فيروز في بيت الدين ... اسطوانة بين القديم و الحديث أي ملامح جديدة يضفي زياد الرحباني على أيقونة الغناء العربي المعاصر؟ نادرة هي الاسطوانة الغنائية العربية الجديدة التي في امكانها ان تصبح حدثاً لافتاً في ميدانها الموسيقي. ومن بين النادر هذا تأتي اسطوانة فيروز في بيت الدين التي تسجل ظهور أيقونة الغناء العربي في المهرجان اللبناني المعروف الصيف الماضي، ضمن اطار وضع ملامحه زياد الرحباني وقد جاء جهده علي ثلاثة مستويات: تلحين أغنيات جديدة لفيروز، غناء فيروز لألحان منه قدمتها أصوات سابقة، اعادة توزيع ألحان للأخوين رحباني كانت أصبحت من الموروث الفيروزي. ومع حرص زياد علي ايلاء الجانب الموسيقي الصرف اهتماماً بارزاً تضمنت الاسطوانة مقطوعتين أولاهما جديدة مقدمة بيت الدين وهي فاجأت متابعي فن زياد، إذ جاءت وفق قالب كلاسيكي غربي فيما اعتاد صاحب أنا مش كافر ان يجعل مقطوعاته الموسيقية تحاكي ثيمات بيئية لبنانية أو تتداخل مع أجواء تهكمية يقرأ من خلالها وقائع يومية. وتكفي في هذا الشأن مقارنة بين مقدمة بيت الدين و مقدمة ميس الريم التي تضمنتهما الاسطوانة وتعيدنا الي آخر مسرحية غنائية قدمها الرحابنة قبل الحرب (ميس الريم) عام 1975. توضح المقارنة كيف ان زياد بدا متأملاً ومأخوذاً بـ حزن تجريدي حين كتب مقدمة بيت الدين فيما كان متدفقاً ووثاباً في الفكر والحياة حين كتب مقدمة ميس الريم وتضعه كذلك بين قلة من الموسيقيين العرب في القرن الفائت برعوا في مقاربة فن المقطوعة الموسيقية .
فيروز: أيقونة الغناء العربي المعاصر
أغنيات جديدة في المستوي الأول نتوقف عند اغنيات جديدة صاغها زياد كلاماً ولحناً للمطربة فيروز. في أغنية تنذكر ما تنعاد نجد البراعة الموسيقية للحن تتقدم امام الصوت والكلام، فيبدو صوت فيروز وكأنه دخل عسراً أدائياً . وهو أمر طبيعي حين لا يتوافر اللحن علي مساحات ممكنة فيتوقف عندها صوت فيروز. علماً ان الطبيعة الايقاعية التركيبية كانت حاضرة علي حساب الصوت حتي بدت الأغنية وكأنها مقطوعة موسيقية أقرب منها الي شكل الأغنية. والبناء الموسيقي الذي يحرص زياد علي اعلائه في كل صياغاته اللحنية لفيروز أو لغيرها، يأتي أحياناً علي حساب التماعات في الصوت والكلام مثلما أتي علي اشارة غنية الايحاءات في اغنية فيروز: حتي عيدي بكره فكّر فيه/ لون الشمع اللي لازم طفّيه .
ومن البناء الايقاعي المركب في لحن تنذكر ما تنعاد الي الاسترسال اللحني في موسيقي أغنية كبيرة المزحة هي وهي قاربت روحية موسيقي الجاز ما أفقد الأغنية لازمة ميلودية حتي بدا غناء فيروز نثرياً ان صحت التسمية. وحضرت الموسيقي علي حساب عناصر أخري في الأغنية علي رغم ان رهان زياد علي ان الأغنية هي بناء موسيقي قبل كل شيء. هو رهان صحيح وجريء في آن. ومثلما بدا البناء الايقاعي المركب ثقيلاً علي صوت فيروز، كان كذلك غياب الميلودي حتي بدت نداءات فيروز حبني بس حبني تفتقد التأثير المطلوب بصفتها دعوة رقيقة للحب.
الأغنية الجديدة الثالثة لفيروز في الاسطوانة هي أغنية صباح ومسا وهي جاءت ترنيمة مشرقة بآمال واطلالات علي حياتنا: تركت الحب وأخذت الأسي . لحن بسيط موحٍ وصوت فيروز لا يحتاج الي أكثر من تحريض موسيقي وهو ما اعتمده زياد فحرّض الأشواق والأحزان والآمال. وما ساعد في ذلك، الكلام الرقيق والجديد أيضاً لزياد: صباح ومسا/ شي ما بيتنسي/ شو بدي دور/ لشو عم دور علي غيرو/ في ناس كتير/ لكن بيصير ما في غيرو/ حبيبي كان هني وسهيان ما في غيرو/ حملني سنين/ كتّر خيرو/ صباح ومسا، شيء ما بيتنسي/ تركت الحب أخذت الأسي/ لعل وعسي/ يترك هالأسي، ويرجع لي حبي صباح ومسا . يتدخل زياد في صوغ لحن رقيق لهذا الكلام الغني الايحاءات علي رغم بساطته الظاهرة. وتدخله ذكي ومحسوب سواء كان ذلك في التوقيعات الناقرة علي مفاتيح البيانو أم في تشكيل صوته ما يسمي بـ الصوت الثاني لصوت فيروز في آخر الأغنية التي ستظل لازمة لقدرة زياد علي اقناع فيروز في التحول مع رمز محلق بين النجوم نحنا والقمر جيران وانشاد الميلوديات (عن القناطر، الميادين، الثلج، المقاهي، القري الغافية، حكايات العشاق وليالي الشمال الحزينة) الي امرأة من عصرنا مأزومة وحزينة، عاشقة ومنكسرة وشابة حيوية تخذلها رقتها في وقائع تزداد قبحاً في تقلباتها وانعطافاتها، وهو ما استطاع زياد أن يظهره عبر صوت فيروز في اسطوانة مش كاين هيك تكون وأغنية معرفتي فيك وكذلك أغنية كيفك إنت التي أصبحت رمزاً لفيروز أخري ظهرت مع زياد، فيروز الأخري غير التي ترسخت ملامح أغنيتها مع الأخوين رحباني.
فيروز و المقاومة الوطنية من ضمن ما تضمنت اسطوانة فيروز في بيت الدين اغنيات أدتها فيروز ولم تكن غنتها هي بالأصل وهي من ألحان زياد. وكانت أغنية المقاومة الوطنية التي سبق لزياد ان ضمنها في اسطوانة أنا مش كافر وأدّاها الطفل فاروق الكوسا، وكذلك سامي حواط، تلويحة نادرة وتحية غير شكل للمقاومة الوطنية. فهي بقدر ما كانت تلويحة حب علي فعل ناري شكلت نقداً عنيفاً لأولئك الذين باعوا شعرهم الرديء وأغنياتهم الفجة تحت قناع المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب و كسروا المنابر وهني يعدوا علي الجنوب/ اللي عم يحكوا اليوم هني غير اللي ماتوا/ المعتر بكل الأرض دايماً هو ذاتو وكانت الأغنية جديدة بصوت فيروز... أغنية مجروحة أكثر هيدي مش غنية هيدي بس تحية ، وكانت التفاتة ذكية من زياد واستجابة ولا أروع من فيروز. وجرأة فيروز في الاستجابة لعرض نجلها أن تؤدي أغنيات سبقتها الي أدائها أصوات أخري كما هي الحال في أغنية تلفن عياش التي جاءت علامة بارزة في اسطوانة زياد بما إنو وغدت جرأة محسوبة فانتقلت فيروز الي أجواء تهكمية تتضمنها الأغنية. واكتسبت الأغنية فضاء تعبيرياً جديداً بصوت فيروز ولا سيما ان اداء المطربة الكبيرة اقترب من سلطنة قاربت الجذل والاداء المستغرق في المتعة.
ولئن كان زياد قادراً علي اضفاء ملامح جديدة علي أعمال تبدو عادية وتراكم عليها غبار كثير، فإنه في رفقة صوت فيروز جعل من أهو ده اللي صار التي طبعها سيد درويش بعلامات بساطته الموسيقية الآسرة، عملاً غنائياً نابضاً بحيوية قل نظيرها في غنائنا العربي اليوم. فبعد تقديم من الوتريات والممزوجة بترنيمات من صوت فيروز، تطل جملة ايقاعية رشيقة تحمل صوت فيروز وهو يؤدي بطريقة متقنة واحدة من علامات التجديد الحقيقي في الموسيقي العربية الذي خطّه سيد درويش. هنا تمكن زياد وباسناد حقيقي من فيروز ان يزيل الغبار عن جوهرة موسيقية حقيقية.
زياد وأثر الأخوين رحباني يقرأ زياد الأثر الموسيقي للأخوين عاصي ومنصور الرحباني بصفته طاقة مستمرة في التجديد، ومن هنا تأتي الأغنيات التي تضمنتها اسطوانة فيروز في بيت الدين وحملت توقيع الثنائي الخطير وكأنها صياغات جديدة وهو ما يمكن تلمسه خصوصاً في أغنية لا إنت حبيبي ويذكر توزيع زياد لموسيقاها بما كان قدمه في الاسطوانة المزدوجة الي عاصي وحملت قراءة من زياد ذهبت الي تناول اللحن الرحباني الكلاسيكي من وجهة نظر موسيقية جديدة لم تثقل الأصل أو ترهقه مثلما لم تتعامل معه بقدسية. في أغنية لا إنت حبيبي شجن أكبر، رهافة موسيقية، نقرات موجعة علي البيانو لا تبدو متنافرة مع نقرات علي الرق ولا مع بهجة خجول يقترحها البزق . وصوت فيروز يعاند جفاف المشاعر في أغنية ستظل تذكر بقدرة الأخوين رحباني علي التجديد الحقيقي.
فيروز تبتهج لنبوغ ابنها المبكر
وفيروز الجديدة التي ابتكر ملامحها زياد، حاضرة في الاسطوانة وعبر اغنيتين يمكن اعتبارهما من بين أبرز عشر أغنيات عربية في العقد الماضي: عندي ثقة فيك و كيفك انت . الأولي متدفقة توجز حال الانسان العاشق الذي دائماً هو ذاته ، مخلص ومتوحد، شجاع وحزين في آن. ولحنها يغرف من ينابيع عدّة ولكن مستمعها لن يشعر انها ينابيع غريب مذاقها عن مزاجه. في كيفك انت بدت فيروز امرأة من زمننا المضطرب المأزوم، ولكنها امرأة بالغة الرقة حتي لتخاف عليها ان تتلاشي لتعود وتذكرك بأنها راسخة الوجود عبر مشاعرها المحسوسة : انت الاساسي وبحبك بالأساس انها تقدم صورة امرأة تلتقي بعد غياب بحبيب حسبته غادر البلاد لانقطاعه عنها وتجده عادياً وفي مشاغل عادية. النتيجة لم تبد مفاجئة لها، فالخيبات كثيرة، والكلام ينتظم في سرد حكاية، غير انه لم يضعف اللحن المتقن الذي جاء مرسوماً ورافق المشاعر بعناية فائقة. وظل الصوت الصادح للأبواق دلالة علي استمرار الحياة بخيباتها وتدفقها. الكلام يختفي تدريجاً. وكذلك الصوت فيما النغم الموسيقي وحده يرثي المشاعر. فيروز في بيت الدين حدث غنائي بذاته، وفيه يؤكد زياد الرحباني تجديده الموسيقي وفيه تطل فيروز جريئة وإن كان عليها ان تناقش نجلها ملياً في أغنيتي تنذكر ما تنعاد و حبني بس حبني . نشرت في صحيفة "الحياة" 26-3-2001 |