علي عبد الأمير عجام
موقفه من الموسيقى العراقية والعربية ليس خافياً موقف الموسيقار ويردي النقدي الحاد من الموسيقى العراقية والعربية "الشعبية" حتى في أيام كانت تبدو فيه على درجة من العافية، فهو لم يتردد في العام 1961 عن القول " نحن في مرحلة موسيقية بدائية. وأكبر دليل على ذلك إن موسيقانا تعتمد على "الإيقاع" بالدرجة الأولى، وحتى هذا لا نحسن استعماله"(1). بل هو يشمل في ملاحظاته الناقدة أعمالا لكبار منتجي الموسيقى الشرقية كما عند عبد الوهاب، فريد الأطرش وغيرهما، فهم "لا يعرفون ماذا يصنعون ويعيشون في جهل مطبق لا همّ لهم إلا جمع المال والدعاية لأنفسهم، وهو يخاطبون العامة بموسيقاهم الرديئة ولا يعملون في سبيل رفع مستواها. إن عبد الوهاب خطر على الموسيقى الشرقية وهو يقف حجر عثرة في طريق جميع المحاولات الرامية إلى انتشال الموسيقى الشرقية من "الوحل" الذي تعيش فيه كما إنه يحارب دائما المواهب الجديدة بكل ما عنده من حول وقوة للمحافظة على مركزه الفني، إن كل الألحان التي صاغها هذا "المطرب" لا تتعدى التفاهات". وبشأن المقام العراقي، فهو معه كقالب موسيقي- غنائي يجب عدم المساس به " المقام العراقي تأليف خاص استخلص من المقامات العربية نفسها. وهو تراث تجب المحافظة عليه. وكما ان السمفونية الخاصة لبتهوفن لا يمكن إضافة شيء عليها كذلك المقام العراقي يجب ان يبقى كما هو دون تطور". أما قرّاء المقام فهم "لا يحسنون أداء الألحان التي تحتوي على النصف مقام، بطبيعة الحال يعجزون عن أداء المقام العراقي الذي يشيع في ثناياه الربع مقام. إن قراء المقام الحاليين ليست لهم اية فكرة عن كيفية قراءة المقام والغناء بصورة عامة". أما مسألة "الربع تون" في الموسيقى الشرقية وهل يمكن تذليلها، فللموسيقار ويردي رأي مفاده "أنا متفائل من هذه الناحية كثيراً وفي غضون سنة واحدة سأخرج على الناس بقواعد موسيقية جديدة للموسيقى الشرقية يمكن معها وضع هارموني لها. ولا بد أن أشير إلى جهود فنان آخر يعمل في بيروت من أجل الموسيقى الشرقية أيضا هو الأستاذ توفيق سكر الذي وصل فعلاً إلى استخلاص بعض القواعد الموسيقية الجديدة".
جولة في نتاجه النغمي تكشف مراجعة سريعة لمؤلفات فريد الله ويردي عن غنى كبير وجدية أقرب إلى الصرامة في مقاربة الأشكال الموسيقية المنتمية إلى أسلوب "الكلاسيكية الجديدة"، ومنها رباعي الالآت الوتري رقم 1 (حقوق النشر 1984 الولايات المتحدة – الرقم PAU 290-610)، فانتازيا الكمان المنفرد (حقوق النشر 1984 الولايات المتحدة – الرقم PAU 290-610)، "سويت صغير" للبيانو (حقوق النشر 1984 الولايات المتحدة – الرقم PAU 290-610)، "سوناتا الكمان" (حقوق النشر 1984 الولايات المتحدة – الرقم PAU 290-610)، "سوناتا الكمان والبيانو" (حقوق النشر 1984 الولايات المتحدة – الرقم PAU 290-610)، "مقدمة للكورال"، "مقطوعة للرباعي الوتري"، "إنشودة سيمفونية"، "إنشودة المنصورية "، "سيسليانو من لأوركسترا الالآت الوترية" (فقدت النوتات من صندوق الايداعات في بنك الرافدين في أثناء حرب عام 2003)، مقطوعة "في ذكرى الفنان جواد سليم" 1961، "روندو للكلارنيت والجيتار" (فقدت النوتات في اثناء حرب 2003) وثلاث مقطوعات غنائية للسوبرانو من شعر عبدالوهاب البياتي(2).
واحدة من مقطوعاته
في عام 1971 عزف فريق رباعي ميشيل مارغان في باريس مقطوعته "الرباعي رقم 1" التي ضمت إلى ربرتوار الرباعي للملحنين المعاصرين وعزفت في أثناء جولات الفريق في العالم. إن إحدى الخصائص الرئيسية للمقطوعة هي إن الاتجاهات الموسيقية قد ألغيت وضيّقت وحددت بأشكال ومشاهد موسيقية مستقلة، منفصلة عن بعضها البعض بفترات سكون ذات وظيفة بنيوية تسهم في مواصلة كشف محتوى الموسيقى.
الراحل فريد الله ويردي في نهاية خمسينيات القرن الماضي
في عامي 1993 و 1997 عُزفت المقطوعة ذاتها، و"فانتازيا الكمان" في طوكيو(اليابان) من قبل فريق " رباعي يوسودا" وعازفة الكمان كوميكو إيتو، فضلا عن عزفها في دول عربية كمصر وسوريا ودول إسلامية مثل باكستان، إلى جانب عزفها في سويسرا وغيرها من الدول. وفي الولايات المتحدة كانت هناك 6 حفلات موسيقية شهدت تقديم أعماله ومنها "فانتازيا الكمان المنفرد"، " سويت صغير للبيانو" و "سوناتا الكمان والبيانو".
في دراساته أما بحوثه ودراستها ومقالاته، فمنها "الموسيقى في القرن العشرين"، "السمات الاسلوبية للنغم الاضافي الحر في مواضيع موسيقى الباروك المتعددة الأصوات في الفترة المتأخرة"، "تحليل السيمفونية السادسة لوليام شومان"، "معالجة ألحان الكورال في أعمال الارغن لباخ"، "العوامل الخارجية في التطور التأريخي للأسلوب والشكل الموسيقي"، "نظرية الموسيقى" ( مخطوطة)، "التحليل الموسيقي"( باللغة العربية)، "قواعد الموسيقى" ( باللغة العربية)، "وضع الموسيقى في العراق" (باللغة العربية)، "الفنون والعلم"، "اختلاف الأصناف في الموسيقى" (باللغة العربية)، "الغناء الشعبي في الموسيقى التقليدية في العراق"، "اتجاهات الموسيقى غير الدينية في العراق اليوم: عرض أولي"، "نحو موسيقى عربية عالمية" (بحث في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1969- بالعربية والانجليزية)، "تطور الموسيقى العربية" (بالروسية)، "الموسيقى في العراق" ( بالانجليزية)، "وصف موجز للآلات الموسيقية المستخدمة في الفولكلور والموسيقى التقليدية في العراق"، "المقام العراقي"و "ملاحظات حول فن المقام البغدادي و التقاسيم" التي سبق أن نشرت في موقع "سماعي" الموسيقي.
تأثير الأيديولوجيا في حياته التقى فريد الله ويردي بفتاة روسية (لودميلا) اثناء وجوده في موسكو، فتبادلا الحب واقترنا وعاشت معه، وأحبت العراق والعراقيين وتعلمت العربية: "إقترن فريد الله بي، أنا الفتاة الروسية ميلا ( لودميلا)، خلال وجوده في موسكو، ورزقنا بثلاثة أطفال هم الإبن ليث والإبنتان سوزان ومريم". ولم تزل زوجته المثقفة الفنانة ميلا ( ام ليث ) تهوى هي الأخرى الفنون الموسيقية والفولكلورية والتحف القديمة وتعشق الحياة العراقية وقد وقفت معه في السراء والضراء(3). و"ميلا التي فقدت فريد والتي كلمتها اليوم تلفونياً، تعيش لحظاتها الصعبة. كانت تجهش بالبكاء وقد افتقدت رفيق دربها، بل وإن ذكريات العراق لم تزل راسخة في عروقها منذ ان استقرت فيه، وحتى مغادرتهما فقد قرر مع زوجته أن يغادرا العراق معا قبل سنوات ليغدو أستاذا لآلة (الكمان) في عدد من الجامعات ومنها "جامعة اليرموك" بالأردن. لقد كان الموسيقار فريد الله يعاني من حرب مضادة متعددة الاتجاهات، بسبب توجهاته الآيديولوجية من جهات وأطراف عدة في النظام العراقي، لا سيما إنه لم يكتف بعدم التواصل مع فكر النظام وطريقة عمل مؤسساته الثقافية وحسب، كما فعل كثيرون، بل اختار مواجهتها بالرفض الصريح تارة والموارب تارة أخرى. وتلك الخلفية الفكرية للراحل الكبير أراها شخصياً قد قتلت مؤلفا موسيقيا كبيرا ليس على مستوى بلاده والمنطقة بل على مستوى العالم، وهو لو واصل وجوده الناجح مهنياً في الولايات المتحدة 1964-1968، حين درس وكتب أعمالا موسيقية عزفت في أكثر من حفل، لكان حقق مستوى ليس بعيداً عن مؤلف موسيقي منفي آخر، هو الروسي سترافنسكي الذي وجد في أميركا ملاذاً. لا بل ان صفة "الموسيقي المنفي"، ليست الوحيدة التي تجمعهما، بل حتى الأسلوب الموسيقي، اي "الكلاسيكية الجديدة"، فسترافنسكي (1882-1971) ظل يكتب أعماله ويقدمها في أميركا حتى أواسط خمسنيات القرن الماضي، بينما كان ويردي بعد نحو عقد يكتب موسيقاه في أميركا لتقدم في نيويورك وبوسطن وسط حفاوة واضحة ونجاح لافت. وعوضاً عن تلك الآفاق الأكاديمية والفنية في أميركا التي كانت ستناسب لا موهبته الموسيقية وحسب، بل معرفته العميقة في اللغات والأفكار وعلم النفس (له دراسته الشخصية في علوم الدماغ)، اختار المركب الصعب والطريق الشائك: العودة إلى العراق الذي أحب وأخلص، ليجد نفسه في خضم موجة جديدة من الصراع السياسي الفتاك، الذي لم يتعلم من موجته الأولى حين حكم عليه بالإعدام غيابياً بعد الانقلاب الدموي للبعث والقوميين في شباط/ فبراير 1963. وعلى الرغم من إنزوائه في بغداد، كخيار لتفادي كل تلك المهالك التي تجرّها وجرّتها عليه مواقفه الفكرية وخلافاته الجوهرية مع نظام الحكم، غير إن موجة فتاكة أكبر جاءت حتى على بقايا حياته الشخصية فثمة الحروب، ولاحقا النفي المؤقت (الأردن) والدائم (آيرلندا) حيث أنفاس الراحل الكبير الأخيرة. هو حالم آخر في بلاد الكوابيس الواقعية المميتة.
هوامش (1)حوار نادر مع الراحل فريد الله ويردي قبل 50 عاماً، صحيفة "المدى" البغدادية، 22 أيار/مايو 2011 . (2) "فريد الله ويردي.. رائد الموسيقى الكلاسيكية في وادي الرافدين"، لودميلا الله ويردي / ترجمة: عبد الله حبة، "المدى" ملحق "عراقيون" 15أيار/مايو 2013 (3) د. سيّار الجميل، "رحيل الموسيقار العراقي القدير فريد الله ويردي.. طارت شهرته في الغرب وبقي في الشرق معلم نوتة"، موقع "إيلاف" وموقعه الشخصي 2007.
|