غزلية جعفر الحلي بين "رهاوة" يوسف عمر و"ألمعية" ناظم الغزالي
تاريخ النشر
15/11/2017 06:00 AM
علي عبد الأمير عجام
لا تبدو علاقة الشعر العربي بالمقام العراقي، إلا عنصرا جوهريا في ذلك الشكل الموسيقي- الغنائي الفريد والرفيع، الذي "يمثل الفن الغنائي الخاص بالشفافة الموسيقية الحضرية لمدن العراق"(1)، بل "لا يمكن قراءة المقام دون وجود الشعر، والشعر نوعان شعر عربى فصيح وشعر بالدارجة العراقية. ويستخدم الشعر في نحو 30 مقاما، وهنالك مقامات يقرأ فيها الشعر الشعبي والفصيح معا
وإذا تصح فكرة إن لكل قارئ مقام طريقة، فـ"المقام من هذه الناحية نظام من النبرات والتقلبات الصوتية يجرى أداؤه بروحية معينة"، فإن قليلا من المغنين (القرّاء) يدرك هذه النبرات الفارقة، فيقوم بتقليد النبرات التي سمعها من سلفه، لكن قصيدة غزلية صافية ونادرة في عذوبتها استدعت هذا الفارق في روحية الأداء والتمكن من روحية المقام العراقي، عبر قامتين في هذا الفن الغنائي الفريد، وهما الراحلان يوسف عمر، وناظم الغزالي.
والقصيدة التي مطلعها "ياقامة الرشأ المهفف ميلي ... بظماي منك لموضع التقبيلِ"، وضعها "شاعر يعد من أشهر شعراء العراق في القرن التاسع عشر"(2)، وهو جعفر الحلي (1862-1899)، الذي حاولت دراسات معاصرة تلفيقية هي نوع من موالاة خطاب السلطة الحالية، حصره في حيز أجاد فيه وهو "الرثاء الحسيني ومديح آل البيت"، لكنه يظل مجرد رافد من روافد تجربة ثرة وثقها في ديوان، منحه محققه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، عنوان "سحر بابل وسجع البلابل"(3)، واعتمادا على جهد جامع قصائد الشاعر، شقيقه هاشم الحلي.
في أداء المطرب القدير الأستاذ يوسف عمر، لا تكلف ولا عسر في تناول القصيدة، بل الاسترخاء التام حد "الرهاوة" كما يحلو استخدام جمهور المقام العراقي لهذا الوصف، انطلاقا من عنصرين: صوت بسعة من الدرجات، والخبرة المتحصلة من غناء صار لصاحبها نمط حياة. ولو قدر لنا ان نكون مثل اي دولة مستقرة تعنى بمكونات الهوية الروحية لشعبها عبر إرشيف ثقافي وطني، لحصلنا على غير نموذجين ضعيفين في نقاء التسجيل وصفائه، يغني فيها عمر تلك القصيدة، في الأول وفق مقام "بنجكاه" وفي الثاني بحسب مقام "أوشار".
ناظم الغزالي ويوسف عمر من لقاء صحبة اصدقاء مشتركين أوائل ستينيات القرن الماضي
الحلي والغزالي: أميرا العشق السرمدي
أما في أداء المطرب الوسيم الأثر والطلة، ناظم الغزالي، فنحن حقا أمام تحفة لا تضاهى، فثمة الروحية العالية في نبرات جعلت الغناء يرقى إلى رهافة النص وفي مواضع عدة. خذ مثلا حين يتجلى صاحب "ريحة الورد ولون العنبر"، في غناء أبيات محددة من القصيدة، فهو يشف رقة وشجنا ولهفة بصوته المطواع الأنيق النبرات حين يقارب " رشأ أطل دمي وفي وجناته... وبنانه أثر الدم المطلولِ".
كذا الحال في ألمعية صوت ورقة روحية حين يغني " ياقاتلي باللحظ أول مرةٍ ... اجهز بثانية على المقتولِ"، بطريقة تمزج تبتل العاشق بشكواه ونشيده لهفته، التي تصل حدا لا يضاهى من الرقة حين يغني " أشكو الى عينيك من سقمي بها ... شكوى عليل بالهوى لعليل"، وكأنه أنهض الشاعر الراحل لنجد جعفر الحلي شابا عاشقا ملهوفا كأمير من أمراء العشق السرمدي.
وثمة من يرى من أساطين المقام من القراء والباحثين في طريقة الغزالي، "اختلافا عن أصول المقام العراقي"، لكن فاتهم ان ذلك "الإختلاف" المتمثل بالأداء المفعم بالروحية والمعاصرة، كان تحديثا لفن بدا إلى حين بابعاد مكانية وزمانية شبه ثابتة، فيما جاء الغزالي ليجعله معاصرا كأغنية تصل إلى جمهور كان يتجدد كل حين.
ومع هذه القراءة لغزلية الشاعر الحلي، كما قاربها الراحلان يوسف عمر وناظم الغزالي، لا يمكن إلا الثناء على أداء أبو المقام العراقي، محمد القبانجي، للقصيدة ذاتها، وفيه حضور "الأسطة" المتجلي وبراعة أساليبه.