيل الانسان واعاقة هذه القيم الجمالية وتلك المبادئ النبيلة.هذا هو منهجه وهكذا كان صوته جريئا وجسوراً في زمن شحت فيه الجرأة وانحسرت فيه الجسارة لقسوة الحاكمين وبطش الظالمين.
ولم تمنع تلك القسوة وذلك البطش ولا تلك العيون المترصدة على الانفاس وسطور الجرائد..من ان يرسي قاسم عجام تلك الرؤية النقدية من باب فن الدراما وهو حقل متنوع في الرؤى والاساليب والمنهج ومقارب للواقع والتحريض على تغييره.
تعلمنا من قاسم عبد الامير عجام ان نفرز ما تشاهده العين البصيرة،ونكتشف الاعيب الفن في تشويه الافكار او تمرير الرسائل المشبوهة التي تخدم الحكام الصغار المستبدين واسيادهم الرأسماليين الكبار. عرفنا ان النقد الدرامي فنا لابد منه لكي لا ننجر الى خدعه
والاعيبه الخفية التي ترافق الصورة وملحقاتها الجذابة.
كان عجام بالمرصاد عبر مقالاته الاسبوعية في تحليل وشرح ما كنا نشاهده من اعمال درامية وبرامج منوعة لكي نكون على يقظة وانتباه لما تبثه شاشة مبرمجة بأيديولوجية السلطة ومكر اعلامها،ومبكرا ادرك عجام خطورة"الدراما" وتأثيرها في الناس والطبقات الشعبية قبل ان يكون للاعلام المرئي هذا المدى وذلك الانتشار.
أسس تقاليد لفن النقد التلفزيوني..ماتزال بصماتها واضحة حتى هذه اللحظة التي تشح فيها ويندر وجود نقاد للدراما يوازي هذا الكم الهائل من الفضائيات وساعات العرض التي يتعرض اليها المتلقي..بشكل يفوق كل الفنون وانماط الثقافة الاخرى. لو تيسر لاحدى دور النشر العراقية ان تجمع تلك المقالات الرصينة..لاصبح لدى المكتبة العراقية مرجعا مهما في"نقد الدراما التلفزيونية"ووثيقة نادرة من وثائق الثقافة السبعينية المزدهرة بفسحة الحرية العابرة.
احد اصدقائي علّق بطرافة وهو من المتابعين لمقالات قاسم عبد الامير عجام في جريدة "طريق الشعب" بقوله: " عجيب لهذا الناقد المثابر ..يبدو انه يجلس امام التلفزيون من افلام كارتون حتى نهاية السلام الجمهوري يوم كان هناك سلام جمهوري يأذن بنهاية البث".
الصمت المشرف في ذروة الدكتاتورية
في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وفي ذورة بطش الدكتاتورية الصدامية ضد قوى اليسار العراقي والحركات الاسلامية وبدايات مشاريعها الحربية الجهنمية وبعد ان انتهت فترة الهدنة المراوغة والمخاتلة لنظام البعث..صمت الشهيد قاسم عجام.. وأنزوى في وظيفته كمنهدس زراعي في" مشروع المسيب الكبير"دون ضجيج تصورنا ان عجام غادر مع موجات المثقفين الذين فروا من حملات الاضطهاد والتنكيل التي كان يقوم بها النظام ضد جميع شرائح الشعب.
فوجئنا بعد زمن بأن عجام قضى زمن القمع والقسوة والسجون بصمت نادر وقطيعة مع كل مناخات الثقافة السلطوية ومهرجاناتها الزائفة فابتعد عن العاصمة ومهرجانتها الدعائية وصحفها الصفراء ليمارس مهنته كمهندس زراعي ويعلم الله ماذا كتب عبد الامير عجام في فترة الصمت هذه وأية مخطوطات كان يملي فيها هواجسه..ورؤيته النقدية الثاقبة وافكاره التقديمة..لا اعلم اهل كان يكتب رواية ام فصولا نقدية ام دراسات سياسية تستقرئ ظلام الواقع وتستشرف افاق مستقبل غامض الملامح والقسمات..
اصدقاء الشهيد عجام..هم وحدهم من سيجيب عن هذه الاسئلة ويسلطون الاضواء عن تلك المرحلة الصامتة والاحتجاجية من حياة الناقد والكاتب المبدع الشهيد قاسم عجام..
في مطلع الثمانينيات دخلت كلية الزراعة وسمعت من الطلبة حديثا عن طالب مجتهد ويساري اسمه قاسم عبد الامير عجام نال شهادة الماجستير بتفوق اذهل المشرف والمناقشين لرسالته فيما قوى البعث الظلامية ارادوا احباط هذا المناضل الجسور وعدم حصوله على الشهادة العالية،ولكن ذكاءه الحاد ومثابرته ووقوف الطلبة والاساتذة الاحرار معه احبط كل تلك المحاولات السوداء،ليتحول يوم حصول قاسم عبد الامير عجام لشهادة الماجستير في علوم التربة الى عرس وكرنفال لم تشهد مثله كلية الزراعة بجامعة بغداد.
اللقاء الاخير قبل الشهادة
في كل هذه المحطات السابقة..لم اتعرف على الشهيد عجام وجها لوجه..بل كان لقائي به لقاء القارئ بالكاتب ولكن كنت احتفظ بشوق كبير للقائه وشغفا لا حدود له لرؤيته لأتعرف عن قرب على منابع هذه الموسوعة في النقد والثقافة والادب والسياسة ،ولأتلمس هذه الروح الكبيرة التي صمدت وكابدت كل هذه السنوات من المحنة والاضطهاد وتهجير الاصدقاء لتبقى شاهدة على زمن رديء وصفحات سوداء من تاريخه .حانت الفرصة قبل ايام من ان يفلح القاتل الارعن الذي لم يميز قاسم عجام عن سواه كما اظهرت الاعترافات الاخيرة لهذا القاتل. التقيت بقاسم عجام في المربد الاول بعد الحرية عام 2004 في فندق المربد في البصرة فلا استطيع ان اقول الا كلمات موجزة وقصيرة لا يمكن لها ان تصل لحدود الروح الكبيرة والشمائل الانسانية والتي كانت ترسمها ملامحه الباسمة وضحكته الدائمة..
قال كلاما حول احياء "مشروع المثقفين التنويريين" كحل وحيد امامنا للوقوف بوجه هذه الهجمة التي تريد تكبيلنا وعودة الزمن للوراء،وكتب لي على اوراق مذكراتي كلمات ستظل خالدة يرسم فيها وجه القاتل الارعن الذي سيرصده بعد ايام من عودته من "المربد" وبعد ايام قليلة على استلامه المنصب الجديد كمدير عام لشؤون الثقافة وفي طريق ذهابه الى بغداد...
قبل ان يتداعى الوضع العراقي بهذا الشكل وقبل ان تنزوي الثقافة في دهاليزها المغلقة وقبل ان يقصي السياسون ورجال الاحزاب المثقفين عن ممارسة دورهم المؤجل في صياغة الحرية الجديدة وتوزان القوى للتخفيف من غلواء الطائفية والمحاصصة المذهبية، قبل كل ذلك كان قاسم عبد الامير عجام قد قدم مشروعه الى وزارة الثقافة ،باسم "اتحاد ادباء بابل"،لانقاذ مبكر للثقافة والمثقفين من واقع السكون واللامبالاة نحو تفعيل دورهم وممارسة حقهم الشرعي المغيب.
وزع هذا المشروع على الصحف العراقية ونشرته جريدتا "بغداد" و"النهضة" وحلمت بثقافة عراقيةجديدة تعيد الاعتبار لذاتها ولكيانها لو وجدت بعضا من فقرات مشروع عجام الى للتنفيذ.مضى مشروعه دون ان ينال الاهتمام والرعاية من لدن المثقف والسياسي معا.. ظل حبرا على ورق في ارشيف الصحف ومجرات الاهمال دون ان يناقش او يسلط الضوء عليه،مضى قاسم عجام شهيدا لوطنه وافكاره وانحيازه الدائم للانسان العراقي وقضاياه العادلة واحلامه في الحرية والكرامة والرغيف...
مضى عجام وهو ينتصر على قوى الظلام والتكفير الذين يعرفون ان من يتبوأ منصبا في زمن الحرية وهو يمتلك سيرة مشرفة ومبدعة كسيرة الشهيد عجام لهي النهاية الاخيرة لخفافيش الظلام التي افلست في مشروعها الفكري وبرنامجها السياسي لتحترف قتل المبدعين والمثقفين والحالمين.
امثال قاسم عبد الامير عجام والشهيد عز الدين سليم اللذين غابا في نفس اللحظة وبنفس الاداة الارهابية الاجرامية.
سلام على قاسم عجام
سلام على ما انجزه وما لم ينجزه...
سلام على احلامه ولمحبته لوطنه واصدقائه
سلاما ابا ربيع
ما كتبه قاسم عجام في مذكراته قبل استشهاده حين كنت سالته عن السبيل او الخيار الممكن امام المثقف ليمارس دوره ويواجه هذه الهجمات الظلامية وايتام الدكتاتورية..
سألته عن مشروعه المبكر في صياغة الثقافة العراقية وبرنامجها المتكامل؟
فأجابني حرفيا: شكرا لهذه الثقة الغالية اولا...وشكرا اذ تضعني في لهيب سؤال تحرقنا قضيته الان فيحفزني للخوض فيه ولو على عجل!واقول ذلك فلأن المعركة الان مفتوحة على كل الاحتمالات ولعمل كل التيارات والقوى بما في ذلك القوى التي تريد تكبيلنا مجددا. من هنا فان اتحاد المثقفين التنويريين واقول تنويريين لاننا نواجه ظلامية خطرة حول خط واضح منحاز لتعددية الرؤى الثقافية وللثقافة المنحازة للانسان هي نقطة البدء. ولا شك ان تنظيم الفعاليات الثقافية التي ترشح الحوار واحترام الرأي والرأي الاخر نقطة اساسية من نقاط البدء.للمؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية دورها المؤكد في ارساء اسس ثقافة تبديل ثوابتها. حق الانسان في الحرية والتقدم.حق الوطن بالاستقلال والسيادة حق الرأي والرأي الاخر بالتعبير والتنظيم. الحزم ضد الظلامية والتسامع مع المختلف المحاور.وما دمت يا صديقي قد اطلعت على مشروعنا الذي قدمناه لوزارة الثقافة باسم اتحاد بابل وانك اطلعت على تفاصيل ما اوجزته..أكرر شكري لثقتك متمنيا لك عافية الابداع تحياتي لكل اصدقائي المبدعين.. قاسم عبد الامير عجام .
*النص نشره الاديب والصحافي توفيق التميمي في الذكرى السنوية الاولى لاغتيال عجام في صحيفة"الصباح" بعددها الصادر في 23 آيار 2004