علي عبد الأمير بعد أيام من 14 تموز 1958، ومع موجة من حماسة نخب عراقية ثقافية وسياسية وعلمية للتحول إلى الجمهورية، أنبرى المؤلف الموسيقي والعازف المقيم حينها في النمسا، لويس زنبقة (1928 ـ 1979)، لمهمة وضع نشيد وطني جديد تماشياً مع رغبة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم في "التخلي عن الرموز المستوردة التي لا تمت إلى العراق بأية صلة"(1)، في إشارة إلى إن النشيد الملكي كان قد وضعه الضابط البريطاني المشرف على موسيقى الجيش، الكولونيل غولدفيلد. وتم الإعلان من خلال الإذاعة والتلفزيون والصحف عن ضرورة سلام وطني جديد، وكان لويس زنبقة حينها يدرس في فيينا، فاتصل بالسفارة العراقية هناك ليعرض المدوَّنة (النوطة) الموسيقية والتسجيل الصوتي الكامل للسلام الذي أعدَّه للعراق الجديد الذي أدّاه جوق من الأكاديمية الموسيقية النمساوية، مرفَقاً بكتاب إهداء للجمهورية والزعيم.
نهاية سريعة وما لم يكن الموسيقار الراحل على معرفة به، هو إن العهد الجمهوري الذي ابتهج به كثيراً، سيصبح سريعاً، رحماً خصباً للتحولات العنيفة والقاسية، ففي 8 شباط /فبراير 1963، أطاح إنقلاب عسكري دموي بالزعيم عبد الكريم قاسم ونظامه من قبل رفاق الزعيم وشركائه في اسقاط النظام الملكي، ليستعاد النهج ذاته في محو العلامات الوطنية، فتم إلغاء رموز الدولة التي جرى إعتمادها في نظام تموز 1958، وأُستُبدِلَت برموز أخرى، من بينها العلَم العراقي، شعار الدولة والسلام الوطني. هنا تم وبلا رحمة، محو حلم الموسيقي زنبقة وملايين العراقيين الحالمين مثله.
الموسيقار الراحل لويس زنبقة مع صورة للزعيم عبد الكريم قاسم 1959 ومنذ ذلك الحدث الدموي في شباط 1963 حتى تموز/يوليو 1968 بوصول "البعث" إلى السلطة، شهدت البلاد سلسلة من الإنقلابات العسكرية لتغيير نظام الحكم، ومعها كانت الرموز "الوطنية "، وبينها السلام الوطني، تتغيرّ، وليصبح الوطن مرادفاً لصورة قائد "الإنقلاب/ الثورة".
للعراق الجمهوري لا لإنظمته ومع سياسة "الإنفتاح" على القوى السياسية وبدء ما سمي "عودة الكفاءات" من الخارج في سبعينيات القرن الماضي، عاد لويس زنبقة إلى العراق وأسندت إليه مهمة في إدارة الفرقة السيمفونية الوطنية التي أعيد تشكيلها 1971 بعد إلغائها 1966، وتمَّ الإعلان عن "مسابقة لتلحين السلام الجمهوري"، وتم تشكيل لجنة في دائرة الفنون الموسيقية بوزارة الإعلام، لفحص النماذج المقدمة للمسابقة. قيل لصاحب السلام الوطني بعد 14 تموز، "لماذا لا تشارك في هذه المسابقة"؟ أجاب بأنه يرفض فكرة المسابقة أصلاً، "لأن السلام الجمهوري الذي ألَّفتهه وتم إعتماده في العام 1958، ما كان مكرَّساً لنظام معيِّن، بل للعراق الجمهوري. أقنعناه بمقابلة وزير الإعلام، فرفع مذكرةً إلى الوزير قال فيها ما معناه: أعيد تقديم السلام الجمهوري لعام 1958، وهو صالح لإعتماده مجدداً ودائماً. وإلتقى الوزير الذي وعده برفع المقترح إلى ديوان الرئاسة. لم يجرِ إعادة إعتماد لحن لويس زنبقة بل تم إستخدام لحن نشيد "والله زمن يا سلاحي" لملحِّنه المصري كمال الطويل الذي اعتمد منذ انقلاب شباط 1963، ومن بعده جاء النشيد الوطني العراقي "وطن مدَّ على الأفق جناحا"، من كلمات الشاعر شفيق الكمالي، وألحان اللبناني وليد غلمية (بدأ العمل به 1981 وظل معتمداً حتى إسقاط نظام صدام حسين 2003). بعد بضعة أشهر عاد إلى فيينا حتى إنقطعت أخباره عنا، لنسمع عن وفاته فيما بعد" (2).
من هو هذا الموسيقار الحالم؟ تتضمن وثيقة بعنوان "نبذة تاريخية عن قسم الفنون الموسيقية في معهد الفنون الجميلة منذ تأسيس المعهد حتى تاريخه"، والصادرة عن عمادة المعهد بتاريخ 10 نيسان/أبريل 1979، من إعداد الأستاذين فريد الله ويردي وحمدي صالح قدوري، نبذة مقتضَبَة عن لويس زنبقة، جاء فيها:
لويس زنبقة: الإختصاص: آلة الترومبون Trombone. الشهادات: خريج دار المعلمين الإبتدائية – دبلوم معهد الفنون الجميلة / آلة الترومبون. الدراسة الأولى: دخل المعهد سنة 1944 في فرع الترومبون المسائي، تتلمذ على يد الأستاذ حنا بطرس. تخرَّج في فرع الترومبون سنة 1950. الدراسة العالية: سافر إلى فيينا (النمسا) لتكملة دراسته العالية في الأكاديمية الموسيقية. الوظـيفة: تعيَّن في المعهد سنة 1954 لتدريس آلة الترومبون، ثم إنقطع عن ذلك فيما بعد. ممارسة الإختصاص: عضو الأوركسترا السمفونية التابعة لجمعية بغداد الفيلهارمونيك سـابقاً ( تأسست العام 1948 وصارت لاحقاً الهيكل الأساس للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية). ممارسات أخرى: له محاولات في التأليف الموسيقي.
سيرة الآمال الموسيقية وكانت الدراسة مسائية في قسم الموسيقى لطلبته المقبولين من خريجي الدراسة الإبتدائية فما فوق، وجميع أقسام المعهد الأخرى (الرسم، النحت، والتمثيل)، مسائية منذ بداياته في العام 1936 ولغاية العام 1959. في هذا العام، تقرر تحويل المعهد إلى (معهد لإعداد معلمي النشاط الفني في المدارس). وقد خُصص سبع سنوات للدراسة في قسم الموسيقى الغربية، وست سنوات لقسم الموسيقى الشرقية. أما أقسام الرسم والنحت والتمثيل، كانت الدراسة في هذه الأقسام لمدة خمس سنوات، يُقبَل فيها خريجو الدراسة المتوسطة فما فوق. وتشتمل الدراسة في الموسيقى الغربية، مختلف الالات الهوائية على يد أساتذة إختصاص من العراقيين والأجانب، إلى جانب العلوم الموسيقية للنظريات والتاريخ والكتابة والإملاء الموسيقية وغيرها. هكذا وجدنا لويس طالباً في قسم الترومبون (وهو من فصيلة البوق) يشارك بالعزف في جوق الموسيقى الهوائية مع أقرانه الطلبة والأستاذة. حيث كان الجوق يقدِّم حفلات موسيقية في المناسبات الرسمية والنشاطات الطلابية والإستعراضات الرياضية ومسيرات فرق الفتوَّة والكشافة. يقول العازف الموسيقي والباحث الأستاذ باسم حنا بطرس "عرفتُ لويس زنبقة من صِغري، قبل دخولي المعهد طالباً، فقد كان زميلاً لشقيقى الأكبر، بطرس، الذي كان طالباً ومن ثم أستاذاً لآلة الترومبيت (البوق)، ويتردد على بيتنا في محلَّة (الجنابيين – قرب العقد العريض) وسط بغداد. كان شخصاً هادئاً يميل إلى الصَمت، لكنه لم يكن إنعزاليّاً. وقد عزفنا له عام 1954 قطعة صغيرة للفرقة السمفونية، وبعد تخرجِّه في المعهد، تم تعييه مدرِّساً، فقام بتدريسنا الإملاء الموسيقي. في العام 1952 قامت الأوركسترا السمفونية التابعة لجمعية بغداد الفيلهارمونيك، بسفرة إلى كركوك، لتقديم حفلة في شركة نفط العراق وكان لويس من بين أعضائها المشاركين. بعد إنتهاء الحفلة، أقيمت جلسة إستماع لمقطوعة من تأليفه عزفها على البيانو".
المثقف – السلطة – المجتمع؟ لا تبدو قصة الموسيقار الراحل لويس زنبقة، ومعه مئات الحالمين من المثقفين العراقيين بالتغيير الفكري والاجتماعي وفق معادلة الحداثة والعدل والتنوير بعد تموز 1958، بعيدة عن أزمة "المثقف – السلطة - المجتمع"، والتي شهدت تحولات عميقة لا يمكن التعرف إلى نتائجها، بحسب أستاذ القانون بجامعة ييل الأميركية، بول خان، والذي يخلص إلى إنه "لا يمكن حساب الربح والخسارة في الثورة إلا بعد مرور وقت من الزمن عليها. والأمر الثاني الذي يتعلق بالثورات أنها ليست مجرد أفكار تطرح في المقاهي، لأنه في اللحظة التي ينزل فيها الناس إلى الشوارع فإن المرء يضع حياته موضع رهان لا تعرف عواقبه"(3). زنبقة من أولئك الذين راهنوا على حدث لا يمكن معرفة نتائجه إلا بعد مرور وقت طويل، وبالتالي هو وضع حياته موضعَ رهانٍ لم يعرف عواقبه. شخصياً أرى إن الراحل زنبقة، كما زميله المؤلف والعازف الراحل فريد الله ويردي، وغيرهما من منتجي الثقافة الحداثوية والتنويرية في العراق، خسروا كثيراً جراء الإندراج في مواقف سياسية في بلد لا مسار ثابتا ومتوقعا لأحداثه، ومثلما كان ويردي سيصبح سترافنسكي(4) عراقي خلّاق من خلال عمله داخل بلاده أم في المنفى، لولا السياسة، كان زنبقة سيصبح علمأ من أعلام الموسيقى دائم الحضور في بلاده، ومصدر إلهام وتربوي عميق، أوسع من ذلك الذي نعرفه عبر "السلام الوطني" الأول في العهد الجمهوري، على أهميته وفرادته كحلم تعرض إلى الإنكسار القوي بسرعة وبلا رحمة.
المصادر: 1 و2: باسم حنا بطرس،" لويس زنبقة والسلام الجمهوري العراقي" مقالة في مدونته الشخصية. 3: فلاح رحيم، كتاب"أزمة التنوير العراقي: دراسة في الفجوة ما بين المثقفين والمجتمع"، جامعة الكوفة 2017. 4: علي عبد الأمير، كتاب "الإغتراب الجميل، صور غير مرئية لبغداد" قيد الطبع.
|