إذا كان يمكن القول ان هناك ملحنا أكرم وأغنى وأعذب وأصدق من مؤدي ألحانه، وكان مخلصا لوجدان الإنسان في وقت عجيب عاشته بلاده، وأنتج أغنيات بمرتبة الهواجس التي ستلاحق مواطنيه حتى عقود تالية، فان الصائغ الماهر لجواهر نغمية عراقية، الملحن محسن فرحان، لن يكون إلا من تنطبق عليه تلك المواصفات، لجهة الألمعية النغمية التي توافر عليها بالتزامن مع سيرة شخصية احتملت الألم والصبر والمجالدة لاحقا، كي لا تخسر ذاتها حتى وان كانت "غريبة" ودفعت عن تلك الغربة أثمانا قاسية.
و"غربة" محسن فرحان، تكاد تعني حياته بمجملها، فهي بدأت منذ أيام وعيه الأولى، فهو المغرم بالنغم والموسيقى في مدينة متزمتة حيال هذا التعبير الإنساني، فعرف ميوله إلى فنون النغم الرفيع في كربلاء (ولد في الكوت 1947 وأنتقل مع عائلته الى مدينة الإمام الحسين)، القاسية المؤسسة على الحزن الديني، كيانا ومعنى وتجارة وسياسة إن شئت، مثلما أنتهى اليوم، عسى ان يمد الله في عمره، ليس إلى مدينته المتزمتة فحسب، بل البلاد كلها، حين تبدو مكفهرة مستغرقة في ظلام روحي مديد، عماده "التدين" المستغرق في ملاحقة المشاعر النظيفة التي اسمها الموسيقى، مثلما هو مستغرق تماما في تبرير السرقات والاغتصاب والتنكيل والقتل أيضا.
درس اللغة الإنجليزية واختص فيها ودرس الموسيقى التي أحبها منذ صباه (1)، وعبر والده الذي كان يتمتع بعلاقات وطيدة ببعض المثقفين والفنانين في كربلاء، عرف الطريق الى الفنان لطيف رؤوف المعملجي (كان يقود فرقة المحافظة الموسيقية)، الذي وجد في محسن فرحان الموهبة الفنية الكبيرة، فضمه الى "كورال الفرقة"، إلا ان فرحان لم يجد نفسه في الإنشاد والغناء، بل كان طموحه أكبر، فحرص على تعلم العزف على آلة العود والأوكورديون، ولم يكتف بذلك، بل أصبح همّه جمع كل الكتب التي تتعلق بالموسيقي والغناء حتى أتقن التدوين الموسيقي (النوتة) معتمداً على ذكائه وفطنته، فدخل "معهد الفنون الجميلة "في بغداد، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته، لكن صرامة الوضع الاجتماعي، وتحديدا نظرته القاصرة للفنون، والموسيقى على وجه الخصوص، حالت دون إكمال مشوار في العزف على العود، بدا يؤهله لمراحل متقدمة، وبشهادة أساتذة كبار أمثال الموسيقارين سلمان شكر وروحي الخماش، ليجد ضالته في التلحين، وعبره كتب في صفحات الوجدان العراقي ألحانا فريدة في أغنيات مثل: "غريبة الروح"، " عيني عيني"، "البارحة"، "يكولون غني بفرح"، وغيرها.
مشواره في مقاربة الألحان كان بدأ في النشاط المدرسي، ومن خلاله وضع العشرات من الأعمال و"الأوبريتات" الغنائية، وهو ما طوّر موهبته التلحينية حد نضج الأدوات الفنية، ليكون العام 1973 بشارة تقديمه ملحنا بارعا، عبر أغنية "غريبة الروح" التي جاءت جديدة في شكلها الموسيقي، وإن بدت متوافقة مع سيرة من الشجن الغنائي العراقي، زاده دفقا إنسانيا صوت المطرب حسين نعمة، وعبرها امتلك مساحة خاصة في ناصية القلوب والوجدان. ومساره الواعد الذي بدأ مع صوت الشجن الفراتي الأنيق ممثلا بصوت حسين نعمة، واصله مع المطرب ذاته عبر لحن "ما بيه أعوفن هلي" الذي غرف من الموروث النغمي، و"كوم إنثر الهيل"، التي كانت واحدة من ملامح مرحلة ثقافية وإجتماعية وفكرية نادرة في التاريخ العراقي المعاصر، فهي أغنية تفاؤل أخرى واكبت التفاؤل الذي باتت تسجله البلاد في مسيرتها، عبر عقد السبعينيات.
وإذا كان لحناه للمطرب سعدون جابر "عيني عيني"، "لتصدك اليحجون"، كانا يتراوحان بين تقليدية نغمية ووجدانية، فان لحنه البارع ممثلا بأغنية "البارحة"، للمطرب ذاته، شكل علامة فارقة في غناء جابر، وكانت الأغنية ضمن شريط أكاد أجزم انه الأنضج فنيا وأدائيا للمطرب، وحمل أيضا لحن اللامع كوكب حمزة: "هوى الناس"، وجاء الشريط بشجنه وتلويحته الحزينة متناسبا تماما مع فترة صدوره (نهاية السبعينيات تقريبا) ليكون بذلك إشارة لعقد فريد، لا في حياة البلاد وحسب، بل في الأغنية العراقية المعاصرة أيضا.
كانت هناك مساحة خاصة في الغناء العاطفي العراقي الرقيق، بدأت بقوة وأناقة مع ناظم الغزالي وتواصلت عبر فؤاد سالم، وهي تكتمل بوجود المطرب قحطان العطار، على الرغم من الفترة الحقيقية التي شهدت احتراف الفنان الأخير للغناء لا تتجاوز عقدا من السنوات، وألحان محسن فرحان، جعلت الأثر الذي تركه العطار في مسيرة الغناء العراقي المعاصر، أثرا ليس من السهولة تجاوزه أو نسيانه، فلو أخذنا ألحان "لو غيمت دنياي"، "شكول عليك"، "زمان" و"يكولون غني بفرح"، لعرفنا المدى التعبيري والوجداني الذي وصلت إليه لا طريقة أداء العطار الأنيقة والمحسوبة، ولا مستوى النضج التعبيري في ألحان فرحان وحسب، بل مسيرة الأغنية العراقية المعاصرة، وفي سبعينيات القرن الماضي على وجه التحديد.
ومثلما يسجل لألحان محسن فرحان جوانب ألمعيتها وفرادتها، يسجل عليها أيضا، إستسهال تقديمها لأصوات تستغرق بأداء شعبي سإذج، كما في أغنية "يا هوى الهاب" بصوت حميد منصور، وبعض ما غناه رضا الخياط وصباح السهل، وقد يبدو هذا مبررا ضمن "لعبة توازنات وعلاقات"، كانت تتحكم بالإنتاج الغنائي العراقي في تلك الفترة والى عقد آخر تلاها، فثمة المؤسسة الحكومية التي لا تتيح عبر نسق إدارتها والطابع الشخصي الذي يضيفه من يتولاها، وبذلك تخف ألحان كان لها ان تتوهج لو أدّتها أصوات مميزة، كما هي الحال في ألحان فناننا الرصين في نتاجه ومعرفته التي أراد لها ان تتواصل، فسافر الى القاهرة العام 1976 – 1978 حين إنضم الى "معهد الموسيقى العربية - قسم الدراسات الحرة"، ليتمكن عبر الدراسة والخبرة المتحصلة من لقاءات ونقاشات مع كبار ملحني مصر، من إثراء تجربته الفنية الشخصية التي بدت تماما مختلفة عن مثيلاتها وان كانت تمضي في سياق واحد هو اللحنية العراقية المعاصرة والموروث الغنائي الرصين.
الغربة تتواصل لتقارب.... اليأس
وغربة صاحب "غريبة الروح" تواصلت، حين بدا شبه متوار عن الأنظار كي ينجو من ماكينة الغناء التعبوي والتحريضي خلال الحرب مع إيران، حين فضّل خيار الخدمة في القوات المسلحة كجندي احتياط، وخطر الموت في أكثر من جبهة قتال ساخنة (2)، على الاندراج في مهمة الدعاية والتعبئة الحربية عبر الغناء والموسيقي، على الرغم مما كانت ستوفره عليه من "امتيازات" السلامة والعائد المادي والاعتباري لدى السلطة وأجهزتها الثقافية والسياسية.
مثلما تواصلت تلك الغربة في العقد التالي، الذي شهد تراجعا ملحوظا في مستويات الأغنية الفنية فضلا عن إنحدار في الذائقة أشاعته مؤسسة "إذاعة وتلفزيون الشباب"، لكنه حاول إنهائها في عدد من الأعمال، منها لحنه لقصيدة "هل تسمين الذي كان غراماً"، للراحل بدر شاكر السياب، وغناها سعدون جابر ضمن مشروعه الخاص بمسلسل "السياب"، بينما كان قد وصل مرحلة صعبة ما بعد العام 2003، حيث الصخب والفوضى في كل جوانب الحياة في بلاده، فضلا عن صعود قيم التشدد والظلام حيال التعبير الجمالي في الفنون، ومن بينها الموسيقى، وسيادة نسق التردي في الإنتاج الغنائي والذائقة أيضا، حتى مع محاولات يائسة أبداها الملحن الكبير لاستعادة مرحلة التعبير الناضج في الأغنية العراقية، عبر عمله مستشاراً فنياً لـ"اتحاد الموسيقيين العراقيين"، وبرامج تلفزيونية تعنى بالغناء ومسابقاته مثل "عراق ستار"، و"على خطى النجوم" وبرنامج "الأغاني" المهم الذي قدم قراءة فنية- تاريخية للغناء العراقي على امتداد القرن الماضي.
ان بعض المحاولات المتأخرة في التلحين، أكان لأصوات جديدة ضمن مشروع "بغداد عاصمة الثقافة العربية "، أم عبر أغنيات للأطفال، في العام 2013، لم تمنع الرجل من التعبير بحزن يقارب اليأس حين وصف راهن الأغنية العراقية بقوله ان "تسعين بالمئة من الأغنية الحالية، هي تافهة وساذجة كلاما ولحنا وأداء وتسجيلا، ولكن في الوقت نفسه هناك أغان جميلة نسبتها 10 بالمئة ضائعة بين تلك الأغاني السيئة".
وفي تلك النبرة من الحزن، لا يعبّر محسن فرحان إلا عن سياق إجتماعي وسياسي وفكري عنيف، إنعكس في نتاج موسيقي وغنائي، فهو يقرّ ان "الأجواء المتصارعة والمتلاطمة سياسيا وفكريا وإقتصاديا التي مر ويمر بها العراق، أثّرت بشكل كبير على الفن بشكل عام، والأغاني الحالية هي نتاج هذه البيئة الحالية، لان الشباب الذي يغني الآن هم أبناء هذه البيئة الإجتماعية، والذين فتحوا أعينهم على صراعات من كافة الجوانب، وهذا كله ينعكس سلبا على الغناء والموسيقى والفن بشكل عام فضلا عن الأدب والشعر لانهما مرآة حقيقية لما يحدث في المجتمع، ولهذا نرى ان الأغنية السبعينية تميزت لحنا وشعرا وأداء لان البلد كان مستقرا من جميع النواحي وأهمها الإستقرار النفسي" (3).
هوامش:
(1) رضا المحمداوي، صحيفة "الزمان"، 2014
(2) ضياء السيد كامل، موقع "النور" 2013 www.alnoor.se.