علي عبد الأمير عجام يحيلنا الكاتب والمترجم والناقد الأستاذ علي الشوك، إلى جوهر فكرة الاغتراب التي مثّلها أولئك الحالمون بتحديث بلادهم ومجتمعهم، ومنهم صاحب "الأطروحة الفنطازية"، حين يتحدث عن علاقته بالموسيقى التي كانت جوهرية في تكوينه الثقافي، فهو عاند بيئته الثقافية والاجتماعية في خياره الحالم والفريد. "علاقتي المباشرة بالموسیقى بدأت في 1943، عندما كنت في الصف الثاني المتوسط، حیث خلفت مرحلة الطفولة منذ عام. وأصبحت أشعر انني بدأت انفتح للحیاة ولعالم الثقافة. كان أبي متديناً، لا يسمح بدخول أي شيء موسیقي إلى البیت. فكنت أجد ضالتي الموسیقیة في بیت عمي حسن المتوفى. وكنت اجد في ابنائه خیر صحبة. إثنان منھما اصبحت لي علاقة موسیقیة بھما. امین اقتنى عوداً، واصبح يتلقى دروساً على يد سلمان شكر(1)، وصرت أنا وأخوه عدنان نتلقى دروس العود على يد امین. واصبحنا على معرفة بتقنیة العزف البدائیة، ثم تقدمنا في ذلك. واعترف بأن عدنان كانت لديه اصابع ابرع من اصابعي"(2). مضىت المغامرة الجميلة إلى شوط أبعد حين اقتنت المجموعة (الأخوة وابناء العم) غرامافوناً من طراز "صوت سیده"، His Master's Voice ثم تتسع لتصبح متعددة الجنسيات "أصبح جارنا جواد مھراد ابن الدبلوماسي الإيراني عضواً في فريقنا، ونافذتنا على الموسیقى الغربیة لأنه كان يتعلم العزف على آلة الكمان في معھد الفنون الجمیلة على يد الأستاذ الروماني ساندو آلبو. وكان ينقل إلینا اخبار الشريف محیي الدين حیدر، سید العازفین على العود، ومدير معھد الفنون الجمیلة. وفیما بعد عزف لي تلمیذه سلمان شكر مقطوعاته المذھلة: "كابريس"، "الطفل الراكض"، و"لیت لي جناحاً"، وھي ما تزال مسجلة لديّ على الشريط الكھرمغناطیسي، مع عزف الشريف نفسه أيضاً. وكنا نعلم منذ تلك الأيام - سنوات الأربعینات من القرن العشرين - القیمة الفنیة العالیة لھذه المعزوفات، التي ألّفھا الشريف محیي الدين حیدر تذكرة بموسیقى باغانیني، وفرانز ليست". لنلاحظ في السطور أعلاه المقتبسة من "قصتي مع الموسيقي"، ذلك الغنى الثقافي الذي كانت عليه بغداد بتدخل من مؤسسات دولة ساعية بجد إلى التحديث، وضد توجهات اجتماعية واسعة مناهضة لذلك: -إيراني يدرس الموسيقى الرفيعة في بغداد، دراسة أكاديمية على يد أستاذ روماني. -عراقي (سلمان شكر) يدرس على يد أستاذه التركي (الحجازي الأصول) الشريف محي الدين حيدر. -معهد الفنون الجميلة التابع للدولة العراقية يديره التركي حيدر، والأخير يقيم صلة معرفية- نغمية مع الثقافة والألحان الغربية (باغانيني وفرانز ليست). -الصلة التربوية والثقافية بين الأجيال: التلميذ علي الشوك، يسمع عبر أستاذه سلمان شكر، معزوفات أستاذ الأخير: الشريف حيدر يعزف لتلميذه بين الأصول العربية والشرقية للنغم. - التقدير العالي لدروس الأستاذ وموسيقاه "ما تزال مسجلة لديّ على الشريط الكھرمغناطیسي". لاحقاً سيدخل علي الشوك مستوى جديداً في تذوق الموسيقى ومعرفتها: "صرّنا نقتني الاسطوانات الموسیقیة الغربیة من مخزنین للموسیقى، ھما "مخزن سیروب" في شارع الرشید عند عقد النصارى، و"مخزن إسكندريان" في الشارع المؤدي إلى باب الشیخ". لنتوقف عند دلالات عميقة يتضمنها السطران المبهران أعلاه: -المجموعة تواصل المغامرة- الحلم في مؤشر على جدية ثقافية مبكرة، لتذهب إلى تجذير فكرة الحداثة عبر عيون الموسيقى الغربية. -بغداد في أربعينيات القرن الماضي، كانت قد دقت بقوة باب الحداثة، فحققت صلة حقيقية مع المعرفة الغربية عبر موسيقاها الرفيعة، ممثلة بوجود متاجر لبيع الأسطوانات الموسيقية، يذكر الشوك إثنين منها. - الدأب والمثابرة في العلاقة مع تحديث منابع الثقافة الشخصية لجيل تلك الأيام، فالموسيقى المقتناة أسطواناتها ترد ضمن باب "الموسيقى الجادة" أو المتداولة شعبياً بكونها "كلاسيكية".
من تدريبات أوركسترا بغداد السيمفوني 1952 بقيادة الروماني سأندو ألبو وفي الإطار الستاذ علي الشوك فضاء لا نھائي وللتوكيد على فكرة الجدية والمثابرة، نجد الأسطوانات التالیة، وقد درّب الشوك عليها أسماعه وذائقته وبالتالي عبرها توسعت مداركه وثقافته: "توكاتا" باخ، "سوناتا ضوء القمر" و"افتتاحیة إيغمونت" لبیتھوفن، السمفونیة الناقصة لشوبرت، وافتتاحیة أوبرا "مدام بترفلاي" لبوتشیني. وكانت "توكاتا" باخ عرساً ملائكیاً بأصواتھا الجھیرة الساحرة. وھي ھنا لیست نسخة باخ على الأورغن، التي استمعت إلیھا بعد ذلك بسنوات، بل نسخة الكوندكتور (قائد الأوركسترا) المذھل لیوبولد ستوكوفسكي. كانت اشبه بقلاع تتھاوى امامنا في فضاء لا نھائي. وكانت تملؤني إحساساً بانتماء إلى السعادة والاقبال على الحیاة. ولكن من كان لیوبولد ستوكوفسكي؟ كان ستوكوفسكي امبراطور الموسیقى بمكانته كألمع كوندكتور في أيامه. وھو الذي اصطفاه والت ديزني لقیادة الأوركسترا في فیلمه الكارتوني الأعجوبة "فانتازيا". شاھدته في الولايات المتحدة بعد ذلك بسبع أو ثماني سنوات. وستكون رحلتي مع الموسیقى (الكلاسیكیة) طويلة، كانت "توكاتا" باخ محطتھا الأولى. وانھا لرحلة عمر. وانا لا ادري كیف اتسعت حیاتي لشواغل اخرى مع ان الموسیقى ملأتني. الموسیقى كانت شاغلي لیل نھار، لأنني كنت اريد ان أنتمي إلیھا. آه، لو كان في وسع الانسان ان يحیا بالموسیقى فقط". ولو راجعنا الاقتباس أعلاه من حكاية الشوك مع الموسيقى كما خطّها بقلمه لوجدنا: -السعي لمعرفة الموسيقى الجادة (الكلاسيكية) عبر أساليب شتى وأسماء عدة طبعت ذلك النتاج الروحي الفريد. -تعميق المعرفة الموسيقية من مجرد السماع وصولاً إلى فهم مفاتيح الأعمال الأصلية، وعناصر نجاحه، واي أوركسترا عزفته؟ واي قائد لتلك الأوركسترا، وما الفرق بين تسجيل وآخر للعمل ذاته. -تحويل الخزين السمعي للموسيقى إلى تأثير فكري وروحي يحض على التجديد والتغيير "كانت أشبه بقلاع تتھاوى أمامنا في فضاء لا نھائي. وكانت تملؤني إحساساً بانتماء إلى السعادة والاقبال على الحیاة". هوامش (1) لنتذكر إن الأستاذ شكر عاني كثيراً من قسوة أبيه حين حطّم العديد من آلات العود التي كان فيها ابنه الشاب يحاول دراسة الموسيقى. علي عبد الأمير، كتاب "رقصة الفستان الأحمر الأخيرة" دار المتوسط 2017، ص 60 "سلمان شكر: أحلام الوتر الطروب وكوابيس مجتمعه". (2)علي الشوك " قصتي مع الموسیقى"، صحيفة "المدى" ملحق "عراقيون" 24 أيلول/سبتمبر 2016. |